تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 36

الموضوع: -مقتطفات- من كتاب (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي -مقتطفات- من كتاب (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)

    السلام عليكن ورحمة الله وبركاته
    أسعد الله أوقاتكن بكل خير
    أخواتي الغاليات من أحبت أن تشاركنا قراءة الكتاب كل يوم٤٠ صفحة لمدة أسبوعين بإذن الله.
    وفي كل يوم نقتطف بعض الفوائد ونكتبها هنا -إن شاء الله-.
    باسم الله نبدأ ...



    تقديم/

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله وكفى وصلاة وسلاما على عباده الذين اصطفى.
    فالسعادة كل السعادة في تقوى الله واتباع منهجه، والشقاء كل الشقاء في معصية الله، واتباع خطوات الشيطان.
    ومنذ أن هبط آدم -عليه السلام- إلى الأرض إلا وبدأ الصراع الخالد بين أبناء آدم -عليه الصلاة والسلام- وإبليس أعاذنا الله من شره.

    قال عز وجل: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم" يعني على طريق الإسلام، ولأرصدنهم ولأصدنهم،
    "ثم لآتينهم من بين أيديهم" يعني من أمر الآخرة حتى أجعلهم في شك،
    "ومن خلفهم"
    لأزينن لهم الدنيا حتى يطمئنوا إليها ويركنوا لها،
    "وعن أيمانهم" يعني آتيهم من جهة الدين والطاعة،
    "وعن شمائلهم"
    يعني من جهة المعاصي،
    "ولا تجد أكثرهم شاكرين"
    يعني على النعماء.

    لذا فلقد حذرنا ربنا -عز وجل- من اتباع خطوات الشيطان، وحذرنا من الوقوع في مكائده، فقال جل شأنه: "يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة"، وقال - عز وجل- "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا".

    لذا كان لزاما على أهل الإيمان التنبه إلى مكائده، والحذر من الوقوع فيها.


    يبدأ الكتاب بحديث عن القلب وأحواله وعلامات صحته ومرضه، ثم ينتقل إلى الحديث عن مكائد الشيطان باختلاف أنواعها في الطهارة والصلاة، والطلاق والمعاملات، وبعد ذلك الحيل التي يزينها لأهل العصيان، وهذا القسم الأول.

    القسم الثاني، عودة إلى باب الحيل الشيطانية، ثم يتطرق إلى كيد الشيطان للبشر في المعتقد، فقد تلاعب بعبّاد الأصنام، والنار، والماء، والملائكة، والثنوية، والمجوس، والدهرية، والفلاسفة، واليهود والنصارى. وبهذا تنتهي صفحات الكتاب.


    رحم الله الإمام ابن القيم وجزاه خير الجزاء.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    ترجمة المصنف/

    ... ثناء العلماء والحفاظ عليه:
    قال العلامة ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-:

    "كان عارفا بالتفسير لا يُجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيهما المنتهى، وبالحديث ومعانيه وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يُلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية، وله فيها اليد الطُّولى، وبعلم الكلام".
    وكان -رحمه الله- ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله، ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة، والافتقار إلى الله، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علما ...".

    وقال شيخ المحدثين الإمام الذهبي -رحمه الله-:
    "عُني بالحديث ومتونه، وكان يشتغل في الفقه، ويجيد تقريره، وبالنحو ويدريه، وفي الأصلين،
    وتصدر للاشتغال بنشر العلم".

    وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-:
    "برع في علوم متعددة ...،
    مع كثرة الطلب ليلا ونهارا، وكثرة الابتهال، ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه".

    وقال العلامة الشوكاني -رحمه الله-:
    "كان متقيدا بالأدلة الصحيحة، معجبا بالعمل بها، غير معوِّل على الرأي، صادعا بالحق، لا يحابي فيه أحدا".




  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت

    ينقسم القلب إلى صحيح وسقيم وميت، لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها انقسم إلى هذه الأحوال الثلاثة.

    والقلب الصحيح هو السليم، الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى به. "يوم لا ينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم". والأمر الجامع لذلك، أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، وهو الذي قد خلصت عبوديته لله: إرادة ومحبة، وتوكلا وإنابة، وإخباتا وخشية، ورجاء، فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله.

