أورد هذه القصة الجميلة الأستاذ الشيخ : ياسر المسدي حفظه الله في كتابه هدية للعروسين والذي سيصدر قريباً بعون الله تعالى .
وقد قدم إلى الموقع هذا الكتاب لنختار منه بعض الموضوعات التي تخص الفتاة المسلمة لتعم الفائدة .
قصة زواج موفق
ومن أجمل ما قرأت عن قصة زواج موفق مبارك ما كتبه العلامة الفاضل الشيخ الأديب علي الطنطاوي رحمه الله تعالى، وحفاظاً على عبارات الشيخ ورونقها أنقلها كما جاءت:
«قال لي صديق، معروف بجمود الفكر، وعبادة العادة، والذُّعر من كل خروج عليها أو تجديد فيها، قال: أتكتبُ عن زوجك في الرسالة تقول: إنها أعقل النساء وأفضلهنَّ؟ هل سمعت أنَّ أحداً كتب عن زوجِهِ([1])؟ إنَّ العرب كانوا يتحاشون التصريح بذكرها، فيُكَنُّون عنها بالشاة، أو النَّعجة استحياءً وتعفُّفاً، حتى لقد منع الحياء جريراً من رثاء زوجته صراحة، وزيارة قبرها جهاراً، ومالك بن الريب لما عَدَّ من يبكي عليه من النساء قال :
فمنهنَّ أُمي وابنتاها وخالتي وباكية أخرى تهيج البواكيا
فلم يقلْ: وامرأتي... وكذلك العهد بآبائنا ومشايخ([2]) أهلنا، لم يكن يقول أحد منهم: زوجتي ، بل كان يقول: أهل البيت، وأم الأولاد، والجماعة ، والأسرة، وأمثال هذه الكنايات.
أفترغب عن هذا كلَّه، وتدع ما يعرف الناس وتأتي ما ينكرون؟
قلتُ: نعم.
فكاد يصعق من دهشته مني ، وقال:أتقول نعم بعد هذا كله؟
قلت: نعم! مرة ثانية.
أكتب عن زوجي فأين مكان العيب في ذلك؟ ولماذا يكتب المحبُّ عن الحبيبة وهي عشيقته بالحرام، ولا يكتب الزوج عن المرأة وهي حبيبته بالحلال؟ ولماذا لا أذكر الحق من مزاياها لأُرَغِّبَ الناس في الزواج، والعاشق يصفُ الباطل من محاسن العشيقة فيُحبِّب المعصية إلى الناس؟ إن الناس يقرؤون كل يوم المقالات، والفصول الطوال في مآسي الزواج وشروره، فَلِمَ لا يقرؤون مقالةً واحدة في نعمه وخيراته؟
ولست بعد أكتب عن زوجي وحدها: ولكني كما كان هوجو يقول:«إني إذ أصف عواطفي أباً أصف عواطف جميع الآباء»، لم أسمع زوجاً يقول: إنه مستريح سعيد، وإن كان في حقيقته سعيداً مستريحاً، لأنَّ الإنسان خُلق كفوراً، لا يُدرك حقائق النِّعم إلا بعد زوالها، ولأنه رُكِّبَ من الطمع، فلا يزال كلما أُوتي نعمة يطمع في أكثر منها، فلا يقنع بها ولا يعرف لذَّتها، لذلك يشكو الأزواج أبداً نساءهم ، ولا يشكر أحدهم المرأة إلا إذا ماتت، وانقطع حبله منها وأمله فيها، هناك يذكر حسناتها، ويعرف فضائلها، أما أنا فإني أقول من الآن ـ تحدُّثاً بنعم الله وإقراراً بفضله ـ :إني سعيد في زواجي، وإني مستريح، وقد أعانني على هذه السعادة أمور يقدر عليها كل راغب في الزواج، طالب للسعادة فيه، فلينتفع بتجاربي مَنْ لم يُجرِّب مثلها، وليسمع وصَفَ الطريق من سالكه مَنْ لم يَسْلك بعد هذا الطريق.
أولها: إني لم أخطب من قوم لا أعرفهم ، ولم أتزوَّج من ناس لا صِلةَ بيني وبينهم، فينكشف لي بالمخالطة خلاف ما سمعتُ عنهم، وأعرف من سوء دَخيلتهم ما كان يسْتره حُسْنُ ظاهرهم، وإنما تزوَّجت من أقرباء عَرَفتهم وعَرَفوني، واطلَّعت على حياتهم في بيتهم واطَّلعوا على حياتي في بيتي، إذ رُبَّ رجل يشهد له الناس بأنه أفكه الناس، وأنه زينة المجالس ونزهة المجامع، وهو في بيته أثقل الثقلاء، ورُبَّ سمح هو في أهله سمج، وكريم هو في أسرته بخيل يغترُّ الناس بحلاوة مظهره فيتجرَّعون مرارة مَخْبَرَه.
