تفصيل الرد على شبهة تجويز ابن تيمية لتهنئة النصارى بعيدهم:
ما انتشر من تجويز ابن تيمية لتهنئة النصارى بعيدهم باطل وغير صحيح فكلامه في التحريم ظاهر في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم، ومجموع الفتاوى، وقد نقل تلميذه ابن القيم الاتفاق على تحريم تهنئتهم في كتابه أحكام أهل الذمة، وهو من ألصق تلاميذه به؛ فلو علم منه الجواز لنقل ذلك عنه ولو على سبيل الرد والاعتراض، ولا يعقل جهل ابن القيم رأيه شيخه أو تجاهله، وكم من مسألة فهم كلام شيخ الإسلام ابن تيميَّة خطأً، فإنَّ شيخَ الإسلام قد يستطرد فلا يفهم كلامه إلا من قرأه بتمامه وتمعَّن فيه، وقد يأخذ كلاما له محتملاً في موضع ويغفل أو يتغافل عن كلامه الصريح في موضع آخر.
قلت: (أبو البراء): فقد فصَّل ابن تيمية التحريم في مجموع الفتاوى: (2/ 487 - 489): (وسئل - رحمه الله تعالى - عمن يفعل من المسلمين: مثل طعام النصارى في النيروز. ويفعل سائر المواسم مثل الغطاس، والميلاد، وخميس العدس، وسبت النور. ومن يبيعهم شيئا يستعينون به على أعيادهم أيجوز للمسلمين أن يفعلوا شيئا من ذلك؟ أم لا؟
فأجاب: الحمد لله لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء، مما يختص بأعيادهم، لا من طعام، ولا لباس ولا اغتسال، ولا إيقاد نيران، ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة، وغير ذلك. ولا يحل فعل وليمة، ولا الإهداء، ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك. ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار زينة.
وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام لا يخصه المسلمون بشيء من خصائصهم.
وأما إذا أصابه المسلمون قصدًا، فقد كره ذلك طوائف من السلف والخلف. وأما تخصيصه بما تقدم ذكره فلا نزاع فيه بين العلماء. بل قد ذهب طائفة من العلماء إلى كفر من يفعل هذه الأمور، لما فيها من تعظيم شعائر الكفر، وقال طائفة منهم: من ذبح نطيحة يوم عيدهم فكأنما ذبح خنزيرًا.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: (من تأسى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم، ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت، وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة).
وفي سنن أبي داود: عن ثابت بن الضحاك قال: (نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلا ببوانة، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل كان فيها من وثنٌ يعبد من دون الله من أوثان الجاهلية؟ قال: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قال: لا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم).
فلم يأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الرجل أن يوفي بنذره مع أن الأصل في الوفاء أن يكون واجبا. حتى أخبره أنه لم يكن بها عيد من أعياد الكفار.
وقال: (لا وفاء لنذر في معصية الله).
فإذا كان الذبح بمكان كان فيه عيدهم معصية. فكيف بمشاركتهم في نفس العيد؟ بل قد شرط عليهم أمير المومنين عمر بن الخطاب والصحابة وسائر أئمة المسلمين أن لا يظهروا أعيادهم في دار المسلمين، وإنما يعملونها سرا في مساكنهم. فكيف إذا أظهرها المسلمون أنفسهم؟ حتى قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (لا تتعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخط ينزل عليهم).
وإذا كان الداخل لفرجة أو غيرها منهيا عن ذلك؛ لأن السخط ينزل عليهم. فكيف بمن يفعل ما يسخط الله به عليهم، مما هي من شعائر دينهم؟ وقد قال غير واحد من السلف في قوله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} [الفرقان: 72] . قالوا أعياد الكفار، فإذا كان هذا في شهودها من غير فعل، فكيف بالأفعال التي هي من خصائصها.