    قال -صلى الله عليه وسلم- : ((تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نُكت فيه نُكتة سوداء وأي قلب أنكرها نُكت فيه نُكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف مَعروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)).


    قال بعض السلف: ما من فعلة وإن صغرت إلا وينشر لها ديوانان: لمَ؟ وكيف؟ فالأول: سؤال عن الإخلاص لله، والثاني: عن المتابعة لرسوله -صلى الله عليه وسلم-.

    القلب الميت ضدالسليم، الهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركبه، فهو بالفكر في تحصيل الدنيا مغمور وبسكرة الهوى مخمور، يُنادى إلى الله والدار الآخرة ولا يستجيب، ويتبع كل شيطان مريد. الدنيا تسخطه وترضيه، والهوى يصمّه عما سوى الباطل ويعميه. مخالطة صاحب هذا القلب سقم ومعاشرته سُم، ومجالسته هلاك.

    القلب المريض فيه من محبة الله والإيمان والإخلاص ما هو مادة حياته، وفيه من الشهوات وإيثارها ما هو مادة هلاكه، وهو لما غلب عليه منهما.



  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب

    قال تعالى: "يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض"، أمرهن أن لا يلُنَّ في كلامهن، فيطمع الذي في قلبه مرض الشهوة.

    من أمراض القلوب الجهل وشفاؤه العلم والهدى، والغي وشفاؤه الرشد، وقد نزه الله نبيه عن هذين الداءين، فقال: "والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى"، ووصف رسوله -صلى الله عليه وسلم- خلفاءه بضدهما فقال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".

    فصل في أسباب ومشخصات مرض البدن والقلب

    مدار الصحة على "ثلاثة أصول"، وقد تضمنها الكتاب العزيز، وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة.
    ١/ حفظ القوة: الرخصة للمسافر والمريض بالفطر في رمضان، ثم القضاء بعد ذلك.
    ٢/ الحمية عن المؤذي: إذا كان الوضوء والغسل بالماء البارد يضر المريض، فإنه يتيمم.
    ٣/ استفراغ المواد الفاسدة: أباح الله للمحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه.

    وإذا عرف هذا، فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته، وهو الإيمان وأوراد الطاعات، وإلى حمية عن المؤذي الضار، وذلك باجتناب الآثام والمعاصي، وأنواع المخالفات، وإلى استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له، وذلك بالتوبة النصوح، واستغفار غافر الخطيئات.


  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبيعية وشرعية

    مرض القلب نوعان: نوع لا يتألم به صاحبه في الحال، وهو مرض الجهل، ومرض الشبهات والشكوك، ومرض الشهوات، وهذا النوع أعظم النوعين ألما، ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم فهم أطباء هذا المرض.
    والنوع الثاني: مرض مؤلم له في الحال، كالهم والغم والحزن والغيظ، وهذا قد يزول بأدوية طبيعية، كإزالة أسبابه، أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب، من الفرح والسرور، فإن كان ذلك بحق اشتفى القلب وصح وبرئ من مرضه، وإن كان باطل توارى ذلك واستتر، ولم يزل، وأعقب أمراضا هي أصعب وأخطر.

    وهذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن ويشقى بما يشقى به البدن، فكذلك البدن يتألم كثيرا بما يتألم به القلب، ويشقيه ما يشقيه.

    الجهل مرض وشفاءه سؤال أهل العلم، وكذلك الشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين، ولما كان ذلك يوجب له حرارة قيل لمن حصل له اليقين: ثلج صدره، وحصل له برد اليقين، وهو كذلك يضيق بالجهل والضلال عن طريق رشده، وينشرح بالهدى والعلم، قال تعالى: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعَّد في السماء".

