من المعلوم أن الحافظ ابن الملقن، وكذا الحافظ ابن حجر الحافظ ذهبا إلى القول بعدم رواية الإمام مالك لحديث:"إنما الأعمال بالنيات" في الموطأ وتوهيم الحافظ ابن دحية في قوله بأن الإمام مالك أخرجه في الموطأ، فقد قال في الحافظ ابن الملقن في "التوضيح" (2/133):"ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمد عليها من لم يخرجه سوى الإمام مالك فإنه لم يخرجه في "موطئه". نعم رواه خارجه ، كما علمته من طرق هؤلاء الأئمة، وقد أخرجه من حديثه الشيخان -كما سلف- ووهم ابن دحية الحافظ في "إملائه" فقال على هذا الحديث: أخرجه مالك في "الموطأ" ورواه الشافعي عنه، وهذا عجيب منه". وكذا قال في "البدر المنير" (1/656).
أما الحافظ في "الفتح" (1/11) فقال: "ووهم من زعم أنه في الموطأ مغتراً بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك"، وقال أيضاً في "التلخيص" (1/ 218):"ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة من لم يخرجه سوى مالك فإنه لم يخرجه في الموطأ وإن كان ابن دحية وهم في ذلك فادعى أنه في الموطأ نعم رواه الشيخان والنسائي من حديث مالك". وقد تبعهما على ذلك البدر العيني، والحافظ الناجي، فقال البدر العيني في "عمدة القاري" (1/55): "ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمد عليها من لم يخرجه سوى مالك فإنه لم يخرجه في "موطئه"، ووهم ابن دحية الحافظ، فقال في "إملائه" على هذا الحديث: أخرجه مالك في "الموطأ"، ورواه الشافعي عنه، وهذا عجيب منه". وقال الحافظ الناجي في "عجالة الإملاء" (ص/31): "... لكنه ليس في "الموطأ"، وإن كان البخاري ومسلم قد روياه عن القعنبي، والنسائي عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، كلهم عن الإمام مالك، فتوهم الحافظ ابن دحية أنه في "الموطأ"، فوهم". وقد رد ذلك الحافظ السيوطي بقوله في "منتهى الآمال شرح حديث إنَّما الأعمال" (ص/38):"لم يهم ، فإنَّه لم يكن في الرِّوايات الشَّهيرة ، فإنَّه في رواية محمَّد بن الحسن ... وتاريخ النُّسخة الَّتي وقفت عليها مكتوبة في صفر سنة (574) ، وقد رأيت فيها أحاديث يسيرة زائدة عن الرِّوايات المشهورة ، وهي خالية من عدَّة أحاديث ثابتة في سائر الرِّوايات". وقال في "تنوير الحوالك" (ص/9):"قلت:وقد وقفت على الموطأ من روايتين أخريين سوى ما ذكر الغافقي إحداهما رواية سويد بن سعيد، والأخرى رواية محمد بن الحسن صاحب أبي حنيقة وفيها أحاديث يسيرة زيادة على سائر الموطآت منها حديث:"إنما الأعمال بالنيات" الحديث. وبذلك يتبين صحة قول من عزا روايته إلى الموطأ ووهم من خطأه في ذلك". وقد وصف الكتاني في "الرسالة المستطرفة" (ص/14) الموطأ برواية محمد بن الحسن بقوله:"ومن جملتها رواية محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة وفي موطئه أحاديث يسيرة يرويها عن غير مالك وأخرى زائدة على الروايات المشهورة وهي أيضا خالية عن عدة أحاديث ثابتة في سائر الروايات".
والحديث رواه محمد بن الحسن عن مالك في "الموطأ" (982) قال : أخبرنا مالك أخبرنا يحيى بن سعيد أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي قال : سمعت علقمة بن أبي وقاص يقول : سمعت عمر بن الخطاب يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئٍ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
والذي يهمنا هو صنيع الحافظ ابن الملقن، والحافظ ابن حجر، الذي يفيد أنهما لم يبحثا في موطأ مالك برواية محمد بن الحسن، وإلا لوقفا على الحديث فيه وما قالا:"فإنه لم يخرجه في الموطأ". إلا أن يقال:إنهما وقفا على الحديث برواية محمد بن الحسن، ولكن ترجح عندهما أن من زيادات محمد بن الحسن، على الموطأ وعليه فإنها من رواية مالك لهذا الحديث خارج الموطأ، وإما أنهما لم يقنعا بتفرد محمد بن الحسن بهذا الحديث، عن سائر رواة الموطأ، لما فيه من كلام من قبل حفظه، ولكنهما -أي الحافظ ابن الملقن، والحافظ ابن حجر- لم يذكرا محمد بن الحسن بل أطلقا عدم إخراجه في الموطأ، مما يرجح عدم اطلاعهما على رواية محمد بن الحسن للموطأ، ثم إن الحافظ ابن حجر من مصادره في "الفتح" الموطأ برواية محمد بن الحسن فمن ذلك عند الحديث (5353) قال البخاري: حدثنا يحيى بن قزعة، حدثنا مالك، عن ثور بن زيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار"، قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 499):"قوله عن ثور بن زيد في رواية محمد بن الحسن في الموطأ عن مالك أخبرني ثور".
والحديث في "موطأ مالك رواية محمد بن الحسن الشيباني" (ص/337):"أخبرنا مالك، أخبرني ثور بن زيد الديلي، عن أبي الغيث مولى أبي مطيع، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". فالحافظ يعتمدها ويأخذ منها التصريح بالإخبار.