تزوَّجت بنتاً أبوها ابن عمِّ أمي لحَّاً([3])، وهو الأستاذ صلاح الدين الخطيب الذي كان يوماًَ أستاذ القضاء السوري، وأمها بنت المحدِّث الأكبر عالم الشام بالإجماع الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله تعالى ، فهي عريقة الأبوين ، موصولة النسب من الجهتين.
والثاني: أني اخترتها من طبقة مثل طبقتنا، فأبوها كان مع أبي في محكمة النقض، وهو قاض، وأنا قاض، وأسلوبُ معيشته قريبلإ من أسلوب معيشتنا، وهذا هو الركن الوثيق في صَرْح السعادة الزوجيَّة ومن أجله شرط فقهاء الحنفية وهم فلاسفة الشرع الإسلامي: الكفاءة بين الزوجين.
والثالث: أني انتقيتها متعلِّمة تعليماً عادياً، شيئاً تستطيع به أن تقرأ وتكتب، وتمتاز من العاميات الجاهلات، وقد استطاعت الآن بعد ثلاثة عشر عاماً في صحبتي أن تكون على درجة من الفهم والإدراك، وتذوُّق ما تقرأ من الكتب والمجلات ، لا تبلغها المتعلِّمات وأنا أعرفهنَّ، وكنت إلى ما قبل سنتين أُلقي دروساً في مدارس البنات على طالبات هنَّ على أبواب البكالوريا ، فلا أجدهنَّ أفهم منها، وإنْ كُنَّ أحفظ لمسائل العلوم، يحفظن منها ما لم تسمع هي باسمه. ولست أُنَفِّرُ الرجال من التزوُّج بالمتعلمات، ولكني أقرر ـ مع الأسف ـ أنَّ هذا التعليم الفاسد بمناهجه وأوضاعه، يُسيء على الغالب إلى أخلاق الفتاة وطباعها، ويأخذ منها الكثير من مزاياها وفضائلها، ولا يعطيها إلا قشوراً من العلم لا تنفعها في حياتها ولا تفيدها زوجاً ولا أماً.
والمرأة مهما بلغت لا تأمل من دهرها أكثر من أن تكون زوجة سعيدة، وأُمَّاً .
والرابع: أني لم أبتغ الجمال وأجعله هو الشرط اللازم الكافي ، كما يقول علماء الرياضيات، لعلمي أنَّ الجمال ظلٌّ زائل لا يذهب جمال الجميلة ، ولكن يذهب شعورك به، وانتباهك إليه، لذلك نرى من الأزواج من يترك امرأته الحسناء، ويلحق من لسن على حظ من الجمال، ومن هنا صحَّت في شريعة إبليس قاعدة الفرزدق وهو من كبار أئمة الفسوق، حين قال لزوجته النوار في القصة المشهورة!: ما أطيبك حراماً وأبغضك حلالاً.
والخامس: أنَّ صلتي بأهل المرأةلم يُجاوز إلى الآن بعد ثُمْنِ قرن من الزمان الصلة الرسمية: الود والاحترام المتبادّل وزيارة الغبِّ، ولم أجد من أهلها ما يجد الأزواج من الأحماء من التدخُّل في شؤونهم وفرض الرأي عليهم ، ولقد كنا نرضى ونسخط كما يرضى كلُّ زوجين ويسخطان، فما تدخَّل أحد منهم يوماً في رضانا ولا سخطنا
ولقد نظرت إلى اليوم في أكثر من عشرين ألف قضيةِ خلافٍ زَوْجيٍّ، وصارت لي خبرة أستطيع أن أؤكِّد القول معها بأنه لو تُرِكَ الزوجان المُخْتلفان ولم يدخل بينهما أحد من الأهل ولا من أولاد الحلال، لانتهت بالمصالحة ثلاثة أرباع قضايا الزواج.
السادس: أننا لم نجعل بداية أيامنا عسلاً، كما يصنع أكثر الأزواج، ثم يكون باقي العمر حَنْظلاً مُرَّاً وسماً زعافاً، بل أريتُها من أول يوم أسوأ ما عندي، حتى إذا قبلتْ مُضْطرة به، وصبرتْ محتسبة عليه، عُدتُ أريها من حُسْن خُلقي ، فصرنا كلما زادت حياتنا الزوجية يوماً زادت سعادتنا قيراطاً .
والسابع: أنها لم تُدخل جهازاً، وقد اشترطت هذا، لأني رأيت أنَّ الجهاز من أوسع أبواب الخلاف بين الأزواج، فإما أن يستعمله الرجل ويستأثر به فيذوب قلبها خوفاً عليه، أو أن يسرقه ويخفيه، أو أن تأخذه بحجز احتياطي في دعوى صورية فتثير بذلك الرجل .