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه

    أصل كل خير وسعادة للعبد، بل لكل حي ناطق: كمال حياته ونوره، فالحياة والنور مادة الخير كله.
    ذكر الله تعالى هذين الأصلين في مواضع من كتابه، فقال تعالى: "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم"، فجمع بين الروح الذي يحصل به الحياة، والنور الذي يحصل به الإضاءة والإشراق، وأخبر أن كتابه الذي أنزله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- متضمن للأمرين، فهو روح تحيا به القلوب، ونور تستضيء وتشرق به.

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له، مؤثرا له على غيره

    لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادة والحب، كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه، ويعود عليه بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل، فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه.

    وينبغي أن تعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان في القلب، بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل، وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به، وإلا استعملها في ضده فالإنسان حارث همام بالطبع.

  8. #8

    افتراضي

    نفع الله بك أخيتي أمة الحليم ، واصلي وصلك الله بهداه .

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    آمين وإياك أم رفيدة
    اللهم أعنا على ما تحب وترضى، اللهم صل وسلم على نبينا محمد.

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب، ولا لذة، ولا نعيم، ولا صلاح، إلا بأن يكون الله هو إلهه وفاطره وحده، وهو معبوده، وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه

    دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين". (حديث صحيح) أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم.

    فجمع في هذا الدعاء العظيم القدر بين أطيب شيء في الدنيا وهو الشوق إلى لقائه سبحانه، وأطيب شيء في الآخرة، وهو النظر إلى وجهه سبحانه، ولما كان كمال ذلك وتمامه موقوفا على عدم ما يضر في الدنيا ويفتن في الدين قال: "في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة".
    ولما كان كمال العبد في أن يكون عالما بالحق متبعا له معلما لغيره، مرشدا له قال: "واجعلنا هداة مهتدين".
    ولما كان الرضا النافع المحصل للمقصود هو الرضا بعد وقوع القضاء لا قبله، فإن ذلك عزم على الرضا، فإذا وقع القضاء انفسخ ذلك العزم، سأل الرضا بعده، فإن المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه، فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما.
    ولما كانت خشية الله -عز وجل- رأس كل خير في المشهد والغيب، سأله خشيته في الغيب والشهادة.
    ولما كان أكثر الناس إنما يتكلم بالحق في رضاه، فإذا غضب أخرجه إلى الباطل، وقد يدخله رضاه أيضا في الباطل، سأل الله أن يوفقه لكلمة الحق في الغضب والرضا.
    ولما كان الفقر والغنى بليتين ومحنتين، يبتلي الله بهما عبده، ففي الغنى يبسط يده، وفي الفقر يقبضها، سأل الله عز وجل القصد في الحالين، وهو التوسط الذي ليس معه إسراف ولا تقتير.
    ولما كان النعيم نوعين: نوعا للبدن، ونوعا للقلب، وهو قرة العين، وكماله بدوامه واستمراره، جمع بينهما في قوله: "أسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع".
    ولما كانت الزينة زينتين: زينة البدن، وزينة القلب، وكانت زينة القلب أعظمهما قدرا وأجلهما خطرا، وإذا حصلت؛ حصلت زينة البدن على أكمل الوجوه في العقبى، سأل ربه الزينة الباطنة فقال: "زيِّنا بزينة الإيمان".
    لما كان العيش في هذه الدار لا يبرد لأحد كائنا من كان بل هو محشو بالغصص والنكد، ومحفوف بالآلام الباطنة والظاهرة، سأل برد العيش بعد الموت.
    والمقصود: أنه جمع في هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا، وأطيب ما في الآخرة.

    مَن قلَّ نصيبه من الإحسان وبخس حظه من معرفة الرحمن يقول: إن عبادة الله وذكره وشكره تكليف ومشقة، لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان. وهذه مقالات من قلَّ نصيبه من ذوق حقائق الإيمان، وفرح بما عنده من زبد الأفكار وزبالة الأذهان، بـل عبادة الله ومعرفته وتوحيده وشكره قرة عين الإنسان، وأفضل لذة للروح والقلب والجنان، وأطيب نعيم ناله من كان أهلا لهذا الشأن، والله المستعان، وعليه التكلان.
    وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقة والكلفة بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمنا وتبعا في بعضها، لأسباب اقتضته لا بد منها، وهي من لوازم هذه النشأة!

