بسم الله أبدأ في ذكر بعض الموضوعات والتحريرات الهامة
التي وردت في كتابي حادثة تعرض النبي للسحر
والغرض من وراء ذلك هو إظهار بعض الفوائد التي قد لا تظهر بسبب خصوصية عنوان الكتاب
ومناقشة بعض الإشكالات والأفكار الواردة فيه




(ص: 33)
1-5- مسألة: إخراج البخاري حديث السحر بإسناد واحد مرتين
أخرج البخاري الحديث من طريق عيسى بن يونس مرة في باب صفة إبليس وجنوده
وأخرى في باب السحر، بإسناد واحد وبلفظين مختلفين.
قال ابن حجر: "وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أن يخرج الحديث تاما بإسناد واحد بلفظين"([1]).
(ص: 34)
قلت: أخرجه في باب صفة إبليس وجنوده عن عيسى بن يونس موصولا، والليث بن سعد معلقا
والظاهر أن اللفظ الذي أورده هو لفظ الليث، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
- وضوح السياق فقد قال: "حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا عيسى، عن هشام، عن أبيه
عن عائشة رضي الله عنها
قالت: سحر النبي ، وقال الليث: كتب إلي هشام أنه سمعه ووعاه عن أبيه
عن عائشة قالت:
سحر النبي حتى كان يخيل إليه.."([2]).
- جاء في الحديث (في مشط ومشاقة) ولفظ مشاقة انفرد به الليث وابن عيينة دون غيرهما من الرواة
كما ذكر البخاري في باب السحر([3]).
- لفظ عيسى بن يونس في باب السحر مخالف لما يظن أنه حديثه في باب صفة إبليس وجنوده
وموافق للمنقول عنه خارج الصحيح.
- لفظ الليث المعلق موافق للمنقول عنه خارج الصحيح.
- ما عرف عن البخاري أنه إذا تحول من إسناد ساق المتن على لفظ الثاني([4]).
وقد أدرك أحمد السلوم([5]) هذه الحقيقة، لكنه أخطأ في الاستدلال بكلام ابن حجر السابق الذكر
فابن حجر يقول أن البخاري أخرج حديث عيسى بن يونس تاما بإسناد واحد بلفظين
وذكر شيئا من الاختلاف بين النصين، والسلوم يعتقد أن البخاري أورد حديث يونس مختصرا مقتصرا على قوله: (سحر النبي ).
فالاختلاف عند السلوم مقتصر على استبدال لفظ الرسول بالنبي
وقد علل ذلك بأن البخاري يروي الحديث بالمعنى ولذلك عد تصرف البخاري في الحديث السابق من عجائبه
قال: "ومن عجائبه أن روى حديثا بإسناد واحد في موضعين بلفظين مختلفين"([6]).
(ص: 35)
قلت: هذا المثال لا يصلح للدلالة على رواية البخاري بالمعنى، وهو أقرب إلى الاختصار أو إلى تسمية الأحاديث كحديث الجارية وحديث جبريل ونحوه، وإن كان قصد البخاري منه الرواية فالنسبة إلى الخطأ أولى من نسبته إلى الرواية بالمعنى، كما أن استبدال النبي بالرسول لا يقاس عليه غيره، ولا يسمى منهجا، وهو أشبه بعدم التفريق بين ألفاظ التحديث.
وليس غرضنا في هذا المكان بيان منهج البخاري في الرواية بالمعنى([7])
وإنما بيان أن هذا الحديث لا يصلح للتمثيل لذلك([8]).
(ص: 36)
قلت: وسبب قرن البخاري حديث الليث؛ لأنه أورده معلقا وقد احتاج إلى لفظه أو ما شابه
وأسباب التعليق وأغراضه متنوعة عند البخاري تنظر في محلها.
وبنظرة سطحية لرواية الليث أقول لعل البخاري علقه لعدم تحقق شروطه في عيسى بن حماد زغبة الراوي عن الليث
أو لمنهج خفي في التعامل مع المكاتبات، ولعله أورد النص المعلق لزيادة سماع هشام من أبيه فيها.
2-5- استغلال كلام ابن حجر للطعن في البخاري
حاول أبو رية أن يلصق بالبخاري فرية الرواية بالمعنى، ويجعلها فعلا دائما له([9])
وقد بنى فريته على نقول منها نقله عن ابن حجر، وبدل أن يكون النقل دالا على عدم رواية البخاري بالمعنى -فالفعل مرة واحدة أقرب للخطأ منه لمنهج معتمد- قلبه ليدل على الضد.
وقد تبع أبو شهبة ابن حجر فجعل الخطأ من شيخ البخاري، وأن البخاري سمعه على الوجهين([10]).
ونحن في غنى عن هذا التأويل إذ تبين عدم وجود التكرار بإسناد واحد بلفظين مختلفين.
ومن الذين استغلوا هذه المسألة للطعن في البخاري بزعم روايته بالمعنى الشيعة، ونحن في غنى عن ذكر ما أوردوه أو الرد عليه
فشبههم دائما واهية مكشوفة ومبناها دائما على التدليس.
3-5- استغلال كلام ابن حجر لإثارة أي شبهة في حادثة السحر
قال الجميلي: "وأرجو أن يتأمل القارئ قول ابن حجر مليا طويلا (وهذا من نوادر ما وقع للبخاري...)
فلعل هذا يفيدنا ويهدينا إلى شيء"([11]).