والثامن: أني تركت ما لقيصر لقيصر، فلم أدخل في شؤونها من ترتيب الدار وتربية الأولاد، وتركتْ هي لي ما هو لي، من الإشراف والتوجيه، وكثيراً ما يكون سبب الخلاف لبس المرأة عمامة الزوج وأخذها مكانه. أو لبسه هو صدار المرأة ومشاركتها الرأي في طريقة كنس الدار، وأسلوب تقطيع الباذنجان، ونمط تفصيل الثوب.
والتاسع: أني لا أكتمها أمراً ولا تكتمني ، ولا أكذب عليها ولا تكذبني، أُخبرها بحقيقة وَضْعي المالي، وآخذُها إلى كلِّ مكان أذهب إليه أو أُخبرها به، وتخبرني بكل مكان تذهب هي إليه، وتعوَّد أولادنا الصدق والصراحة، واستنكار الكذب والاشمئزاز منه، ولست والله أطلب من الإخلاص والعقل والتدبير أكثر مما أجده عندها، فهي من النساء الشرقيات اللائي يعشْن للبيت لا لأنفسهنَّ، للرجل والأولاد، تجوع لنأكل نحن، وتسهر لننام، وتتعب لنستريح، وتفنى لنبقى، هي أول أهل الدار قياماً، وآخرهم نوماً، لا تني تُنظِّف، وتخيط، وتسعى وتدبِّر، هَمُّهَا إراحتي وإسعادي.
إنْ كنتُ أكتبُ أو كنتُ نائماً أسكتت الأولاد، وسَكَّنَتْ الدار، وأبعَدَتْ عني كل مُنَغِّص أو مُزْعج، تحبُّ مَنْ أُحبُّ، وتُعادي مَنْ أُعادي، وإن كان حرص النساء على إرضاء الناس فقد كان حرصها على إرضائي ، وإن كان مُنَاهُنَّ حليةً أو كسوةً فإن أكبر مناها أن تكون لنا دار نملكها نستغني بها عن بيوت الكراء.
تحبُّ أهلي، ولا تفتأ تنقل إليَّ كُلَّ خير عنهم، إن قَصَّرتُ في بِرِّ أحد منهم دفعتني، وإنْ نَسيتُ ذكرتني، حتى أني لأشتهي يوماً أن يكون بينها وبين أختي خلاف كالذي يكون في بيوت الناس، أتسلَّى به، فلا أجد إلا الودَّ والحبَّ، والإخلاص من الثنتين، والوفاء من الجانبين!!
وليس معنى هذا أننا لا تختلف ولا نتخاصم فما يخلو بيت من أمثال هذا، ولو خلا بيت منه لخلا أفضل البيوت على الإطلاق، بيت محمد بن عبد الله ^، ولكن سرعان ما نصطلح ونعود إلى الوئام والسلام، وهي ككل امرأة عربية مسلمة. لا تعرف في دنياها إلا زوجها وبيتها ، والتي يزهد بعض الشباب فيها، فيذهبون إلى أوربة أو أميركة: ليجيئوا بالعلم فلا يجيئون إلا بورقة في اليد، وامرأة تحت الإبط، امرأة يحملونها يقطعون بها نصف محيط الأرض، أو ثلثه أو ربعه، ثم لا يكون لها من الجمال، ولا من الشرف، ولا من الإخلاص ما يجعلها تصلح خادمة للمرأة الشرقيَّة، ولكنه فسادُ الأذواق، وفَقْد العقول، واسْتشعار الصَّغار، وتقليد الضعيف للقوي، يحسب أحدهم أنه إن تزوَّج من أمريكا، أو أي امرأة عاملة في شباك السينما، أو في مكتب الفندق، فقد صاهر طرمان، وملك ناطحات السحاب، وصارت له القنبلة الذرية، ونقش اسمه على تمثال الحرية!!
إنَّ نساءنا خير نساء الأرض ، وأوفاهنَّ لزوج، وأحناهنَّ على ولد، وأشرفهنَّ نفساً، وأطهرهنَّ ذيلاً، وأكثرهنَّ طاعة وامتثالاً وقبولاً، لكلِّ نصحٍ نافع وتوجيه سديد.
وإني ما ذكرتُ بعض الحق من مزايا زوجتي، إلا لأضرب المثل من نفسي على السعادة التي يلقاها زوج المرأة العربية ـ وكدت أقول الشامية ـ المسلمة، لعلَّ الله يلهم أحداً من العزَّاب القراء على الزواج، فيكون الله قد هدى بي، بعد أن هداني([4]).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
([1])الزوجة من ألفاظ الفقهاء، والفصيح فيها : الزوج بلا هاء.
([2])هي مشايخ بالياء لا مشائخ كما يكتب بعض المتعالمين.
([3])قولي: (هو ابن عمي لحَّاً) كقول العامة هو ابن عمي (لزم).
([4])كتاب من حديث النفس ص205، بعنوان زوجتي.
منقول