قال شيخ الاسلام في المجموع 4 /176

"...وقد ذكرنا في غير هذا الجواب مذهب سلف الأمة وأئمتها بألفاظها وألفاظ من نقل ذلك من جميع الطوائف : بحيث لا يبقى لأحد من الطوائف اختصاص بالإثبات . ومن ذلك : ما ذكره شيخ الحرمين : أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي في كتابه الذي سماه " الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاما لذوي البدع والفضول " وكان من أئمة الشافعية - ذكر فيه من كلام الشافعي ومالك والثوري وأحمد بن حنبل والبخاري - صاحب الصحيح - وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه في أصول السنة ما يعرف به اعتقادهم .

وذكر في تراجمهم ما فيه تنبيه على مراتبهم ومكانتهم في الإسلام وذكر " أنه اقتصر في النقل عنهم - دون غيرهم - لأنهم هم المقتدى بهم والمرجوع شرقا وغربا إلى مذاهبهم ولأنهم أجمع لشرائط القدوة والإمامة من غيرهم وأكثر لتحصيل أسبابها وأدواتها : من جودة الحفظ والبصيرة والفطنة والمعرفة بالكتاب والسنة والإجماع والسند والرجال والأحوال ولغات العرب ومواضعها والتاريخ والناسخ والمنسوخ والمنقول والمعقول والصحيح والمدخول في الصدق والصلابة وظهور الأمانة والديانة : ممن سواهم " . قال : " وإن قصر واحد منهم في سبب منها جبر تقصيره قرب عصره من الصحابة والتابعين لهم بإحسان باينوا هؤلاء بهذا المعنى من سواهم فإن غيرهم من الأئمة - وإن كانوا في منصب الإمامة - لكن أخلوا ببعض ما أشرت إليه مجملا من شرائطها إذ ليس هذا موضعا لبيانها " .

قال : " ووجه ثالث لا بد من أن نبين فيه فنقول : إن في النقل عن هؤلاء إلزاما للحجة على كل من ينتحل مذهب إمام يخالفه في العقيدة فإن أحدهما لا محالة يضلل صاحبه أو يبدعه أو يكفره فانتحال مذهبه - مع مخالفته له في العقيدة - مستنكر والله شرعا وطبعا فمن قال : أنا شافعي الشرع أشعري الاعتقاد قلنا له : هذا من الأضداد لا بل من الارتداد إذ لم يكن الشافعي أشعري الاعتقاد . ومن قال : أنا حنبلي في الفروع معتزلي في الأصول قلنا : قد ضللت إذا عن سواء السبيل فيما تزعمه إذ لم يكن أحمد معتزلي الدين والاجتهاد " .

قال : " وقد افتتن أيضا خلق من المالكية بمذاهب الأشعرية وهذه والله سبة وعار وفلتة تعود بالوبال والنكال وسوء الدار على منتحل مذاهب هؤلاء الأئمة الكبار فإن مذهبهم ما رويناه : من تكفيرهم : الجهمية والمعتزلة والقدرية والواقفية وتكفيرهم اللفظية " . وبسط الكلام في مسألة اللفظ إلى أن قال - : " فأما غير ما ذكرناه من الأئمة : فلم ينتحل أحد مذهبهم فلذلك لم نتعرض للنقل عنهم " .

قال : " فإن قيل : فهلا اقتصرتم إذا على النقل عمن شاع مذهبه وانتحل اختياره من أصحاب الحديث وهم الأئمة : الشافعي ومالك والثوري وأحمد إذ لا نرى أحدا ينتحل مذهب الأوزاعي والليث وسائرهم ؟ . - قلنا : لأن من ذكرناه من الأئمة - سوى هؤلاء - أرباب المذاهب في الجملة إذ كانوا قدوة في عصرهم ثم اندرجت مذاهبهم الآخرة تحت مذاهب الأئمة المعتبرة .

وذلك أن ابن عيينة كان قدوة ولكن لم يصنف في الذي كان يختاره من الأحكام وإنما صنف أصحابه وهم الشافعي وأحمد وإسحاق فاندرج مذهبه تحت مذاهبهم . وأما الليث بن سعد فلم يقم أصحابه بمذهبه قال الشافعي : " لم يرزق الأصحاب " إلا أن قوله يوافق قول مالك أو قول الثوري لا يخطئهما ; فاندرج مذهبه تحت مذهبهما .

وأما الأوزاعي فلا نرى له في أعم المسائل قولا إلا ويوافق قول مالك أو قول الثوري أو قول الشافعي : فاندرج اختياره أيضا تحت اختيار هؤلاء . وكذلك اختيار إسحاق يندرج تحت مذهب أحمد لتوافقهما .

قال : " فإن قيل : فمن أين وقعت على هذا التفصيل والبيان في اندراج مذاهب هؤلاء تحت مذاهب الأئمة ؟ قلت : من التعليقة للشيخ أبي حامد الإسفرائيني التي هي ديوان الشرائع وأم البدائع : في بيان الأحكام ومذاهب العلماء الأعلام وأصول الحجج العظام ; في المختلف والمؤتلف . قال : " وأما اختيار أبي زرعة وأبي حاتم في الصلاة والأحكام - مما قرأته وسمعته من مجموعيهما - فهو موافق لقول أحمد ومندرج تحته وذلك مشهور . وأما البخاري فلم أر له اختيارا ولكن سمعت محمد بن طاهر الحافظ يقول : استنبط البخاري في الاختيارات مسائل موافقة لمذهب أحمد وإسحاق .

فلهذه المعاني نقلنا عن الجماعة الذين سميناهم دون غيرهم إذ هم أرباب [ ص: 179 ] المذاهب في الجملة ولهم أهلية الاقتداء بهم لحيازتهم شرائط الإمامة وليس من سواهم في درجتهم وإن كانوا أئمة كبراء قد ساروا بسيرهم ."