المقامة البوفيهية
حدثنا عمر بن جعران، قال:
من عادتي لأن أتناول العَشَاء.. بين المغرب والعِشاء.
فلما وضعنا الطبلية، وغرفنا الملوخية، وراق الجو وطاب، دق الباب ففتحت؛ فلقيت شابا في بذلة سوداء، ورأيت على الباب سيارة في غاية البهاء.
فقال الفتى : أهذا منزل ابن جعران المأدون؟
قلت : هكذا يزعمون.
قال : أسرع بدفترك، وشرفنا بمحضرك، لتعقد قران بنت المرعشلي باشا، على عصمت بك اليوز باشا .
قال ابن جعران : فأخدني الانبهار، وصِحتُ: ياأهل الدار: عندكم الملوخية فكلوها، وقطعة الأرنب فانهشوها، واقذفوا لي بالجُبة، فقذفوها.
وانطلقت بنا السيارة، كأنها طيارة، فقلت للفتى :
ارفق بنــــا في السيـــــــر والتقدم
وامش الهوينى في الطريق المظلم
لاتبدلنْ أفراحــــــــنا بمأتـــــــــــ ــــم
فلما قطعنا المشوار، ودخلنا الدار، وجدت الدار شامخة والحفلة باذخة، فيها من الوزراء من سبق ومن الكبراء من التحق.
فقلت: أين العريس الموعود ؟ قالوا: هو ذا موجود وها هم الشهود.
فاستفتحت الخطبة بالحمد والثناء، ودعوت لهم بالبنين والرفاء.
ثم رأيت القوم ينهضون جميعا، ويخرجون سريعا.
إلى أين؟!
قال العريس: إلى البوفيه، وقم معي لأدلك عليه.
فتركت الدفتر، ومشيت خلفه أتعثر، حتى وصلنا إلى البوفيه الذي قال عليه.
فإذا بمائدة كأنها سماط المجاج، وعليها الخراف، والأسماك، والدجاج، بل وعليها ألوان وأنواع لم يبلغني خبرها بالنظر ولا بالسماع.
ولكنني أشهد الله الذي لا إله سواه أن الموائد امتحان لا غش فيه، وأنها تميز النبيل من السفيه؛ فالموائد تبين الأشراف من الأجلاف، وعليها تصدر حكمك على الناس بلا استئناف.
هؤلاء الجالسون من الأعيان الواحد منهم كأنه هامان، أو قيصر الرومان. الكلام من الأنف والإشارة من الطرف. وقفوا على البوفيه، وكأنهم الجيش الأحمر، أو عربجية المحجر. وتقدم كل واحد منهم وشمر.
إبراهيم بك سعد مأمور قسم سابقا :
حشَا شِدقه لحما وشدقًا كُنافة ** وفي يده القاروصُ والكَيكُ في الأخرى
وعثمان بك السيد موظف بالأوقاف :
رأى الأكلَ بالسكينِ ليس بمُسعفٍ ** فأعمل ملهوفًا أصابعَه العَشرَا
ومتولي باشا غانم بالمعاش :
توقف قُدام الدجاجة حائرا ** أيُطبق في الوركين أم ينهُشُ الصدْرا
ونجيب باشا المهندس :
تناول مَوزا ثم فِجلا وبَسطة ** ولحمًا وسردينًا كذا جِبنةً حَمْرا
وشعبان أفندي الدهشان من ذوي الأملاك :
لو ان الذي أصفَاه جِيءَ بنِصفه ** إلى ملجأِ الأيتام أشبَعَهم شَهرَا
ودهني باشا رئيس قلم الطرود :
رأى نصفَ ديكٍ فانثنَى بجريدة ** ولف وقال الطردُ لابنتي الصغْرى
وشافعي باشا القاضي :
على شِدقِه سال الإدام وصَدره ** على أنه والله أرفعُهم قَدرا
وسليم باشا مفتش الري :
يمد إلى الأَوزي كفا كَأنها ** براثِنُ ضرغامٍ ولكنها أضرى
والعبد الفقير :
وقفت وصنتُ النفس والله مخلف ** على من يصون النفس أو يحسن الصبرا
ما هكذا كانت ولائمنا في الأفراح، ولا مآكلنا في الأتراح. ولعنة الله على البوفيه القبيح الذي يعلم التشبيح والسطو الصريح.
قال ابن جعران :
وأقبل العريس يختال ويميس فرأى يدي نظيفة، ومشيتي خفيفة. فقال لي: هل أكلت؟ فقلت :
جئتَ بي إلى العشا وسط حفل وموكب
فقال :ولم لا تأكل؟ فقلت :
لم أزود بساعـــــــــــ ـــــــد من حديد ومنكب
فألقى نظرة إلى أولئك الغنم، وابتسم، ثم قال: اتبعني، فسرت خلفه يَعني. حتى دخلنا على الطباخ فقال له : ما عندك من الفراخ ؟
قال: دجاجتان من الفيومي، وديك رومي.
فقال: ضعها في صينية مع بعض الكنافة، والمهلبية. وابعثها إلى دار الأستاذ مع الخادم؛ ليأكل هو والهانم .
وهكدا ينصر الله الصابرين ولو بعد حين .