    فأوامره سبحانه ، وحقه الذي أوجبه على عباده، وشرائعه الي شرعها لهم، هي قرة العيون ولذة القلوب، ونعيم الأرواح وسرورها، وبها شفاؤها وسعادتها وفلاحها، وكمالها في معاشها ومعادها، بل لا سرور لها ولا فرح ولا لذة ولا نعيم في الحقيقة إلا بذلك، كما قال تعالى: "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين * قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون".


  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    فصل/ في أن لذة النظر إلى وجه الله يوم القيامة تابعة للتلذذ بمعرفته ومحبته في الدنيا

    كما أنه لا نسبة لنعيم ما في الجنة إلى نعيم النظر إلى وجهه الأعلى سبحانه، فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه والأنس به، بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة لمعرفتهم به ومحبتهم له، فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة، فكلما كان المحب أعرف بالمحبوب، وأشد محبة له، كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه أعظم.

    تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه، إذا أخذ منه فوق القدر الزائد على حاجته، غير مستعين به على طاعته.
    كما قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له".

    * * *
    إن الله سبحانه غنى كريم، عزيز رحيم. فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعه إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحسانا.
    فهو سبحانه لا يوالى من يواليه من الذل، كما يوالى المخلوق المخلوق، وإنما يوالى أولياءه إحسانا ورحمة ومحبة لهم. وأما العباد فإنهم كما قال عز وجل: {وَاللهُ الْغَنِىُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}.
    فهم لفقرهم وحاجتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك وانتفاعه به عاجلاً أو آجلاً. ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه. فهو فى الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه. فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه فى العاجل، فهو محتاج إلى ذلك الجزاء، أو معاوضة بإحسانه، أو لتوقع حمده وشكره. وهو أيضاً إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير. وإما أن يريد الجزاء من الله تعالى فى الآخرة، فهو أيضاً محسن إلى نفسه بذلك، وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته، فهو غير ملوم فى هذا القصد، فإنه فقير محتاج، وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته، فكماله أن يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه، وقال تعالى: {إِنْ أحْسَنْتُمْ أََحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ}،
    فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد انتفاعه بك.
    والرب تعالى إنما يريد نفعك لا انتفاعه بك، وذلك منفعة محضة لك خالصة من المضرة، بخلاف إرادة المخلوق نفعك، فإنه قد يكون فيه مضرة عليك، ولو بتحمل منته.
    فتدبر هذا فإن ملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق أو تعامله دون الله عز وجل، أو تطلب منه نفعا، أو دفعا أو تعلق قلبك به، فإنه إنما يريد انتفاعه بك لا محض نفعك، وهذا حال الخلق كلهم بعضهم مع بعض، وهو حال الولد مع والده، والزوج مع زوجه، والمملوك مع سيده، والشريك مع شريكه. فالسعيد من عاملهم لله تعالى لا لهم، وأحسن إليهم لله تعالى، وخاف الله تعالى فيهم، ولم يخفهم مع الله تعالى، ورجا الله تعالى بالإحسان إليهم، ولم يرجهم مع الله، وأحبهم بِحُبِّ الله، ولم يحبهم مع الله تعالى، كما قال أولياء الله عز وجل: {إِنمَا نُطعمكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكورًا}.
    والعبد المخلوق لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله تعالى إياها، ولا يقدر على تحصيلها لك، حتى يقدره الله تعالى عليها، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة. فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه، وهو الذى بيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فتعلق القلب بغيره رجاء وخوفا وتوكلا وعبودية: ضرر محض، لا منفعة فيه، وما يحصل بذلك من المنفعة فهو سبحانه وحده الذى قدرها ويسرها وأوصلها إليك.

