بسم الله الرحمن الرحيم

نؤمن أن الكمال المطلق الذي لا نقص فيه لله وحده فله الحمد أي الثناء والشكر كله له ، فكل ما دونه مذموم أو مكفور من وجه أو آخر.
هو الكامل في صفاته الذاتية الفعلية والمعنوية والخبرية المتصف بها أزلا وأبدا المعطي الكمال لغيره والأولى بالكمال من خلقه ، ليس كمثله شيء ، لا ند له لا كفو له ولا سمي له، هو أعلم بنفسه من غيره فلا يوصف إلا بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان نبيه بلا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل.
الأدلة العقلية النقلية لإثبات الكمال لله :
قال تعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
وقال تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
وقال تعالى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)

أثبتنا سابقا أن الله هو الرب الواحد الحي الخالق المالك الأول الغني القيوم القائم بنفسه الذي لا يستمد لقيامه من غيره .... وأن كل ما دون الله مخلوق مربوب فقير محتاج الى ربه .. فان الموجود إما قديم وإما حادث، والحادث لابد له من قديم، فيلزم ثبوت القديم على التقديرين. والموجود إما غني وإما فقير، والفقير لابد له من الغنى، فلزم وجود الغنى على التقديرين.
والموجود إما قيوم بنفسه وإما غير قيوم، وغير القيوم لابد له من القيوم، فلزم ثبوت القيوم على التقديرين، والموجود إما مخلوق وإما غير مخلوق، والمخلوق لابد له من خالق غير مخلوق، فلزم ثبوت الخالق غير المخلوق على التقديرين ونظائر ذلك متعددة.

والله سبحانه قد خلق في الإنسان صفات كمال ولكنها محدودة ومقرونة بالفقر والحاجة كصفة الحياة هي صفة كمال ولكنها محدودة بالموت ومقرونة بالإفتقار الى من يديمه عليها وكصفة العلم هي صفة كمال ولكنها محدودة بالجهل ببعض العلوم ومقرونة بالإفتقار الى معلم وكصفة القدرة هي صفة كمال ولكنها محدودة بالعجز ببعض الامور ومقرونة بالإفتقار الى مقدر وممكّن ... فإذا كانت هذه الصفات قد خلقها الله في الإنسان وهي صفات كمال فالله أحق بها لأن الذي جعل غيره كاملا هو أحق بالكمال منه، فالذي جعل غيره قادرًا أولى بالقدرة، والذي علم غيره أولى بالعلم، والذي أحيا غيره أولى بالحياة، والفلاسفة توافق على هذا ، ويقولون: كل كمال للمعلول فهو من آثار العلة، والعلة أولى به وإذا ثبت ذلك له، فما جاز له من ذلك الكمال، فإنه واجب له لا يتوقف على غيره، فإنه لو توقف على غيره لم يكن موجودًا له إلا بذلك الغير، وذلك الغير إن كان مخلوقًا له لزم الدور القبلي الممتنع، فإن ما في ذلك الغير من الأمور الوجودية فهي منه ، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين فاعلاً للآخر، وهذا هو الدور القبلي فإن الشىء يمتنع أن يكون فاعلاً لنفسه ، فلأن يمتنع أن يكون فاعلاً لفاعله بطريق الأولى والأحرى.

وكذلك يمتنع أن يكون كل من الشيئين فاعلاً لما به يصير الآخر فاعلاً، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين معطيًا للآخر كماله، فإن معطي الكمال أحق بالكمال، فيلزم أن يكون كل منهما أكمل من الآخر، وهذا ممتنع لذاته، فإن كون هذا أكمل يقتضي أن هذا أفضل من هذا، وهذا أفضل من هذا، وفضل أحدهما يمنع مساواة الآخر له، فلأن يمنع كون الآخر أفضل بطريق الأولى.

وأيضا، فلو كان كماله موقوفًا على ذلك الغير، للزم أن يكون كماله موقوفًاعلى فعله لذلك الغير، وعلى معاونة ذلك الغير في كماله، ومعاونة ذلك الغير في كماله موقوف عليه؛ إذ فعل ذلك الغير، وأفعاله موقوفة على فعل المبدع لا تفتقر إلى غيره، فيلزم ألا يكون كماله موقوفًا على غيره.
فإذا قيل: كماله موقوفًا على مخلوقه، لزم ألا يتوقف على مخلوقه، وما كان ثبوته مستلزمًا لعدمه كان باطلاً من نفسه.
وأيضًا، فذلك الغير كل كمال له فمنه وهو أحق بالكمال منه، ولو قيل يتوقف كماله عليه لم يكن متوقفًا إلا على ما هو من نفسه، وذلك متوقف عليه لا على غيره.
وإن قيل: ذلك الغير ليس مخلوقًا بل واجبًا آخر قديمًا بنفسه.
فيقال: إن كان أحد هذين هو المعطي دون العكس، فهو الرب، والآخر عبده.
وإن قيل: بل كل منهما يعطي للآخر الكمال، لزم الدور في التأثير وهو باطل، وهو من الدور القبلي، لا من الدور المعي الاقتراني فلا يكون هذا كاملا حتى يجعله الآخر كاملاً، والآخر لا يجعله كاملاً حتى يكون في نفسه كاملاً، لأن جاعل الكامل كاملاً أحق بالكمال ولا يكون الآخر كاملاً حتى يجعله كاملاً، فلا يكون واحدًا منهما كاملاً بالضرورة، فإنه لو قيل: لا يكون كاملاً حتى يجعل نفسه كاملاً، ولا يجعل نفسه كاملاً حتى يكون كاملاً لكان ممتنعا، فكيف إذا قيل: حتى يجعل ما يجعله كاملاً كاملاً ؟ !وإن قيل: كل واحد له آخر يكمله إلى غير نهاية لزم التسلسل في المؤثرات، وهو باطل بالضرورة واتفاق العقلاء.
فإن تقدير مؤثرات لا تتناهي: ليس فيها مؤثر بنفسه لا يقتضي وجود شىء منها، ولا وجود جميعها، ولا وجود اجتماعها، والمبدع للموجودات لابد أن يكون موجودًا بالضرورة.
فلو قدر أن هذا كامل فكماله ليس من نفسه بل من آخر، وهلم جرا، للزم ألا يكون لشىء من هذه الأمور كمال، ولو قدر أن الأول كامل لزم الجمع بين النقيضين، وإذا كان كماله بنفسه لا يتوقف على غيره، كان الكمال له واجبًا بنفسه، وامتنع تخلف شىء من الكمال الممكن عنه، بل ما جاز له من الكمال وجب له، كما أقر بذلك الجمهور من أهل الفقه والحديث، والتصوف والكلام والفلسفة وغيرهم، بل هذا ثابت في مفعولاته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وقد بين الله سبحانه أنه أحق بالكمال من غيره، وأن غيره لا يساويه في الكمال، في مثل قوله تعالى: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17)
وقد بين أن الخلق صفة كمال، وأن الذي يخلق أفضل من الذي لا يخلق، وأن من عَدَل هذا بهذا فقد ظلم.

