" الإسماعيلية "
في يوم الأربعاء 15/4/1417 زُرْتُه في بيته لأسأله عن كتابِ في الإجازة للشيخِ حمود بن عبد الله التويجري ، ظني أن الكتابَ في مسائل الإجازة عند المحدثين ، و كان ذلك بعد صلاة المغرب ، أعطاني الكتابَ و هو عبارة عن نُسخة بخطِّ اليد مصوَّرة ، و طلب مني تصويرَه و إرجاعَه في الغد ، كان بشوشاً في استقباله ، لا تُغادرُ البسمةُ مُحيَّاه الطاهر .
جئتُه في الغد يوم الخميس 16/4/1417 و دخلتُ بيتَه و لقيتُ عنده فئةً من الناسِ يقرأون عليه ، و ختمَ بالإجازة ، لم تكن نيتي نيتهم بقدر ما هي أخذ للكتابِ ليس إلا ، أنهوا مجلسَهم ، و رُفع أذان المغربِ ، فسألني عن مرادي فأعطيته الكتابَ بعد تصويري إياه ، عتبَ إذْ لم أدخل مع القومِ _ لظنه أنني جاءٍ كما هم _ ، فخرجنا للصلاة و رجعنا ، فأجلسني في مجلسه ، فبدأ بعرْضِ " المسلسل بالأولية " ، و أملى الإجازةَ و كتبتها بيدي ، و ختم بتوقيعِ اسمه ، و أهداني كتابَه " القول الفصل " .
تبادلنا الحديثَ بقيةَ الوقتِ ، مما يقرُبُ من الساعةِ ، كان فيها جمَّ الفائدة ، جزيل العائدة ، جرى حديثٌ عن ثَبَتِ أسانيدِه و مروياته فذكرَ ما عمِلَه الناسُ الآخذين عنه ، و لمْ يُخْلِ شيئاً من مدحٍ و لا من نقدٍ .
تكررت الزياراتُ له في بيته ، و هو هو في هيئته و بشاشته ، أذكرُ فيه بيتَ الأولِ العربي :
مَن يكُ ذا بَتٍّ فهذا بَتِّي
مُقَيِّظٌ مُصَيِّفٌ مُشَتِّي
فثوبه واحد لم يتغير صيفاً و لا شتاءً ، ذاك الثوبُ الأزرقِ ، و ترحيبه بالزائرين على اختلافِ طبقاتهم .
أذكرُ كلامَه عن بعضِ الأعيان الحديثيةِ التي تزوره ، فنعتَ كلاً بما لديه ، فلانٌ يسعى خلف الإجازات ، و فلان لحوح ، و أما فلان فدعك عنه ، و الرابعُ فيه كيتَ و كيتَ .
و عن الكتبِ فهي حديثٌ مجلسه ، أطلعني على نسخته من " فيض القدير " الجزء السادس ، و فيها ذكر المناويُ _ رحمه الله _ كلاماً فيه لمزٌ بابن تيميةَ و ابن القيِّم _ رحمهما الله _ و قد علَّقَ على كلامه في هامشِ الصفحة ، استنسختُ ما علَّقَه ، فرقمته في نسختي لما رجعتُ ، كشيءٍ من اقتناصِ الفوائد الطائرة ، و عن كتابِ " زاد المسلم " للشنقيطي كلامٌ في مدحه سوى مأخذٍ في الاعتقاد و منه عرفتُ الكتابَ فكان بحرَ علمٍ زاخرٍ .
" جزء الألف دينار " لأبي بكر القطيعي _ رحمه الله _ أوصاني به عند عتبة بابِ بيته ، و قال : " هذا الجزء مفيد و نافع يستحقُّ من يقرأه أن يُوْهَبَ ألفَ دينار " ، و من عتبةِ دارِه إلى عتبة المكتباتِ أقتنيَ الكتابَ و أنهيه في يومي ذاك لأخبرَه بما جرى ، فكان حامداً مثنياً .
تكلم عن كتبِ أحد من كانت بينَهما مشاحناتٌ و اختلافاتٌ ، فلمزَ لمزاً قوياً ، و كلام القرين مطويٌّ غير مرويٍّ ، و التغافلُ محمدة مَسْعَدَةٌ .
كان كثيرَ الشكوى من حال طُلاب العلوم ، و ما هم فيه من كسلٍ و عجزٍ ، و ما آلَ إليه حالُ الكثيرين من اهتمام بِصُوَرِ العلوم دون حقائقها ، و ملاحقة المظاهرِ دون مراعاة الجواهر ، أنشدني عند خروجي من بيته يوماً ، و تلك العتَبَةُ تحكي تاريخاً بيننا ، فكم بقينا واقِفَيْنِ عليها شيئاً من الوقت عند التوديع ، أنشدني :
هذا الزَّمانُ الذي كُنَّا نُحَذَّره
من قولِ كعبٍ و ابن مسعودِ
إن دام هذا و لم يحدث له غِيَرٌ
لَمْ يُبْك ميْتٌ و لم يُفْرَح بمولودِ
خفت صوته قليلاً و هو يسرُد البَيْتَيْن ، فاستعدته إياهما ، فابتَسَم ، و قال : طالب العلم ينبغي له ألا يستعيد كلاماً ، ليكنْ مُدركاً إياه من أول مرةٍ .
سألته عن كتابِ " النبذة النحوية " و هو عبارة عن ترتيبٍ لمتنِ " الآجرومية " على طريقة السؤال و الجواب ، فأخبرني بأنه قديم جداً ، و استبعد وجودَه عنده ، و في السوق ، فاستمهلني قليلاً مستأذناً فخرجَ من المجلسِ و عاد بالكتابِ مصوراً ، مكتوبٌ على طرَّتِه تملُّك ابنه إياه ، فقال لي : خذه و أنا عند ابني ، فابتسم ، أخذتُ الكتابَ و قد كان تصويراً ، و كان لكتابِه عن إسنادِ " بانت سعاد " أثراً قوياً في نفسي ، فقد كانت نُسخته الوحيدة و عليها حظر الإعارة فأهدانيها بطيبِ نفسٍ .
قال أحدهم : من شربَ من خمر الدنيا لم يشربْ من خمر الآخرة ، و لو تاب ، فاستنكرتُ قولَه ، فسألته : فقال : كلامُ جاهلٍ ، فلا يُسْقِ شاربَ خمرِ الدنيا إن استسقاه .
ساعاتُ لقائي معه كثيراً ، و جلساتنا ممتعة مفيدة ، و لا عجبَ فهو بحرٌ علمٍ لم يطرُقْ ساحلَه غائصٌ يوماً ، و كنزٌ لم تُعرَف خريطةٌ تُوصِل إليه ، و صندوقُ معارفَ لم تُدرَك مفاتح أقفاله ، رحمه الله تعالى ، كان ذلك هو العلامة الكبير : إسماعيل بن محمد الأنصاري .
كتبتُ عنه اليومَ لإيحاءِ خاطرِ منامٍ وَرَدَ ، و قد مضى زمنٌ على أُفولِ نجمه .
الجمعة الغراء
4/5/1429