فالظاهر أن الحافظ ابن حجر لم يرجع إليه عند الكلام على حديث:"إنما الأعمال بالنيات"، ثم فيما يتعلق بالحافظ ابن دحية في عزوه الحديث للموطأ، فهو لم يصرح في أي رواية من روايات الموطأ وجدها، وهذا لا يهمنا كثيراً؛ وخاصة أن أبا نعيم أخرج الحديث في "حلية الأولياء" (6/ 342) وقال:"ومشهوره وصحيحه ما في موطأ مالك، عن يحيى بن سعيد"، فهذا تصريح منه بأن الحديث رواه مالك في "الموطأ"، فيتطابق مع رواية محمد بن الحسن، ومع ما ذهب إليه ابن دحية، ولا يقال إن ابن دحية يقصد رواية يحيى بن يحيى، بالذات لشهرتها؛ فلذلك وهمه ابن الملقن وابن حجر في ذلك، كما قال الدكتور/ رضا بن خالد بوشامة في مقال بعنوان: "أحاديث الإمام مالك خارج الموطأ":"والَّذي أراه راجحًا ، والعلم عند الله تعالى أنَّ الصَّواب ما ذهب إليه ابن الملقِّن وابن حجر مِن أنَّ مالكًا لم يدخل هذا الحديث في "موطَّئه" ، وما ذكره ابن دحية فإن كان من "موطَّأ يحيي اللَّيثي" : إذ هو المعتمد عليه فيما ينقل من الرِّوايات ، فهو وهم بلا شكٌّ" .وهذا بعيد جداً وفيه تكلف، لا يساعد عليه صنيعهما، ولا يفهمه هكذا من تدبر قولهما، فهما ينفيان بالكلية وجوده في الموطأ بكل رواياته، ثم توهيم ابن دحية بعد الوقوف على الحديث من رواية محمد بن الحسن، لا يقبل، وهذا يؤكد عدم وقوفهما على رواية محمد بن الحسن. والله أعلم. ويبقى احتمال أنهما وقفا عليه من رواية محمد بن الحسن، وترجح عندهما أنه من زيادات محمد بن الحسن، وأنه بذلك يكون الحديث خارج الموطأ؛ وقد ذهب إلى هذا الدكتور رضا حفظه الله وانتصر له حيث قال:"وإن كان عزاه لمحمَّد بن الحسن الشَّيباني فبيانه في الأمر التَّالي :إنَّ رواية محمَّد بن الحسن الشَّيباني إن كانت في عمومها مرويَّة عن الإمام مالك إلاَّ أنَّه أدخل فيها أحاديث وآثارًا عن غير الإمام ، فبالتَّالي يُحتمل أن يدخل أيضًا أحاديث سمعها عن مالك خارج "موطَّئه" فأثبتها في "الموطَّأ" وهذا من باب أولى ، وقد ذكر صاحب "التَّعليق الممجَّد على موطَّأ الإمام محمَّد" (1/141) أنَّ عدد النُّصوص المدخلة على "موطَّأ مالك" يفوق المئة والسَّبعين (170) نصًّا من بين حديث وأثر فقال : " فجميع ما في هذا الكتاب من الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة على الصَّحابة ومن بعدهم مسندة كانت أو غير مسندة ألف ومائة وثمانون (1180) ، منها عن مالك ألف وخمسة (1005) ، وبغير طريقة مائة وخمسة وسبعون (175) ، منها عن أبي حنيفة ثلاثة عشر (13) ، ومن طريق أبي يوسف أربعة (4) ، والباقي عن غيرهما" .فلا يمنع أن يروي عن مالك شيئًا رواه خارج "الموطَّأ" من باب الزِّيادات فقط ، وهذا فعله أيضًا الإمام القعنبي في "موطَّئه" ، حيث ذكر بابًا بعد أن انتهى من رواية "الموطَّأ" وسمَّاه "الزِّيادات" (18) ، وذكر أحاديث سمعها من مالك خارج "الموطَّأ" ، والله تعالى أعلم". انتهى كلامه. كما أن الكلام الذي في محمد بن الحسن من قبل حفظه يجعل الأقرب أن تكون روايته لهذا الحديث عن مالك مما سمعه منه خارج الموطأ ؛ كما رواه غيره من الثقات من رواة الموطأ.
والجواب عن ذلك: أنه يصعب الجزم بذلك؛ فإن كان محمد بن الحسن متكلم فيه فقد قال ابن معين:ليس بشيء. وقال ابن حبان في "المجروحين" (2/ 276):"ليس في الحديث بشيء كان يروي عن الثقات ويهم فيها فلما فحش ذلك منه استحق تركه من أجل كثرة خطئه". وقال الحافظ الذهبي في "ميزان الاعتدال" (3/ 513):" محمد بن الحسن الشيباني، أبو عبد الله.
أحد الفقهاء. لينه النسائي، وغيره من قبل حفظه.
يروي عن مالك بن أنس وغيره. وكان من بحور العلم والفقه قوياً في مالك".
فقول الذهبي:"قوياً في مالك". لا يغفل، وفي "تاريخ بغداد" (2/ 561) قال الشافعي: قال محمد بن الحسن:"أقمت على باب مالك ثلاث سنين وكسراً، وكان يقول: إنه سمع منه لفظا أكثر من سبع مائة حديث". فهذه قرائن تقوي قبول رواية محمد بن الحسن للموطأ عن مالك، ويقال أيضاً:إن الأصل في هذا الحديث أنه من رواية مالك في "الموطأ"، فالبقاء على هذا الأصل أولى من القول بأنه من الزيادات. والله أعلم.