سورة آل عمران
مدنية وآياتها مائتان
[سورة آل عمران {3}: الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم {1} اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ {2}
"الم*اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ"{[1]}.
إنما فتح الميم في المشهور، وكان حقها أن يوقف عليها، لإِلقاء حركة الهمزة عليها، ليدل على أنها في حكم الثابت، لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج، فإن الميم في حكم الوقف، كقولهم واحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال، لا لالتقاء الساكنين، فإنه غير محذور في باب الوقف، ولذلك لم تحرك الميم في لام. وقرئ بكسرها على توهم التحريك لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو بكر بسكونها، والابتداء بما بعدها على الأصل.
"الْحَيُّ الْقَيُّومُ ": روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور في البقرة الله لاَ إله إِلاَّ هو الحي القيوم، وفي آل عمران الله لاَ إله إِلاَّ هو الحي القيوم، وفي طه وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَىِّ القيوم»
[سورة آل عمران {3}: الآيات 3 الى 4]
قوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ {3} مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ {4}}
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ} القرآن نجوماً{[2]}.
{بِالْحَقِّ} بالعدل، أو بالصدق في أخباره، أو بالحجج المحققة أنه من عند الله وهو في موضع الحال.
{مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب.
{وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ} جملة على موسى وعيسى. واشتقاقهما من الورى والنجل، ووزنهما بتفعلة وافعيل تعسف لأنهما أعجميان فلا يمكن وزنهما على الاوزان العربية{[3]}، ويؤيد ذلك أنه قرئ «الأنجيل» بفتح الهمزة، وهو ليس من أبنية العربية، وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان، والكسائي التَّوْراةَ بالإِمالة في جميع القرآن، ونافع وحمزة بين اللفظين إِلاَّ قَالُون فإنه قرأ بالفتح كقراءة الباقين.
{مِنْ قَبْلُ} من قبل تنزيل القرآن.
{هُدىً لِلنَّاسِ} على العموم، إن قلنا إنا متعبدون بشرع من قبلنا، وإلا فالمراد به قومهما "اليهود والنصارى"{[4]}.
{وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ} يريد به جنس الكتب الإِلهية، فإنّها فارقة بين الحق والباطل، ذكر ذلك بعد ذكر الكتب الثلاثة ليعم ما عداها، كأنه قال: وأنزل سائر ما يفرق به بين الحق والباطل، أو الزبور أو القرآن.
وكرر ذكره بما هو نعت له مدحا وتعظيماً، وإظهاراً لفضله، من حيث إنه يشاركهما في كونه وحياً منزلاً، ويتميز بأنه معجز يفرق بين المحق والمبطل، أو المعجزات.
محاضرة:
وقيل يقصد بالفرقان: اللوح المحفوظ، أو القران الكريم، وقد يقصد به جميع الكتب السابقة
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ} من كتبه المنزلة وغيرها.
{لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ} بسبب كفرهم.
{وَاللَّهُ عَزِيزٌ} غالب لا يمنع من التعذيب.
{ذُو انْتِقامٍ} لا يقدر على مثله منتقم، والنقمة عقوبة المجرم، والفعل منه نقم بالفتح، والكسر، وهو وعيد جيء به بعد تقرير التوحيد، والإشارة إلى ما هو العمدة في إثبات النبوة تعظيماً للأمر، وزجراً عن الإعراض عنه.

سـ: لمَ ذيل الآية بقوله: "والله عزيز ذو انتقام"؟
الإجابة:
لأنه لما بين في أول الآية أن هناك من كفر بكتبه المنزلة على أنبيائه السابقين، أثبت أن هؤلاء يستحقون العذاب الشديد، وهو من عند الله غالب لا يهزم، وللرد على زعم اليهود والنصارى ان الله لن يعذبهم، وأنهم وحدهم من يدخلون الجنة؛ {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ {5} هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {6}
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ} أي: شيء كائن في العالم كلياً كان، أو جزئياً، إيماناً، أو كفراً. فعبَّر عنه بالسماء والأرض إِذ الحس لا يتجاوزهما، وإنما قدم الأرض ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، ولأن المقصود بالذكر ما اقترف فيها. وهو كالدليل على كونه حياً.

