مُوَاضَعَةُ البَسْمَلَةِ

لا شَكَّ أنَّ كِتَابَةَ البَسْمَلَةِ في أوَائِلِ الخُطَبِ والكُتُبِ والرَّسَائِلِ لَهُوَ أمْرٌ مَشْرُوعٌ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالكِتَابِ والسُّنَّةِ والإجْمَاعِ، فَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهَا في أوَّلِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وكَذَا مَا كَتَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الكُتُبِ والرَّسَائِلِ إلى المُلُوكِ وغَيْرِهِم؛ حَيْثُ ابْتَدَأهَا في بَعْضِ رَسَائِلِهِ، ولاسِيَّمَا رِسَالَتِهِ إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ .
وقَدْ اتَّفَقَ أهْلُ العِلْمِ على جَوَازِ كِتَابَةِ البَسْمَلَةِ في أوَائِلِ الخُطَبِ والرَّسَائِلِ والكُتُبِ، غَيْرَ أنَّهُم اخْتَلَفُوا في كِتَابَتِهَا في بَعْضِ الصُّوَرِ، كَمَا يَأتي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللهُ .
وقَدْ رَوَى الخَطِيبُ والرُّهَاوِيُّ بِسَنَدَيْهِمَا أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ : «كُلُّ أمْرٍ ذِي بَالٍ لا يُبْدَأُ فِيْهِ ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ؛ فَهُوَ أبْتَرُ»، وهُوَ ضَعِيْفٌ، لأنَّ مَدَارَهُ على أحْمَدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عِمْرَانَ المَعْرُوفِ بِابْنِ الجنْدِي، وقَدْ ضَعَّفَهُ عَامَّةُ أهْلِ العِلْمِ .
وقَدْ حَكَمَ بِوَضْعِ الحَدِيثِ؛ أحْمَدُ الغُمَارِيُّ في رِسَالَتِهِ : «الاسْتِعَاذَةُ والحَسْبَلَةُ مِمَّنْ صَحَّحَ حَدِيثَ البَسْمَلَةِ» مَطْبُوعَةٌ ضِمْنَ ثَلاثِ رَسَائِلَ حَدِيثِيَّةٍ، وكِتَابِ «حُصُولِ التَّفْرِيجِ بِأُصُولِ التَّخْرِيجِ» طَبْعَةُ الطَّبَرِيَّةِ عَامَ (1414)، قُلْتُ : الصَّحِيحُ أنَّ الحَدِيثَ؛ ضَعِيفٌ جِدًّا .
وهُنَاكَ رِسَالَةٌ بِعِنْوَانِ : «تَفْصِيلِ المَقَالِ على حَدِيثِ كُلِّ أمْرٍ ذِي بَالٍ» لِعَبْدِ الغَفُورِ البَلُوشِيِّ، وهِيَ لَطِيفَةٌ ومُحَرَّرَةٌ، فَانْظُرْهَا .
وأصَحُّ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ اسْتِدْلالًا : هُوَ التَّأسِي والاقْتِدَاءُ بِالكُتُبِ المُنْزَّلَةِ عُمُومًا، وبِالقُرْآنِ الكَرِيمِ خُصُوصًا، لأنَّ الجَمِيعَ مُفْتَتَحٌ بِالبَسْمَلَةِ بِإجْمَاعِ العُلَمَاءِ .
وكَذَا التَّأسِّي والاقْتِدَاء بِالرَّسُولِ ﷺ؛ فَإنَّهُ كَانَ يَفْتَتِحُ كُتُبَهُ ورَسَائِلَهُ إلى المُلُوكِ بِالبَسْمَلَةِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ في «الصَّحِيْحَيْن ِ»، حِينَمَا بَعَثَ بِرَسَائِلِهِ إلى هِرَقْل عَظِيمِ الرُّومِ وغَيْرِهِ .