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    الباب السابع: في أن القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه

    قال الله عز وجل: "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور"، وقال تعالى: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين"، وأمراض القلب هي أمراض الشبهات والشهوات، والقرآن شفاء للنوعين، ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل، فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك، بحيث يرى الأشياء على ما هى عليه، وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية: من التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات المعاد والنبوات، ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة، مثل القرآن. فإنه كفيل بذلك كله، متضمن له على أتم الوجوه وأحسنها، وأقربها إلى العقول وأفصحها بيانا. فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه. فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانا بقلبه، كما يرى الليل والنهار، وعلم أن ما عداه من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم بين علوم لا ثقة بها، وإنما هى آراء وتقليد. وبين ظنون كاذبة لا تغنى من الحق شيئا. وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها. وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام فى إثباتها، مع قلة نفعها، وأحسن ما عند المتكلمين وغيرهم فهو في القرآن أصح تقريرا وأحسن تفسيرا.

    وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب، والتزهيد فى الدنيا، والترغيب في الآخرة، والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار، فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه فى معاشه ومعاده ويرغب عما يضره، فيصير القلب محبا للرشد، مبغضا للغي. فالقرآن مزيل للأمراض الموجهة للإرادات الفاسدة، فيصلح القلب، فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فُطر عليها، فتصلح أفعاله.

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    الباب الثامن: في زكاة القلب

    الزكاة في اللغة: هي النماء والزيادة في الصلاح، وكمال الشيء.
    قال الله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم، وتزكيهم بها" فجمع بين الأمرين: الطهارة والزكاة، لتلازمهما، فإن نجاسة الفواحش والمعاصي في القلب، بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن التي إن تخلص منها استراح، فنما وعمل بلا معوق ولا ممانع. فكذلك القلب، لا سبيل إلى زكاته إلا بطهارته من الذنوب، فينمو ويزكو ويقوى ويشتد.
    فلا سبيل لزكاة القلب إلا بعد طهارته كما قال تعالى: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون" فجعل الزكاة بعد غض البصر وحفظ الفرج.
    ولهذا كان غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة:
    ١- حلاوة الإيمان ولذته.
    ٢- نور القلب وصحة الفراسة.
    ٣- قوة القلب وثباته وشجاعته.
    والتزكي -وإن كان أصله النماء والزيادة والبركة- فإنه إنما يحصل بإزالة الشر، فلهذا صار التزكي ينتظم الأمرين جميعا، فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح هو التوحيد.


  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه

    قال تعالى: "أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم" دلت الآية على أن طهارة القلب موقوفة على إرادة الله تعالى. وأنه سبحانه لما لم يرد أن يطهر قلوب القائلين بالباطل، المحرفين للحق، لم يحصل لها الطهارة، والإرادة هنا هي الإرادة الكونية. ومن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا ، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا.

    ومن لم يطهر الله قلبه فلا بد أن يناله الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة بحسب نجاسة قلبه وخبثه، ولهذا حرم الله سبحانه الجنة على من في قلبه نجاسة وخبث، ولا يدخلها إلا بعد طيبه وطهره، فإنها دار الطيبين، ولهذا يقال لهم: "طبتم فادخلوها خالدين" أي ادخلوها بسبب طيبكم، والبشارة عند الموت لهؤلاء دون غيرهم، كما قال تعالى: "الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون".
    من لم يتطهر بالدنيا إن كانت نجاسته عينيه كالكافر، لم يدخلها بحال، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعدما يتطهر في النار من تلك النجاسة، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط حُبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيهذبون ويتنقون من بقايا بقيت عليهم، قصرت بهم عن الجنة، ولم توجب لهم دخول النار، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة.

    والله سبحانه بحكمته جعل الدخول عليه موقوفا على الطهارة، فلا يدخل المُصلي عليه حتى يتطهر، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفا على الطيب والطهارة، فلا يدخلهما إلا طيب طاهر، فهما طهارتان: طهارة البدن، وطهارة القلب، ولهذا شرع للمتوضئ أن يقول عقيب وضوئه: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" فطهارة القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء.

    ومن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد"، فدل على شدة حاجة البدن والقلب إلى ما يطهرهما ويبردهما ويقويهما، وتضمن دعاؤه سؤال هذا وهذا، والله تعالى أعلم. وقريب من هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- "كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك".