([1]) فتح الباري (ج10/227).

([2])صحيح البخاري كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده (برقم: 3268).

([3]) صحيح البخاري كتاب الطب باب السحر عقب الحديث (رقم: 5763).

([4]) عادات البخاري في صحيحه لعبد الحق الهاشمي (ص: 66).

([5])مقدمة تحقيقه للمزكيات (ص: 06).

([6]) مقدمة تحقيقه للمزكيات (ص: 6)، منهج الإمام البخاري في تأليف الصحيح ص: (19-20).

([7]) من المؤسف أن الكتب التي تحدثت عن منهج البخاري، لم تعرج على هذه المسألة رغم أهميتها، ومن أمثلة ذلك كتاب أبي بكر كافي (منهج البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها) فقد عقد مطلبا في الرواية بالمعنى وأثرها في التعليل (ص: 319-333) كان من المفترض أن يبين فيه مذهب البخاري في الرواية بالمعنى لكنه لم يفعل واكتفى فيه ببيان قبول البخاري للأحاديث المروية بالمعنى ما لم تغير الرواية بالمعنى معناه كليا عن المعنى الأصلي، وقد وقع في أخطاء كثيرة في هذا المطلب فأدعوه لإعادة تحريره أو حذفه من كتابه، وأشير إلى خطأين اختصارا في المثالين الذين ضربهما لتعليل البخاري للرواية بالمعنى الأول: ما الذي يدل على أن البخاري اعتبر المثالين رواية بالمعنى؟ (لاحظ أن قول ابن حجر لا يلزم البخاري، وأن دراسة الموضوع بعيدا عن البخاري يفقد النتيجة أهميتها) والثاني: ما الذي يدل على أن سبب عدم رواية البخاري للطريقين المذكورين هو إعلاله لهما؟ من المفترض أن يقوم البحث في هذا المطلب على مسألتين، الأولى: إثبات أن هذه الرواية عند البخاري هي رواية بالمعنى، والثانية: إثبات أن البخاري يعلها وتعلق التعليل بالرواية بالمعنى (انظر مثلا قول سعيد في المثال الأول: "قَالَ هُشَيْمٌ: سَمِعْتُهُ أَوْ أُخْبِرْتُهُ عَنْهُ" لم لا تكون هذه هي علة عدم الرواية مثلا) لكننا لم نجد ذلك، فلعل السبب قصر المدة المقدمة للبحوث الأكاديمية، وأن عنوانا مثل هذا يحتاج إلى اشتغال بالبخاري.

([8]) لا بأس من التنبيه على شيء من ذلك بمناقشة أهم نص في إثبات رواية البخاري بالمعنى في الصحيح:
قال الخطيب البغدادي في تاريخه (ج2/329): " وقال أبو عبد الله سمعت أبا عمرو (و)أحمد بن محمد بن عمر المقرئ، يقول: سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد بن عمر الأديب، يقول: سمعت أحيد بن أبي جعفر والي بخارى، يقول: قال محمد بن إسماعيل يوما: رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر، قال: فقلت له يا أبا عبد الله بكماله؟ قال: فسكت".
قلت:
- من أحيد بن أبي جعفر هذا؟! وهل مثل هذا الإسناد يقوم ببيان منهج البخاري؟!
- البخاري سكت فأين وجدوا الجواب؟ لو كان البخاري يروي بالمعنى لما استحيى من ذلك ولما دلس.
- على فرض صحة ما قالوا فكتابة الحديث لا تعني كتابته في الصحيح.
- وعلى فرض الصحة، فالبخاري يعتمد على صحة حفظه، وليس على جواز تغيير ألفاظ الأحاديث، وأمثلة دقة حفظه وأقوال معاصريه في ذلك أشهر من أن تذكر.

([9]) أضواء على السنة المحمدية (ص: 273).

([10]) دفاع عن السنة (ص233).

([11]) سحر النبي بين المؤيدين والمشككين هامش (ص: 30).