تتردَّد بين الحين والآخر في الصحافة أخبارٌ عن حدوث حالات انتحار، تقع مِن بعض أفراد المجتمع، وهي حالاتٌ ليست بكثيرة، ولا قليلة، وإنما هي نادرة، والنَّادر لا حكم له، فإشاعتُه وإبرازُه على أنه ظاهرةٌ ليس من العقل ولا الحكمة، فضلا عن أنه عملٌ معيب، بل وهو منكرٌ من الفعل

وقد حذَّرنا الله تعالى مِن نشر المناكر، فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فإذا كان الواحدُ منَّا لا يُحبُّ أنْ يُقال أن أحد أفراد أسرته قد انتحر، ولا يُحبُّ أن يُقال إن أحد أفراد قبيلته قد انتحر، فينبغي أن لا يحبُّ كذلك أن يقال بأن أحد أبناء مجتمعه قد انتحر

فالمؤمن لا يحب أن يُشيع خبر السوء، لا عن نفسه ولا عن بلده، ولا عن أحدٍ من إخوانه المسلمين، فشيوع أخبار السُّوء قد يُخفِّفُ من وَقْعِها على النفوس، فتزول الرَّهبة من الإقدام عليها، بخلاف سَترها، فإنه وازعٌ قد يَزع النفوس عن تذكُّرها، وقد بين الله تعالى لنا في آخر الآية أننا نحسب أنَّ التَّحدُّثَ بأخبار السُّوء أمرٌ هيِّن، لِقلَّة عِلْمنا بخطر نشْر قالةِ السُّوء، فقال لنا: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)

فلْتَحذر أيها القارئ الكريم من نشر مثل هذه الأخبار، ولْتحذر الصحافة من نشرها كذلك، فضلا عن تضخيمها بعناوين مرعبة، فضلا عن إبرازها وكأنها ظاهرةٌ طبيعية، ثم إن اتِّهام إنسان بالانتحار هو أنْ نحكم على إنسان أنه أقدم على الموت بفعل نفسه قاصداً بذلك إنهاء حياته، ضيقاً من هموم الدنيا وقنوطاً من رحمة الله، وقد أحببت بهذه المناسبة أن أنـبِّـه إلى حقيقتين شرعيَّتين

الأولى أنَّ قصدَ الانتحار، مما يَـصْعُبُ إثباته
والآخر، أنَّ الأصل في المسلم أنه لا يمكن أن يُقدم على هذا العمل ما دام مكتمل الوعي تامَّ الإدراك، أما صعوبة إثبات الانتحار، فلأنَّ القاعدة في الشريعة الإسلامية أن الشيء كلما عَظُمَ قدْرُهُ واشتدَّ خَطَرُهُ بالَغَ الشرعُ في إبعاده وتردَّد في قبول دلائله وبـيِّـناته، احتياطاً لحرمة الأديان والنفوس والأعراض، ولعل أَجْلى مثالٍ لذلك، هو احتياطُ الشرع في إثبات واقعة الزنا، لعظيم قدْرها وشدَّة خطورتها

فهي فضيحةٌ على الرجل، وفضيحة على المرأة، وفضيحةٌ على أولادهما وأهليهما، ولذلك منع الإسلامُ التقوُّل على الآخرين بغير برهان ولا حجَّة، بل شَرَع حدَّ القذف في حق مَن ألصق تهمة الزنا بمسلم، ما لم يُثبت كلامه بـبـَيِّـنةٍ معتبرة، فالتقوُّل على الآخرين شأنه خطير وضرره دائم
كما قال النعمان بن المنذر: (قد قيل ذلك إنْ حقّاً وإن كذِباً***** فما اعتذارُك مِن شيءٍ إذا قيلا)

وإنما كان التغليظ في حق القاذف، لأنه قولٌ بالظنِّ غير الجازم، وقديماً قال أكثم بن صيفي كلمةً، صارت مثلاً لمن ظهر للناس منه أمرٌ أنكروه عليه، فقال: (رُبَّ مَلومٍ لا ذنب له) فمن الذي يملك أن يثبت أن هذا المتَّهَم بالانتحار قَصَدَ هذا الفعل الذي أدَّى إلى وفاته، ونحن نعلم أن الـقُصُـودَ والنِّيَّات أمرٌ خفِيٌّ لا يُـطَّـلَعُ عليه، ولا يعلمه إلا الله سبحانه