* * *
وقَبْلَ الإدْلافِ إلى مَوَاطِنِ الخِلافِ في ذِكْرِ كِتَابَةِ البَسْمَلَةِ في الرَّسَائِلِ والكُتُبِ وغَيْرِهَا، كَانَ الأوْلَى بِنَا أنْ نَذْكُرَ بَعْضَ مَوَاطِنِ الاتِّفَاقِ، كَمَا يَلي :
لَقَدِ اتَّفَقَ عَامَّةُ أهْلِ العِلْمِ على جَوَازِ كِتَابَةِ البَسْمَلَةِ في أوَّلِ الكُتُبِ والرَّسَائِلِ، والمُخَاطَبَاتِ الخَاصَّةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ في «الفَتْحِ» (1/13) : «وقَدْ اسْتَقَرَّ عَمَلُ الأئِمَّةِ المُصَنَّفِينَ على افْتِتَاحِ كُتُبِ العِلْمِ بِالتَّسْمِيَةِ ، وكَذَا مُعْظَمِ كُتُبِ الرَّسَائِلِ ...» .
لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ ذَكَرَ البَسْمَلَةَ في أوَّلِ خُطَبِهِ العَامَّةِ، بَلْ كَانَ يَبْدَأُ بِالحَمْدَلَةِ على اخْتِلافِ ألْفَاظِهَا .
أنَّهُ كَانَ ﷺ يَقْتَصِرُ في أوَّلِ رَسَائِلِهِ إلى الكَفَرَةِ مِنَ المُلُوكِ والأُمَرَاءِ وغَيْرِهِم؛ على البَسْمَلَةِ فَقَطْ، ولَمْ يَكُنْ يَزِيْدُ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ صِيَغِ الحَمْدَلَةِ .
بَلْ كَانَ يَبْدَأُ بِالبَسْمَلَةِ والحَمْدَلَةِ في أوَّلِ رَسَائِلِهِ الَّتِي كَانَ يَبْعَثُهَا إلى عُمَّالِهِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ، سَوَاءٌ الأُمَراءُ مِنْهُم أوْ القَادَةُ أوْ العُمَّالُ، كَقَوْلِهِ لَهُمْ : «بَعْدَ ذِكْرِ البَسْمَلَةِ، أمَّا بَعْدُ ... فَإنِّي أحْمَدُ اللهَ إلَيْكُم ... إلخ»، ونَحْوِهَا مِنْ صِيَغِ الحَمْدَلَةِ .
4ـ أمَّا إذَا كَانَتِ الرَّسَائِلُ والكُتُبُ مُتَضَمِّنَةً أمُورًا شَرْعِيَّةً؛ فَيُسْتَحَبُّ ذِكْرُ البَسْمَلَةِ اتِّفَاقًا، لأنَّهَا مِنَ الفَضَائِلِ الَّتِي يُسْتَحَبُ ذِكْرُهَا .
لا أعْلَمُ أحَدًا مِنْ أهْلِ العِلْمِ المُعْتَبَرِينَ أوْجَبَ البَسْمَلَةَ في أوَّلِ الرَّسَائِلِ والكُتُبِ .
لَقَدِ اتَّفَقَ عَامَّةُ أهْلِ العِلْمِ على مَنْعِ كِتَابَةِ البَسْمَلَةِ في أوَّلِ الكُتُبِ الَّتِي قَدْ تَضَمَّنَتْ شِرْكِيَّاتٍ أوْ مُحَرَّمَاتٍ .
لأنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللهِ تَعَالَى على شَيْءٍ مِنَ المَعَاصِي يَتَنَافى مَعَ تَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى وتَوْقِيرِهِ، لأنَّ فِيْهِ نَوْعًا مِنَ الاسْتِهْزَاءِ بِاسْمِ اللهِ تَعَالَى في مِثْلِ هَذَا المَوْطِنِ، وسَيَأتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللهُ .
أمَّا مَوَاطِنُ الخِلافِ فَكَثِيرَةٌ، فَمِنْهَا :
إذَا كَانَتْ هَذِهِ الكُتُبُ مُتَضَمِّنَةً رِوَايَاتٍ ومَقَالاتٍ وقَصَصًا، وكَانَ مَوْضُوْعُهَا مُبُاحًا أو حَسَنًا، فَعَامَّةُ أهْلِ العِلْمِ لا يَرَوْنَ حَرَجًا مِنْ بِدَايَتِهَا بِالبَسْمَلَةِ، ولاسِيَّمَا أنَّ في بِدَايَتِهَا تَبَرُّكًا بِذِكْرِ اسْمِ اللهِ تَعَالَى، وأخْذًا بِعُمُومِ ظَاهِرِ أمْرِهِ ﷺ .
وإذَا كَانَتْ كُتُبًا مُتَضَمِّنَةً شِعْرًا مُبَاحًا، فَجُمْهُورُ أهْلِ العِلْمِ أجَازُوا ابْتِدَاءَ البَسْمَلَةِ فِيْهَا .
غَيْرَ أنَّ الإمَامَ الشَّعْبِيَّ رَحِمَهُ اللهُ قَدْ مَنَعَ مِنْ كِتَابَةِ البَسْمَلَةِ في كُتُبِ الشِّعْرِ المُبَاحِ، سَوَاءٌ في أوَّلِهِ أوْ مَعَهُ، وبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ والحَنَابِلَةُ، والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لِعُمُومِ الأمْرِ، وطَلَبِ البَرَكَةِ .
وإذَا كَانَتْ هَذِهِ الرَّسَائِلُ والكُتُبُ قَدْ تَضَمَّنَتْ حَقًّا وبَاطِلًا، فَعَامَّةُ أهْلِ العِلْمِ مِنَ المُحَقِّقِينَ على مَنْعِ كِتَابَةِ البَسْمَلَةِ فِيْهَا .
* * *
قَالَ الشَّيْخُ بَكْرٌ أبَو زَيْدٍ رَحِمَهُ اللهُ في «تَصْحِيحِ الدُّعَاءِ» (47) : «كُلُّ مُحَرَّمٍ أو مَكْرُوهٍ، مِنْ قَوْلٍ أو عَمَلٍ، لا يَجُوزُ افْتِتَاحُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى؛ لِمَا فِيْهِ مِنَ الامْتِهَانِ، وافْتِتَاحِ المَعْصِيَةِ بِالطَّاعَةِ» .
وذَلِكَ مِثْلُ : كِتَابَةِ البَسْمَلَةِ، أمَامَ الشِّعْرِ غَيْرِ الحَسَنِ، واسْتِفْتَاحِ اللِّعْبِ المُحَرَّمِ، والرِّهَانِ المُحَرَّمِ، والبَرَامِجِ المُضِلَّةِ بِالقُرْآنِ، أوْ الحَمْدِ، والصَّلاةِ والسَّلامِ على الرَّسُولِ ﷺ ونَحْوِ ذَلِكَ .
وقَدْ وَصَلَ النَّاسُ في هَذَا إلى حَدِّ العَبَثِ، وعَدَمِ المُبَالاةِ، والتَّغْطِيَةِ على عُقُوْلِ السُّذَّجِ بِمَشْرُوعِيَّة ِ تِلْكَ المُحَرَّمَاتِ؛ بَلْ وَصَلَ الحَالُ إلى : «سُجُودِ المَعْصِيَةِ» عِنْدَمَا يَفُوزُ فَرِيقُ رِهَانٍ على آخَرَ، يَسْجُدُ الفَائِزُ لِتَفَوُّقِهِ المُحَرَّمِ، وهَذَا السُّجُودُ مِنْ أسْبَابِ سَخَطِ اللهِ وعِقَابِهِ، فَاللهُ المُسْتَعَانُ .