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسند، والسنن: أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» وفي لفظ: «ليس منا من تشبه بغيرنا» . وهو حديث جيد. فإذا كان هذا في التشبه بهم، وإن كان من العادات، فكيف التشبه بهم فيما هو أبلغ من ذلك؟ ،
وقد كره جمهور الأئمة - إما كراهة تحريم، أو كراهة تنزيه - أكل ما ذبحوه لأعيادهم وقرابينهم إدخالا له فيما أهل به لغير الله، وما ذبح على النصب، وكذلك نهوا عن معاونتهم على أعيادهم بإهداء أو مبايعة، وقالوا: إنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئا من مصلحة عيدهم، لا لحما، ولا دما، ولا ثوبا، ولا يعارون دابة، ولا يعاونون على شيء من دينهم؛ لأن ذلك من تعظيم شركهم، وعونهم على كفرهم وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك. لأن الله تعالى يقول: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: 2] .
ثم إن المسلم لا يحل له أن يعينهم على شرب الخمور بعصرها، أو نحو ذلك. فكيف على ما هو من شعائر الكفر؟ وإذا كان لا يحل له أن يعينهم هو فكيف إذا كان هو الفاعل لذلك؟، والله أعلم). انتهى
قلت: (أبو البراء): فكلامه ظاهر في حرمة مشاركتهم أو تخصيص يوم عيدهم بشيء أو الأكل من ذبائحهم التي ذبحت لهذا الغرض وحرمة معانوتهم في شيء يساعدهم على الاحتفال بهذا العيد الكفري.
وعلَّ من قال بالجواز لُبِّس عليه كلام ابن تيمية في كتابِـه: (إقتضاء الصِّراط المُستقيم لمُخالفة أصحاب الجحِيـم): ( 1 / 471 ـ 472 )، بعد أن ذكر صِيام عَاشُوراء ومُوافَقة النَّبيّ ـ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لليَهُود في أوّل الأمْرِ ثُم مُخالفتهم:
(ومما يوضح ذلك: أن كل ما جاء من التّشبه بهم ،إنما كان في صدر الهجرة ، ثم نسخ ؛ ذلك لأن اليهود إذ ذاك ،كانوا لا يميزون عن المُسلمين لا في شعور ،ولا في لباس ،لا بعلامة ولا غيرها.
ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسُّنَّة والإجماع، الذي كمل ظهوره في زمن عُمر بن الخطاب ـ رضي اللَّـه عنه ـ ما شرعه اللَّـه من مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدى.
وسبب ذلك: أن المخالفة لهم لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه كالجهاد ،وإلزامهم بالجزية والصّغار ،فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء؛ لم يشرع المخالفة لهم ،فلما كمل الدين وظهر وعلا ؛ شرع بذلك.
ومثل ذلك اليوم: لو أن المُسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب؛ لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظّاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه، أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك ،أو دفع ضررهم عن المُسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة.
فأما في دار الإسلام والهجرة، التي أعز اللَّـه فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصّغار والجزية ففيها شرعت المخالفة.
وإذا ظهرت الموافقة والمخالفة لهم باختلاف الزّمان ؛ ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا). انتهى.
قلت: (أبو البراء): وكلامه هذا لا يدل على ما ذهبوا إليه من قريبٍ أو بعيدٍ، فكلامه على جواز التشبه بهم في الهدي الظاهر من الملبس أو المأكل وذلك في حالة الضرورة والضعف كمن كان في دار حربٍ أو يعيش وسطهم ويكون لضرورة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم؛ لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المُسلمين.
وقد يلبس عليهم أيضًا تجويز ابن تيمية تهنئهم بمناسبتهم الدنيوية للمصلحة الشرعية، قال ابن مفلح الحنبلي – رحمه الله -: (وتحرم العيادة، والتهنئة، والتعزية لهم ...، وعنه – أي: عن الإمام أحمد -: يجوز، وعنه: لمصلحة راجحة، كرجاء إسلام، اختاره شيخنا – أي: ابن تيمية - ومعناه اختيار الآجري، وأنه قول العلماء: يُعاد ، ويعرض عليه الإسلام، نقل أبو داود : إن كان يريد يدعوه إلى الإسلام: فنعم). الفروع و تصحيح الفروع " (10 / 334).
وبهذا يتضح خطأ من نسب جواز التهنئة للنصارى في أعيادهم الكفرية لابن تيمية، والله أعلم.