وقال تعالى: ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (75)

فبين أن كونه مملوكًا عاجزًا صفة نقص، وأن القدرة والملك والإحسان صفة كمال، وأنه ليس هذا مثل هذا، وهذا لله، وذاك لما يعبد من دونه.

وقال تعالى: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(76)

وهذا مثل آخر.

فالأول مثل العاجز عن الكلام، وعن الفعل الذي لا يقدر على شىء. والآخر المتكلم الآمر بالعدل الذي هو على صراط مستقيم، فهو عادل في أمره مستقيم في فعله.فبين أن التفضيل بالكلام المتضمن للعدل والعمل المستقيم، فإن مجرد الكلام والعمل قد يكون محمودًا، وقد يكون مذمومًا، فالمحمود هو الذي يستحق صاحبه الحمد، فلا يستوى هذا والعاجز عن الكلام والفعل.

وقال تعالى: ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(28) .
يقول تعالى: إذا كنتم أنتم لا ترضون بأن المملوك يشارك مالكه لما في ذلك من النقص والظلم، فكيف ترضون ذلك لي، وأنا أحق بالكمال والغنى منكم؟
وهذا يبين أنه تعالى أحق بكل كمال من كل أحد، وهذا كقوله: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62).
حيث كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، وهم يكرهون أن يكون لأحدهم بنت فيعدون هذا نقصًا وعيبًا.والرب تعالى أحق بتنزيهه عن كل عيب ونقص منكم، فإن له المثل الأعلى، فكل كمال ثبت للمخلوق، فالخالق أحق بثبوته منه إذا كان مجردًا عن النقص، وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص وعيب، فالخالق أولى بتنزيهه عنه.

وقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (9)وهذا يبين أن العالم أكمل ممن لا يعلم، وقال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21).
فبين أن البصير أكمل، والنور أكمل، والظل أكمل، وحينئذ فالمتصف به أولى {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ}
وقال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ(148)
فدل ذلك على أن عدم التكلم والهداية نقص، وأن الذي يتكلم ويهدي أكمل ممن لا يتكلم ولا يهدي، والرب أحق بالكمال.

وقال تعالى: قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(35).
فبين سبحانه بما هو مستقر في الفطر أن الذي يهدي إلى الحق أحق بالاتباع ممن لا يهتدي إلا أن يهديه غيره، فلزم أن يكون الهادي بنفسه هو الكامل، دون الذي لا يهتدي إلا بغيره.وإذا كان لابد من وجود الهادي لغير المهتدي بنفسه فهو الأكمل، وقال تعالى في الآية الأخرى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) فدل على أن الذي يرجع إليه القول، ويملك الضر والنفع، أكمل منه.وقال إبراهيم لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا(42) .

فدل على أن السميع البصير الغني أكمل، وأن المعبود يجب أن يكون كذلك.ومثل هذا في القرآن متعدد من وصف الأصنام بسلب صفات الكمال، كعدم التكلم والفعل، وعدم الحياة، ونحو ذلك مما يبين أن المتصف بذلك منتقص معيب كسائر الجمادات، وإن هذه الصفات لا تسلب إلا عن ناقص معيب.

وأما رب الخلق الذي هو أكمل من كل موجود فهو أحق الموجودات بصفات الكمال، وأنه لا يستوى المتصف بصفات الكمال والذي لا يتصف بها، وهو يذكر أن الجمادات في العادة لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات.فمن جعل الواجب الوجود لا يقبل الاتصاف، فقد جعله من جنس الأصنام الجامدة، التي عابها الله تعالى وعاب عابديها.

والله سبحانه لم يذكر هذه النصوص لمجرد تقرير صفات الكمال له، بل ذكرها لبيان أنه المستحق للعبادة دون ما سواه، فأفاد الأصلين اللذين بهما يتم التوحيد وهما: إثبات صفات الكمال، ردًا على أهل التعطيل، وبيان أنه المستحق للعبادة لا إله إلا هو، ردًا على المشركين ...

(مقتطفات من كتاب الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال لشيخ الاسلام ابن تيمية)