وعَنْ مَكْحُولٍ الأزْدِيِّ قَالَ : قُلْتُ لابنِ عُمَرَ : أرَأيْتَ قَاتِلَ النَّفْسِ وشَارِبَ الخَمْرِ والسَّارِقَ والزَّاني؛ يَذْكُرُ اللهَ؟ وقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى : «فَاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ» (البقرة/152)، قَالَ : إنْ ذَكَرَ اللهَ هَذَا، ذَكَرَهُ اللهُ بِلَعْنَتِهِ؛ حَتَّى يَسْكُتَ!» .
وعَلَّقَ على هَذَا الأثَرِ الشَّيْخُ أحْمَدُ شَاكِرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في «عُمْدَةِ التَّفْسِيرِ» (1/273) قَائِلًا : «وهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ حَقٌّ، يَنْطَبِقُ تَمَامًا على مَا يَصْنَعُ أهْلُ الفِسْقِ والمُجُونِ في عَصْرِنَا، مِنْ ذِكْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى في مَوَاطِنِ فِسْقِهِم وفُجُورِهِم، وفِي الأغَاني الدَّاعِرَةِ، والتَّمْثِيلِ الفَاجِرِ الَّذِي يَزْعُمُونَهُ تَرْبِيَةً وتَعْلِيمًا، وفي قَصَصَهِم المُفْتَرَى، الَّذِي يَجْعَلُونَهُ أنَّهُ هُوَ الأدْبُ وَحْدَهُ أوْ يَكَادُونَ، وفي تَلاعُبِهِم بِالدِّينِ، بِمَا يُسَمُّونَهُ : «القَصَائِدَ الدِّينِيَّةَ»، و«الابْتِهَالات ِ» الَّتِي يَتَلاعَبُ بِهَا الجَاهِلُونَ مِنَ القُرَّاءِ، ويَتَغَنُّونَ بِهَا في مَوَاطِنِ الخُشُوعِ وأوْقَاتِ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ؛ حَتَّى لَبَّسُوا على عَامَّةِ النَّاسِ شَعَائِرَ الإسْلامِ، فَكُلُّ أُولَئِكَ يَذْكُرُونَ اللهَ فَيَذْكُرُهُمُ اللهُ بِلَعْنَتِهِ حَتَّى يَسْكُتُوا» انْتَهَى .
وذَكَرَ القِرَافيُّ رَحِمَهُ اللهُ في كِتَابِهِ «الفُرُوْقِ» (1/308) فُرُوْقًا في البَسْمَلَةِ : «الفَرْقُ التَّاسِعَ عَشَرَ بَيْنَ قَاعِدَتَي مَا تُشْرَعُ فِيْهِ البَسْمَلَةُ ومَا لَا تُشْرَعُ فِيْهِ البَسْمَلَةُ .
أفْعَالُ العِبَادِ ثَلَاثَةُ أقْسَامٍ : مِنْهَا مَا شُرِعَتْ فِيْهِ البَسْمَلَةُ، ومِنْهَا مَا لَا تُشْرَعُ فِيْهِ البَسْمَلَةُ، ومِنْهَا مَا تُكْرَهُ فِيْهِ .
فَالأوَّلُ : كَالغُسْلِ والوُضُوءِ والتَّيَمُّمِ على الخِلَافِ وذَبْحِ النُّسُكِ وقِرَاءَةِ القُرْآنِ، ومِنْهُ مُبَاحَاتٌ لَيْسَتْ بِعِبَادَاتٍ : كَالأكْلِ والشُّرْبِ والجِمَاعِ .
والثَّانِي : كَالصَّلَوَاتِ والآذَانِ والحَجِّ والعُمْرَةِ، وكَالأذْكَارِ والدُّعَاءِ .
والثَّالِثُ : كَالمُحَرَّمَات ِ؛ لأنَّ الغَرَضَ مِنَ التَّسْمِيَةِ حُصُولُ البَرَكَةِ في الفِعْلِ المُبَسْمَلِ عَلَيْهِ، والحَرَامُ لا يُرَادُ تَكْبِيرُهُ، وكَذَلِكَ المَكْرُوْهُ» انْتَهَى .


الشيخ الدكتور
ذياب بن سعد الغامدي
صيانة الكتاب
ص 435