فمن يَملك أنْ يُثبت أنَّ هذا المتَّهَم كان في حالة نفسية صحيحة، وإذا كان في حال نفسيَّة سويَّة، فهل هذا الفعل يفضي إلى الهلاك يقيناً؟ وإذا كان يفضي إلى الهلاك يقيناً فهل يعلم المتوفَّى ذلك، بحيث أقدم على هذا الفعل ليقتل نفسه، أم أنه قصد مجرَّد إلحاق الأذى بنفسه؟

وإلحاق الأذى بالنفس عملٌ محرم شرعاً، غير أنه لا يدل على قنوط صاحبه من رحمة الله، فهذه كلها شُـبـَــهٌ محتملة، فيَحْرُم علينا أن نطلق عليه تهمةَ الانتحار جزافاً، فرحمة الله واسعة، وعفْوُه يشمل ما دَقَّ من الذنوب وما عَظُمَ

فلا يجوز أن نَتَألَّـى على الله ونضـيِّـق رحمته، فهذا التألِّي هو الذنب الذي لا ذنب مثله، فرَبُّ العالمين أَرْأَفُ بعبادِه من الأمِّ بوليدها، وأمَّا أنَّ المسلم لا يفعل مثل هذا العمل، فلأن الانتحار إنما هو مظهرٌ تتجلَّى فيه حقيقةٌ نفسية، وهي إساءة الظن بالله تعالى باعتقاد أنَّ في رحمته سبحانه قصوراً عن أن تَـسَعَ ذنوب العباد، هذا العمل لا يقوم به المسلم لأسباب ثلاثة، بيانها في المقال القادم إن شاء الله .




ذكرتُ في المقال السابق أنَّ الانتحار مظهرٌ لإساءة الظنِّ بالله تعالى، باعتقاد أنَّ رحمته أضْيَق مِن أنْ تَـسَعَ ذنوب العباد، وأنَّ المسلم لا يُقْدم على الانتحار، لأسباب ثلاثة

الأول: أن الله تعالى حين أخرج الإنسان إلى هذا العالم وبثَّ فيه الروح، اقتضت حكمته البالغة أن يجعل هذه الروح تتعشَّـق هذا الجسد فتتعلَّق به تعلُّـقاً شديداً، فيصعب بسبب هذا التَّعلُّق أن يعمد أحدٌ إلى إخراج روحِهِ مِن جسدِه، فما تعلَّق شئٌ بشيء، كتعلُّق الروح بالجسد، هذا الجسد الذي جعله الله محلاً تسكن فيه الروح فحُبِسَتْ فيه، وربما كان هبوطها وحَبْسها فيه عن كُرهٍ منها لـه، غير أنها سرعان ما تعشَّقَتْهُ وتعلَّقت به، فعزَّ عليها أنْ تفارقه

كما قال أبو علي بن سينا:
(وَصَلتْ على كَـرهٍ إليك ورُبَّـما***كرهت فراقَك وَهْيَ ذاتُ تَوَجُّعِ)
ومن أجل هذا المعنى نجد الروح تُنازِع وهي تخرج من الجسد، ويعاني الإنسانُ مِن خروجها شدَّةً، لِـقوَّة تعلُّقها بالجسد، كما قال سبحانه: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الموْتِ بِالحقِّ) فسمَّاها اللهُ سَكرةً، لشدَّة وَقْعِها

والسبب الثاني: أن هذا العمل محرَّم بالإجماع، فالحفاظ على الحياة مُعظَّمٌ في الإسلام، فقد قال الله سبحانه: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وقد نقل الإمام شهاب الدين القرافيُّ الإجماعَ على تحريم قَتْل الإنسان نفسَه، وإنْ كان ذلك تسهيلاً عليه وإراحةً له من أَلَمِ الوجع، حين يصل به المرض إلى حدٍّ لا يُرجى شفاؤه، قال القرافي: (وإن اشتدَّ ألَـمُـه) فشرع اللهُ مِن أجل حفظ الحياةِ حَدَّ القصاص، لينكفَّ الناسُ عن هذه الفعلة
وسمَّى القصاصَ “حياة” لأنه سببٌ لحفْظِها فقال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ثم إنَّه سبحانه أباح النُّطقَ بكلمة الكفر في سبيل حفظ النفس فقال: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيـمَانِ)