سـ: ما الذي تفيده شيء، ولم قدم الأرض على السماء؟
الإجابة:
محاضرة: شيء هنا تفيد العموم، والعموم هنا باعتبار ان: أي: شيء كلي أو جزئي.
بدأ بالأرض لأن هذا الامر هو المحسوس، ولأن فيها حياة الناس ومماتهم.

وقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ} أي: من الصور المختلفة، كالدليل على القيومية، والاستدلال على أنه عالم بإتقان فعله في خلق الجنين وتصويره. وقرئ «تصوركم» أي: صوركم لنفسه وعبادته، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ، إذ لا يعلم غيره جملة ما يعلمه، ولا يقدر على مثل ما يفعله، الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إشارة إلى كمال قدرته، وتناهي حكمته. قيل: هذا حجاج على من زعم أن عيسى كان رباً، فإِن وفد نجران لما حاجوا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزلت السورة، من أولها إلى نيف وثمانين آية تقريراً لما احتج به عليهم وأجاب عن شبههم.

وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أم الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أولوا الْأَلْبابِ}
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ} أحكمت عبارتها بأن حفظت من الإِجمال والاحتمال.
{هُنَّ أم الْكِتابِ} أصله يرد إليها غيرها، والقياس أمهات، فأفرد على تأويل كل واحدة، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة.

سـ: والفرق بين أمهات وامات؟ وما المراد بأم الكتاب؟
الإجابة:
أن "أمّهات للعاقل، وأُمّات لغير العاقل" فمن الخطأ ان نقول أمهات الكتب، بل أمات.
وَلَمْ يَقُلْ أُمَّهَاتِ الْكِتَابِ، لأن الْآيَاتِ كُلَّهَا فِي تَكَامُلِهَا، وَاجْتِمَاعِهَا كَالْآيَةِ الْوَاحِدَةِ، وَكَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كُلُّ آيَةٍ مِنْهُنَّ أم الْكِتَابِ كَمَا قَالَ: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}: أي: كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آيَةً.
{وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} محتملات، لا يتضح مقصودها لإِجمال أو مخالفة ظاهر، إلا بالفحص، والنظر، ليظهر فيها فضل العلماء، فالراجح عند البيضاوي أن العلماء يعرفون المتشابه، ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها، وتحصيل العلوم المتوقف عليها، استنباط المراد بها، فينالوا بها. وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها، والتوفيق بينها وبين المحكمات. معالي الدرجات.
وأما قوله تعالى: {الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ} فمعناه أنها حفظت من فساد المعنى، وركاكة اللفظ، وقوله: "كِتاباً مُتَشابِهاً" فمعناه أنه يشبه بعضه بعضاً في صحة المعنى، وجزالة اللفظ، {وَأُخَرُ} جمع أخرى، وإنما لم ينصرف{[5]}، لأنه وصف معدول عن الآخر، ولا يلزم منه معرفته، لأن معناه أن القياس أن يعرف، ولم يعرف لا أنه في معنى المعرف، أو عن {أُخَرُ} مِن{[6]}.
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} عدول عن الحق كالمبتدعة.
{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ} فيتعلقون بظاهره، أو بتأويل باطل، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ، طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم، بالتشكيك والتلبيس، ومناقضة المحكم بالمتشابه.
{وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ} وطلب أن يؤولوه على ما يشتهونه، ويحتمل أن يكون الداعي إلى الاتباع مجموع الطلبتين، أو كل واحدة منهما على التعاقب. والأول يناسب المعاند، والثاني يلائم الجاهل.
{وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} الذي يجب أن يحمل عليه.
{إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أي: الذين ثبتوا وتمكنوا فيه،
ومن وقف على {إِلَّا اللَّهُ} فسر المتشابه بما استأثر الله بعلمه: كمدة بقاء الدنيا، ووقت قيام الساعة، وخواص الأعداد كعدد الزبانية، أو بما دلّ القاطع على أن ظاهره غير مراد ولم يدل على ما هو المراد.
محاضرة: "والواو " في {والراسخون} للاستئناف، والالف واللام للمدح، "والراسخون" مبتدأ، {كل من عند ربنا} خبر.
{والراسخون في العلم}: يعلمون بعضا من المتشابه الذي يحتمل التأويل، أما الذي لا يحتمل، فإنهم لا يعرفونه، ودليل ذلك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل.
{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} استئناف موضح لحال الراسخين، أو حال منهم، أو خبر، أن جعلته مبتدأ.
{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا} أي: كل من المتشابه والمحكم من عنده.
{وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أولوا الْأَلْبابِ} مدح للراسخين بجودة الذهن، وحسن النظر.
وإشارة إلى ما استعدوا به للاهتداء إلى تأويله، وهو تجرد العقل عن غواشي الحس، واتصال الآية بما قبلها من حيث إنها في تصوير الروح بالعلم وتربيته، وما قبلها في تصوير الجسد وتسويته، أو أنها جواب عن تشبث النصارى بنحو قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}.
كما أنه جواب عن قوله لا أب له غير الله، فتعين أن يكون هو أباه بأنه تعالى مصور الأجنة، كيف يشاء، فيصور من نطفة أب، ومن غيرها، وبأنه صوره في الرحم، والمصور لا يكون أب المصور.