    ومما قاله ابن تيمية عن معنى الدعاء: أن الخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفا، فيرتخي القلب وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه، وكلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه، والماء يغسل الخبث ويطفئ النار، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد.

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    فصل/ فيما في الشرك والزنا واللواطة من الخبث

    وقد وسم الله سبحانه الشرك والزنا واللواطة بالنجاسة والخبث في كتابه دون سائر الذنوب وإن كانت مشتملة على ذلك، لكن الذي وقع فى القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وقوله تعالى في حق اللوطية: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الّتِى كانَتْ تَعْمَلُ الخبَائِثَ إِنّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِين} ، وقالت اللوطية: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}. فأقروا مع شركهم وكفرهم أنهم هم الأخابث الأنجاس، وأن لوطا وآله مطهرون من ذلك باجتنابهم له، وقال تعالى في حق الزناة: {الخبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالَخبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} .
    فأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة، فالمغلظة: الشرك الأكبر الذى لا يغفره الله عز وجل، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. والمخففة: الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق، والحلف به وخوفه ورجائه.
    وكلما كان الحي أكمل حياة وأصح حياء كان إبعاده لذلك أعظم ونفرته منه أقوى.


    والمقصود: أن الشرك لما كان أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات، كان أبغض الأشياء إلى الله تعالى وأكرهها له، وأشدها مقتا لديه. ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حرمه، وحرم ذبائحهم ومناكحتهم، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يتخذوهم عبيدا، وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقيص لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، كما قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْء عَلَيْهِمْ دَائرَة السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهمْ وَأعَد لَهُمْ جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}.
    فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك، فإنهم ظنوا به ظن السوء، حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحّدوه حق توحيده، ولهذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره.

    فصل

    وأما نجاسة الذنوب والمعاصي، فإنها بوجه آخر، فإنها لا تستلزم تنقيص الربوبية، ولا سوء الظن بالله عز وجل. ولهذا لم يرتب الله سبحانه عليها من العقوبات والأحكام ما رتبه على الشرك، وهكذا استقرت الشريعة على أنه يعفى عن النجاسة المخففة، كالنجاسة فى محل الاستجمار، وأسفل الخف، والحذاء، وبول الصبي الرضيع وغير ذلك، مالا يعْفَى عن المغلظة، وكذلك يعفى عن الصغائر ما لا يعفى عن الكبائر، ويعفى لأهل التوحيد المحض الذى لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك.

    نجاسة الزنا واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات،
    من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جدا، ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاء، فكلما كان الشرك فى العبد أغلب كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصا كان منها أبعد، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخْلَصِينَ}.

    فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبد لها، بل هو من أعلى أنواع التعبد، ولا سيما إذا استولى على القلب وتمكن منه صار تتيما، والتتيم التعبد، فيصير العاشق عابدا لمعشوقه، وكثيرا ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه، والسعى فى مرضاته، وإيثار محابه على حب الله وذكره، والسعي في مرضاته، بل كثيرا ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية، ويصير متعلقا بمعشوقه من الصور، كما هو مشاهد، فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل يقدم رضاه وحبه على رضى الله وحبه، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله، وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله، ويتجنب من سخطه ما لا يتجنب من سخط الله تعالى، فيصير آثر عنده من ربه: حبا، وخضوعا، وذلا، وسمعا، وطاعة.
    ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط، وعن امرأة العزيز، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوي شرك العبد بُليَ بعشق الصور، وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه. والزنا واللواطة كمال لذتهما إنما يكون مع العشق ولا يخلو صاحبهما منه، وإنما لِتنقله من محل إلى محل لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد بل ينقسم على سهام كثيرة، لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده.
    فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله، فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب، لا يصعد إليه إلا طيب، وكلما ازداد خبثا ازداد من الله بعدا، ولهذا قال المسيح عليه السلام فيما رواه الإمام أحمد فى كتاب الزهد: "لا يكون البطالون من الحكماء، ولا يلج الزناة ملكوت السماء".