والسبب الثالث: أنَّ المسلم لا يقف من الحياة على مصيرٍ مجهول، فلا يرى فيها نهايةَ المطاف، لأنه يعلم أنها ممرٌّ ودهليز إلى حياة أبدية، فهي عنده مرحلةٌ زمنية يستثمرها لما وراءَها، وفرصة للتعبير عن ولائه لخالقه وبارئه، فإذا حلَّتْ بالمؤمن نعمُ الله ومِنَنُه رأى فيها كرمَ الله وفضْله، وإذا نزل البلاء به، وأطبق عليه الكَرْبُ، وأظلمت الدنيا أمامه، فإنه لا يرى في ذلك كلِّه ما يوجب شقاءً ولا بؤساً، بل يرى في هذه المآسي مَظهراً لسطْوة الله وقَهْره

فالأمر كما قال ابن عطاء الله السكندري: (إذا أعطاكَ أشهدك بِرَّهُ، وإن مَـنَعَك أشهدك قهْرَهُ) ومن أجل هذا المعنى فإن الصحابي الجليل عمرانَ بن الحصين رضي الله عنه حين نزل به مرضٌ أَقْعَده ثلاثين سنة على الفراش، جاءه أخوه العلاءُ يعوده، فبكَى العلاءُ على حال أخيه، فقال عمران: (لا تبكِ يا أخي، فإنَّ أحبَّه إلى الله أحبُّه إليَّ) فما أقْواه مِن إيمان، ذلك أنَّ الشأن في المؤمن أنَّه يعلم حقيقةَ الحياة، فلا يركن إليها، ولا تجدُه يلهث وراء سراب مُتَعها ولذائذها

إنَّ جهل الإنسان بحقيقته وحقيقة الحياة التي يحياها هو الخميرة الأوَّلية لتقليعة الانتحار، ذلك أن الذي لم يعرف حقيقة الحياة فإنَّه سيقف منها أمام عالَمٍ مجهول، وسينظر من خلالها إلى مصير مظلم، أشبه برَجلٍ جـيء به مِن بلادٍ نائية، لم يسمع عن شئ اسْمُه سيَّارة ولا قاطرةٍ ولا طيَّارة، ثم عُصِبتْ عيناه، ووُضِـعَ داخل قطار يسير فيه بسرعةٍ واضطراب، ولك أخي القارئ الحصيف أنْ تتصوَّر الحيرةَ التي تعتريه، والقلق الذي يستبدُّ به، وهكذا الشَّأن فيمن كفر بالله، إنه قد يغفل قليلا، وقد يسلو عن القلق حين تُشغله عن حيرته بحديثك، ولكنه كلما ابتعدتَ عنه، وزال عنه ما يُشغله، أو جَنَّ عليه الليل، عاد يفكِّر في مصيره والغاية من وجوده، واستبَدَّ به الكَرْب أَيما استبداد، وربما أنشد:
(جئتُ لا أعلمُ مِن أينَ ولكنِّي أتيتْ***ولقد أبصرتُ قدَّامي طريقاً فمشيتْ)
(وسأبقى سائراً إنْ شئتُ هذا أم أبيتْ) (كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري !!!)

ولنا أنْ نأخذ العبرةَ مِن فتاةٍ تُدْعى “إميلي براملت” كانت تعيش حياة تعيسة، ترى أنها معذَّبة، تتقاذفها رياح القلق والاضطرابات النفسية، وكم فكَّرَتْ في الانتحار، لشدَّة وقْع المصائب عليها، فلمَّا مَنَّ اللهُ عليها بالإسلام انقلب الضَّياع والاضطراب في حياتها إلى طمأنينة وسكينة، وتحوَّل الشَّقاءُ والبؤس إلى سعادةٍ وأُنْس، فكتبَتْ قصَّتَها في كتاب عنوانه: (آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ)

http://www.qaisalmubarak.com/qais/ar/News?NType=8