[سورة آل عمران: الآيات 8 الى 9] {رَبَّنا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ {8} رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ {9}}
{رَبَّنا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا} من مقال الراسخين، ومن جملة كلامهم.
وقيل: استئناف، والمعنى لا تزغ قلوبنا عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه قال عليه الصلاة والسلام «قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه على الحق، وإن شاء أزاغه عنه».
وقيل: لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا.
{بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا} إلى الحق والإِيمان بالقسمين. من الحكم والمتشابه.
إعرابها: وبعد نصب على الظرف، وإذ في موضع الجر بإضافته إليه. وقيل إنه بمعنى إن.
{وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} تزلفنا إليك، ونفوز بها عندك، أو توفيقاً للثبات على الحق أو مغفرة للذنوب.
{إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} لكل سؤل، وفيه دليل على أن الهدى والضلال من الله، وأنه متفضل بما ينعم على عباده، لا يجب عليه شيء.
{رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ} لحساب يوم، أو لجزائه. لاَ رَيْبَ فِيهِ في وقوع اليوم، وما فيه من الحشر والجزاء، نبهوا به على أن معظم غرضهم من الطلبتين ما يتعلق بالآخرة، فإنها المقصد والمآل، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ، فإن الإِلهية تنافيه، وللإِشعار به، وتعظيم الموعود، لون الخطاب؛ واستدل به الوعيدية!
وأجيب بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو، لدلائل منفصلة، كما هو مشروط بعدم التوبة، وفاقاً.

[سورة آل عمران: الآيات 10 الى 11] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أولادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ {10} كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ}
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} عام في الكفرة. وقيل: المراد به وفد نجران، أو اليهود، أو مشركوا العرب.
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أولادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي: من رحمته، أو طاعته على معنى البدلية، أو من عذابه.
{وَأولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} حطبها. وقرئ بالضم بمعنى أهل وقودها.
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} متصل بما قبله، أي: لن تغن عن أولئك، أو توقد بهم، كما توقد بأولئك، أو استئناف مرفوع المحل تقديره دأب هؤلاء كدأبهم في الكفر والعذاب، وهو مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فنقل إلى معنى الشأن.
{وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} عطف على آلِ فِرْعَوْنَ. وقيل استئناف.
{كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} حال بإضمار قد، أو استئناف بتفسير حالهم، أو خبر إن ابتدأت بالذين من قبلهم.
{وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ} تهويل للمؤاخذة، وزيادة تخويف الكفرة.

[سورة آل عمران: آية 12] {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12)}.
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ} أي: قل لمشركي مكة، ستغلبون يعني يوم بدر، وقيل لليهود فإنه عليه الصلاة والسلام جمعهم بعد بدر في سوق بني قينقاع فحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش، فقالوا: لا يغرنك أنك أصبت أغماراً لا علم لهم بالحرب، لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس، فنزلت.
وقد صدق الله وعده لهم بقتل قريظة، وإجلاء بني النضير، وفتح خيبر، وضرب الجزية على من عداهم، وهو من دلائل النبوة.
وقرأ حمزة، والكسائي بالياء فيهما على أن الأمر بأن يحكي لهم ما أخبره به، من وعيدهم بلفظه.
{وَبِئْسَ الْمِهادُ} تمام ما يقال لهم، أو استئناف، وتقدير بئس المهاد، جهنم أو ما مهدوه لأنفسهم.

[سورة آل عمران: آية 13] {قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأولي الْأَبْصارِ}
{قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ} الخطاب لقريش أو لليهود، وقيل للمؤمنين.
{فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا} يوم بدر.
{فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ} يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين، وكان قريباً من ألف، أو مثلي عدد المسلمين وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وذلك كان بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترءوا عليهم، وتوجهوا إليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا مدداً من الله تعالى للمؤمنين، أو يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم، ويتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله به في قوله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}.
ويؤيده قراءة نافع ويعقوب بالتاء وقرئ بهما على البناء للمفعول أي: يريهم الله، أو يريكم ذلك بقدرته، وفئة بالجر على البدل من فئتين والنصب على الاختصاص، أو الحال من فاعل التقتا.
{رَأْيَ الْعَيْنِ} رؤية ظاهرة معاينة.
{وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ} نصره كما أيد أهل بدر.
{إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: التقليل والتكثير، أو غلبة القليل عديم العدة في الكثير شاكي السلاح، وكون الواقعة آية أيضا يحتملها، ويحتمل وقوع الأمر على ما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
{لَعِبْرَةً لِأولي الْأَبْصارِ} أي: لعظة لذوي البصائر. وقيل لمن أبصرهم.

[سورة آل عمران: آية 14] {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)}
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ} أي: المشتهيات، سماها شهوات مبالغة، وإيماء على أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحبوا شهوتها، كقوله تعالى: {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} والمزين: هو الله تعالى، لأنه الخالق للأفعال، والدواعي، ولعله زينه ابتلاء، أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية، إذا كان على وجه يرتضيه الله تعالى، أو لأنه من أسباب التعيش، وبقاء النوع. وقيل الشيطان فإن الآية في معرض الذم. وفرق الجبائي بين المباح والمحرم.

{مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ} بيان للشهوات، والقنطار المال الكثير. وقيل مائة ألف دينار. وقيل ملء مسك ثور. واختلف في أنه فعلال أو فنعال، والمقنطرة مأخوذة منه للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة. والمسومة المعلمة من السومة وهي العلامة، أو المرعية من أسام الدابة وسومها، أو المطهمة. والأنعام الإِبل والبقر والغنم.
{ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا} إشارة إلى ما ذكر.
{وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} أي: المرجع، وهو تحريض على استبدال ما عنده من اللذات الحقيقية الأبدية بالشهوات المخدجة الفانية.


[1] لما كان أول أغراض هذه السورة، الذي نزلت فيه، هو قضية مجادلة نصارى نجران، حين وفدوا إلى المدينة، وبيان فضل الإسلام على النصرانية، لا جرم افتتحت بحروف التهجي، المرموز بها إلى تحدي المكذبين بهذا الكتاب، وكان الحظ الأوفر من التكذيب بالقرآن للمشركين منهم، ثم للنصارى من العرب، لأن اليهود الذين سكنوا بلاد العرب، فتكلموا بلسانهم، لم يكونوا معدودين من أهل اللسان، ويندر فيهم البلغاء بالعربية مثل السموأل، وهذا وما بعده إلى قوله: إن الله اصطفى آدم ونوحا [آل عمران: 33] تمهيد لما نزلت السورة بسببه، وبراعة استهلال لذلك.
وجيء بالاسم العلم: لتربية المهابة عند سماعه، ثم أردف بجملة "لا إله إلا هو"، جملة معترضة أو حالية، ردا على المشركين، وعلى النصارى خاصة، وأتبع بالوصفين "الحي القيوم" لنفي اللبس عن مسمى هذا الاسم، والإيماء إلى وجه انفراده بالإلهية، وأن غيره لا يستأهلها، لأنه غير حي، أو غير قيوم، فالأصنام لا حياة لها، وعيسى في اعتقاد النصارى قد أميت، فما هو الآن بقيوم ولا هو في حال حياته بقيوم على تدبير العالم، وكيف وقد أوذي في الله، وكذب، واختفى من أعدائه. وقد مضى القول في معنى الحي القيوم في تفسير آية الكرسي.
[2] نزل بالتشديــــــــ ــــــــــــــد يدل على انه نزل مفرقا، أنزل لمن نزل جملة واحدة في الغالب.
[3] هل القرآن استعمل كلمات غير عربية ام لا؟ لا: لأنها بمجرد نزولها ف القرآن واستعملها فصحاء العرب، انتقلت من العجمة الى العربية.
[4] ـ ذهب بعض الأصوليين إلى أنه ليس بحجة مستدلين بقول الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} المائدة: 48. وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة». رواه مسلم. وذهب الجمهور إلى أنه حجة، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {أولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الأنعام:90. وبما في صحيح البخاري وغيره: «أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية امرأة، فطلبوا الأرش وطلبوا العفو فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله؟ لا، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال: يا أنس كتاب الله القصاص، فرضي القوم وعفوا». الحديث. والذي في كتاب الله تعالى هو ما كتبه الله تعالى في التوراة على أهل الكتاب من قبلنا، في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]. فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم بشرائع الأنبياء السابقين إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة التي استدلوا بها.
وذهب بعضهم إلى التفصيل فقال: إن شريعة إبراهيم، وما ورد في القرآن والسنة من شرائع الأنبياء على وجه المدح والتقرير والسكوت عليه دون مخالفة فهو حجة يجب الأخذ بها، لقول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123].
وإلى هذا الخلاف أشار ابن عاصم المالكي الأندلسي في مرتقى الأصول بقوله:
وقيل هل في شرع من عنا مضى **** شرع لنا في غير ما الشرع اقتضى
بالمنع، والجواز، والتفصيل **** بمنع غير شرعة الخليل.
والراجح ـ إن شاء الله تعالى ـ هو مذهب الجمهور لكثرة الأدلة، ووضوحها، وهو أن شرع من قبلنا شرع لنا مالم يكن في شرعنا ما يخالفه، كما قال أهل العلم.
[5] تعريف الممنوع من الصرف: هو اسم معرب، لا يقبل التنوين، وتكون علامة جره الفتحة، نيابة عن الكسرة، وأخر هنا ممنوعة من الصرف، أي امتنع من التنوين، للوصفية والعدل.
[6] قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: إِنَّ أُخَرُ فارقت أخواتها في حكم واحد، وذلك أن أُخَرَ جَمْعُ أُخْرَى، وَأُخْرَى تَأْنِيثُ آخَرَ، وَآخَرُ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، وَمَا كَانَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مَعَ مِنْ أَوْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَيُقَالُ: زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو، وَزَيْدٌ الْأَفْضَلُ، فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ مُعَقِّبَتَانِ لِمِنْ فِي بَابِ أَفْعَلَ، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ آخَرُ مِنْ عَمْرٍو، أَوْ يُقَالُ: زَيْدٌ الْآخَرُ إِلَّا أَنَّهُمْ حَذَفُوا مِنْهُ لَفْظَ مِنْ لِأَنَّ لَفْظَهُ اقْتَضَى مَعْنَى مِنْ فَأَسْقَطُوهَا اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ مُعَاقِبَتَانِ لِمِنْ، فَسَقَطَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَيْضًا فَلَمَّا جَازَ اسْتِعْمَالُهُ بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ صَارَ أُخَرَ فَأُخَرُ جَمْعُهُ، فَصَارَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مَعْدُولَةً عَنْ حُكْمِ نَظَائِرِهَا فِي سُقُوطِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَنْ جَمْعِهَا وَوُحْدَانِهَا.