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته

    مرض البدن: أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف عنها.
    ومرض القلب: أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله ومحبته والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على كل شهوته، وكل من عرف الله أحبه، وأخلص العبادة له ولا بد، ولم يؤثر عليه شيئا من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئا من المحبوبات فقلبه مريض، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب سقطت عنها شهوة الطيب، وتعوضت بمحبة غيره.

    وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه، لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته.
    * وَمَا لِجُرْحٍ بَمِّيتٍ إيلامُ *

    وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فهو يؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه فى مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس وليس لها أنفع منه.

    وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره: كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر، وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق، ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عدم الرفيق، واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس فلي بهم أسوة. وهذه حال أكثر الخلق، وهي التى أهلكتهم، فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول، الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، فتفرد العبد فى طريق طلبه دليل على صدق طلبه.

    قال الحسن البصري: "السُنَّة، والذي لا إله إلا هو بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقى: الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف فى إترافهم، ولا مع أهل البدع فى بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا".

    والمقصود:
    أن من علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة، وعدولها عن دوائها النافع إلى دوائها الضار، فهنا أربعة أمور: غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، ودواء مهلك.
    فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك.
    وأنفع الأغذية غذاء
    الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء.



  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    ومن علامات صحته أيضا: أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبا يأخذ منها حاجته، ويعود إلى وطنه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمر: "كُنْ في الدُّنْيا كَأَنّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ القبُورِ". حديث صحيح أخرجه البخاري.

    فَحَي عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ * * فَإِنهَا مَنَازِلُكَ الأولَى وَفِيهَا المُخَيّمُ
    وَلكِنَّنَا سَبْيُ العَدُوِّ، فَهَلْ تَرَى * * نَعُودُ إلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ؟

    وقال علي بن أبى طالب -رضي الله عنه- "إن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل".
    وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة وقرب منها حتى يصير من أهلها، وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها.

    ومن علامات صحة القلب أنه لا
    يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، الذى لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوي، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف. فذكره قوته وغذاؤه ومحبته، والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه دواؤه، فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به وزال ذلك الاضطراب والقلق، وانسدت تلك الفاقة، فإن في القلب فاقة لا يسدها شىء سوى الله تعالى أبدا، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له، وعبادته وحده، فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خلق الخلق، ولأجله خلقت الجنة والنار، وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء وكفى بفوته حسرة وعقوبة.

    قال بعض العارفين: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته".
    وقال آخر: "والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته".
    وقال يحيى بن معاذ: "من سر بخدمة الله سرت الأشياء كلها بخدمته، ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل أحد بالنظر إليه".

    ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره؛ إلا بمن يدله عليه، ويذكره به، ويذاكره بهذا الأمر.
    ومن علامات صحته: أنه إذا فاته ورده وجد لفواته ألماً أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.
    ومن علامات صحته: أنه يشتاق إلى الخدمة كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشراب.
    ومن علامات صحته: أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقرت عينه وسرور قلبه.
    ومن علامات صحته: أن يكون همه واحداً وأن يكون في الله.
    ومن علامات صحته: أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعا من أشد الناس شحا بماله.
    ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل؛ فيحرص على الإخلاص فيه، والنصيحة والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه، وتقصيره في حق الله.
    فهذه مشاهد لا يشهدها إلا القلب الحي السليم.

    وبالجملة فالقلب الصحيح : هو الذي همه كله في الله، وحبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابِّه، الخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له، قرة عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه، فهو كلما وجد من نفسه التفاتا إلى غيره تلا عليها ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ فهو يردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه فينصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، فتصير العبودية صفة له وذوقا لا تكلفا، فيأتي بها توددا وتحببا وتقربا، كما يأتي المحب المتيّم في محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله، فكلما عرض له أمر من ربه أو نهي أحس من قلبه ناطقا ينطق: لبيك وسعديك، إني سامع مطيع، ممتثل ولك، علي المنة في ذلك، والحمد فيه عائد إليك.
    وإذا أصابه قَدَر وجد من قلبه ناطقا يقول: أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين، وأنت ربي العزيز الرحيم؛ لا صبر لي إن لم تصبرني، ولا قوة لي إن لم تحملني وتقوني، لا ملجأ لي منك إلا إليك، ولا مستعان لي إلا بك، ولا انصراف لي عن بابك، ولا مذهب لي عنك.
    فينطرح بمجموعه بين يديه، ويعتمد بكليته عليه، فإن أصابه بما يكره قال: رحمة أهديت إلي، ودواء نافع من طبيب مشفق، وإن صُرف عنه ما يُحب قال: شراً صرف عني.
    وكم رمت أمرا خِرْتَ لي في انصرافه ... وما زلت بي مني أبرّ وأرحما
    فكل ما مَسَّه به من السّراء والضرّاء اهتدى بها طريقاً إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه، كما قيل:
    ما مَسّني قدرٌ بكُرْهٍ أو رضى ... إلا اهتديت به إليك طريقا
    أمْضِ القضاء على الرضى مني به ... إني وجدتك في البلاء رفيقا
    ولله هاتيك القلوب وما انطوت عليه من الضمائر، وماذا أودعته من الكنوز والذخائر، ولله طيب أسرارها ولا سيما يوم تُبلى السرائر.
    سيبدي لها طيب ونور وبهجة ... وحسن ثناء يوم تبلى السرائر
    تالله لقد رفع لها علم عظيم فشمرت إليه، واستبان لها صراط مستقيم فاستقامت عليه، ودعاها ما دون مطلوبها الأعلى فلم تستجب إليه، واختارت على ما سواه وآثرت ما لديه.

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

    سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبة الحاجة: "الحمد لله نستعينه ونستهديه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا".

    وقد اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأنه لا يدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها وتركها بمخالفتها والظفر بها.

    فإن الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعا لها تحت أوامرها، وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها، فصارت طوعا لهم منقادة لأوامرهم.

    قال بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم، فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك، قال تعالى: "فأما من طغى* وآثر الحياة الدنيا* فإن الجحيم هي المأوى* وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى".

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    النفس إذا سكنت إلى الله، واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه، فهي مطمئنة، وهي التي يقال لها عند الوفاة: "يا أيتها النفس المطمئنة* ارجعي إلى ربك راضية مرضية"، قال مجاهد: (هي المنيبة المخبتة التي أيقنت أن الله ربها، وضربت جأشا لأمره وطاعته، وأيقنت بلقائه).

    وإذا كانت بضد ذلك فهي أمارة بالسوء، وقد أخبر سبحانه أنها أمارة بالسوء، ولم يقل "آمرة" لكثرة ذلك منها، وأنه عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير، فذلك من رحمة الله، لا منها، فإنها بذاتها أمارة بالسوء، لأنها خُلقت في الأصل جاهلة ظالمة، إلا من رحمة الله، والعدل والعلم طارئ عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك، فإذا لم يلهمها رشدها بقيت على ظلمها وجهلها.

    وسبب الظلم: إما جهل، وإما حاجة، وهي في الأصل جاهلة، والحاجة لازمة لها، فلذلك كان أمرها بالسوء لازما لها إن لم تدركها رحمة الله وفضله.

    وبهذا يعلم أن ضرورة العبد إلى ربه فوق كل ضرورة، ولا تشبهها ضرورة تقاس بها، فإنه إن أمسك عنه رحمته وتوفيقه وهدايته طرفة عين خسر وهلك.



  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Sep 2016
    المشاركات
    103

    افتراضي

    فصل/

    وأما اللوامة، قال عطاء عن ابن عباس: (كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة، تلوم المحسن نفسه أن لا يكون ازداد إحسانا، وتلوم المسيء نفسه أن لا يكون رجع عن إساءته).

    وقال الحسن: (إن المؤمن -والله- ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته، يستقصرها في كل ما يفعله فيندم ويلوم نفسه، وإن الفاجر ليمضي قدما لا يعاتب نفسه).

    والنفس قد تكون تارة أمارة، وتارة لوامة، وتارة مطمئنة، بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •