مقدمة التصنيف
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيآت أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد :
فإن الله عز وجل قد امتن على هذه الأمة بمنة عظيمة إذ أرسل فيها هذا النبي الكريم وأنزل عليه هذا الكتاب العظيم وتكفل جل وعلا بحفظ كتابه ودينه، فسلم لهذه الأمة مصدر الخير والنور والهداية، كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمّد صلى الله عليه وسلم، فتمسك بها أهل القرون الأولى من هذه الأمة تمسك الغريق بحبل النجاة وقارب السلامة، وقد أدركوا أن ذلك المصدر هو حبل الله المتين وطريقه القويم الذي لا يزيغ عنه إلا هالك، فكانوا منه ينهلون وعليه يعولون وإليه يفزعون كلما حزبهم أمر أو اختلطت عليهم واقعة، فيجدون فيه فصل أمرهم وحكم ما بينهم .
فيثوبون منه إلى الحق وحلاوته والاجتماع وقوته وسلامة الصدر وراحته، وقد أدرك أعداء هذا الدين ما لهذا المصدر من الأثر العظيم وأن هذه الأمة لا تهلك وفيها كتاب ربها وسنة نبيها يحكمان في الصغيرة والكبيرة والدقيقة والجليلة، وقد أيقنوا أن لا سبيل إلى الوصول إلى كتاب الله وسنة النبي بالتحريف أو التمزيق، وقد تكفل الله لوحيه بالحفظ والبقاء .
فأعملوا فكرهم واستحثوا عقولهم كيف يحجبون المسلمين عن مصدر عزهم ومعدن فلاحهم؟ فوقعوا على داء الأمم قبلنا ومفرق الجموع إلى شيع وأحزاب مختلفة متناحرة، ألا وهو الجدل والكلام الذي أخبر عنه النبي بقوله تحذيراً وتنبيها : « ما ضل قوم بعدي هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» ثم قرأ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون .
فألقى هؤلاء الأعداء هذا الداء بين المسلمين، فتلقفه من لم يكن له في الإسلام سابقة، ولا قدم في العلم راسخة، ونشره بين المسلمين فعُطِل به كتاب الله عز وجل وردت به سنة رسول الله وظهر بسببه القيل والقال، وكثر التنقيب والتدقيق والسؤال، وقفا الناس به ما لا علم لهم به ولا سبيل لهم إليه إلا بالوحي الإلهي والنور الرباني ، فجادلوا في الحق وتخرصوا بالباطل وجعلوا كتاب الله وراءهم ظهريا، وهم في ذلك كله يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وأنهم لدين الله نصروا، ولعدوه كسروا، وهم في الحقيقة لم يكسروا إلا دينهم ولم يغلوا إلا قناة جماعتهم، فباء المسلمون من هذا البلاء بالتحزب والتشيع والفرقة التي أوصلتهم إلى التباغض والتكفير والتلاعن كما فعل الذين من قبلهم .
وقد أصاب الأعداء بذلك من المسلمين مقتلا أفرز ما هو ظاهر من حال المسلمين لا يخفى على ذي عينين، ولولا أن الله قد تكفل من رحمته ولطفه وكرمه أن لا تستباح بيضة المسلمين وأن لا يطمس الحق والنور فيهم ببقاء طائفة على الحق ظاهرة وله محكمة لحاق بالأمة الإسلامية ما حاق بالأمم قبلها من اندثار الحق واندراس آثاره.
هذا وقد تأثر بأعداء الدين طائفة من المسلمين، فتعرضت جوانب العقيدة الإسلامية إلى كثير من صور التأويل والتشبيه، والتعطيل والتشويه .
وإن مسائل العقيدة قد حظيت باهتمام العلماء قديماً وحديثاً خاصة ما يتعلق منها بذات الله تبارك وتعالى إذ كان الحديث عنها مجالاً لجدل عنيف حصل بين طوائف الأمة الإسلامية، سيما بعد ظهور مدرسة علم الكلام التي كانت بدعة ممقوتة من جانب علماء السلف نظراً لأنه يبعد بأصحابه عن المصدر الأصلي للعقيدة الصافية .
ومن المدارس الكلامية التي خالفت طريقة السلف الصالح ووقعت في البدع الكلامية والفلسفية فرقة « الأشاعرة »، وإنني لأعجب أشد العجب من هذه الفرقة الذي تدعى نصرة السنة ولا تأخذ بها، وترد النقل بالعقل ، وأعجب من ذلك أنها تدعى التفرد بلقب أهل السنة .
وهذا بحث قد بينت فيه أهم مواطن الخلاف بين السلف والأشاعرة ، معتمداً في ذلك على النقل من كتبهم وعزو الكلام إلى أصحابه حتى تكون الصورة ناصعة، وتتضح لمن أراد أن يقف على حقيقة القوم ومدى مخالفتهم لنصوص الكتاب والسنة، وهدى سلف الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة .
ولست أخاطب شخصاً بعينه، وإنما هو توضيح المناهج ، وإظهار الحق من الباطل لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ .
ولا شك أن القارئ الفطن ذو الفطرة السليمة، والعقل السليم فضلاً عن المؤمن المستنير بنور الوحى يدرك فساد هذه الآراء والمذاهب الكلامية والاصطلاحات الدخيلة، وإن المرء ليحار عندما يقرأ في كتب المتكلمين، ولو أن الرجل أفنى عمره في كتب أهل الكلام ما خرج منها إلا بالحيرة والشك وضياع العمر دون أن يحصل زيادة علم أو يقين .
والذي دفعني لكتابة هذا الكتاب عدة أمور منها الآتي :-
- انتشار العقيدة الأشعرية في العالم الإسلامي، وتدريسها في كثير من المعاهد والجامعات والأزهر على وجه الخصوص .
- زعم الأشاعرة أنهم هم أهل السنة والجماعة، وأن عقيدتهم هى عقيدة الفرقة الناجية .
- أن بعض القوم ممن ينتسب إلى المنهج السلفي قد ظنوا أن مخالفات الأشاعرة
يسيرة، ومن البدع العلمية الصغرى وأنها محصورة في باب الصفات فقط كما درج عليه بعض من تحدث عنهم وصنف فيهم .
- دعوة هؤلاء القوم وتحذيرهم من مغبة مخالفة الكتاب والسنة ومنهج السلف والأئمة، والوقوع في البدع التي جاءت من طريق الجهمية والمعتزلة .
- أنني وجت بعضاً من الأخوة لا يستطيع أن يميز بين منهج السلف ومنهج الأشاعرة في العقيدة .
- أهمية هذا الموضوع ، إذ هو من باب بيان الدين وإزالة الشبهة وتوضيح منهج أهل السنة والجماعة، وهو من أعظم الجهاد المأمور به لقوله تعالى وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا.
هذا وينحصر الكتاب بعد المقدمة في تمهيد وعشرة مباحث وخاتمة ، مفصلة على النحو التالي :-
تمهيد : ويشتمل على مطلبين :-
· المطلب الأول :نشأة الفرق الإسلامية .
· المطلب الثاني : تعريف العقيدة والسنة والبدعة .
المبحث الأول : التعريف بعلم الكلام، ويشتمل على مطلبين :-
· المطلب الأول : التعريف بعلم الكلام ونشأته .
· المطلب الثاني : ذم الأئمة الأعلام لعلم الكلام .
المبحث الثاني : التعريف بكلا المذهبين ، ويشتمل على مطلبين :-
· المطلب الأول : التعريف بالسلف ومنهجهم العقدى .
· المطلب الثاني : التعريف بالأشاعرة وبيان معتقدهم ، ويشتمل على محورين .
- المحور الأول : نشأة المذهب الأشعرى وتطوراته .
- المحور الثاني : معتقد الأشاعرة المتقدمين والمتأخرين .
المبحث الثالث : مصدر التلقي بين السلف والأشاعرة ، وفيه خمسة مطالب :-
· المطلب الأول : مصدر التلقي عند السلف .
· المطلب الثاني : مصدر التلقي عند الأشاعرة .
· المطلب الثالث : مدار العقل بين السلف والأشاعرة .
· المطلب الرابع : الأخبار بين السلف والأشاعرة .
· المطلب الخامس : التأويل والتفويض بين السلف والأشاعرة ، ويشتمل على محورين .
- المحور الأول : التأويل بين السلف والأشاعرة .
- المحور الثاني : التفويض بين السلف والأشاعرة .
المبحث الرابع : الإيمان والمعرفة بين السلف والأشاعرة، وفيه أربعة مطالب :-
· المطلب الأول : الإيمان بين السلف والأشاعرة .
· المطلب الثاني : أول واجب على المكلف .
· المطلب الثالث : حكم إيمان المقلد .
· المطلب الرابع : أدلة وجود الله بين السلف والأشاعرة .
المبحث الخامس :توحيد الله بين السلف والأشاعرة، ويشتمل على مطلبين :-
· المطلب الأول : التوحيد عند السلف الصالح .
· المطلب الثاني : التوحيد عند الأشاعرة .
المبحث السادس : الأسماء والصفات بين السلف والأشاعرة ، ويشتمل على تمهيد وثلاثة مطالب :-
· تمهيد .
· المطلب الأول : أسماء الله تعالى بين السلف والأشاعرة .
· المطلب الثاني : الصفات الإلهية بين السلف والأشاعرة .
· المطلب الثالث : الصفات الإلهية بين إثبات السلف ونفى الخلف .
المبحث السابع :كلام الله عز وجل بين السلف والأشاعرة ، ويشتمل على تمهيد ومطلبين :-
· تمهيد .
· المطلب الأول : مسألة كلام الله تعالى بين السلف والأشاعرة .
· المطلب الثاني : مناقشة السلف لما ذهب إليه الأشاعرة .
المبحث الثامن :القدر وأفعال العباد ، ويشتمل على أربعة مطالب :-
· المطلب الأول : مسألة الحكمة والتعليل بين السلف والمتكلمين .
· المطلب الثاني : مسألة التحسين والتقبيح بين السلف والمتكلمين .
· المطلب الثالث : بيان خلاف الناس في أفعال العباد .
· المطلب الرابع : مسألة الكسب بين السلف والأشاعرة .
المبحث التاسع :رؤية الله تعالى بين السلف والأشاعرة، ويشتمل على مطلبين :-
· المطلب الأول : رؤية الله وبيان المذاهب فيها .
· المطلب الثاني : مسائل متعلقة بالرؤية .
المبحث العاشر : الموافقات والمفارقات بين السلف والأشاعرة، ويشتمل على مطلبين :-
· المطلب الأول : في الموافقات والمفارقات .
· المطلب الثاني : من هم أهل السنة ؟
الخاتمة : وفيها بعض النتائج والتوصيات .
وقد ذيلت الكتاب بفهرس للمراجع والمصادر، وفهرس للموضوعات والمحتويات .
هذا وقد حرصت كل الحرص على أن يكون عرض المذهبين عرضاً علمياً بكل أمانة وإنصاف، فأنقل نص كلامهم في كل مسألة بحروفه تاماً موثقاً ، وأعزو الكلام إلى مصادره في الحاشية أو في صدر الكلام .
وقد هدفت في الكتاب إلى سرد الأقوال لكلا المذهبين حتى يتضح للقارئ الكريم مدى مخالفة الأشاعرة لأئمة الهدى ومصابيح الدجى، كما سردت أيضاً بعض الردود للعلماء على شبهاتهم وزيف اعتقادهم ، متحرياً في ذلك الأمانة العلمية ، والإنصاف في الخصومة .
وقد ترجمت لبعض الأعلام من أئمة الإسلام، وخرجت الأحاديث وعزوتها إلى مصادرها ونقلت حكم بعض الأئمة عليها من حيث الصحة والضعف .
وقد خرج الكتاب بفضله ومنته كما أردته، هذا وقد وسمته بـ« الميزان بين عقيدة السلف وعقيدة الأشاعرة أهل الكلام »، فأرجوا الله تعالى أن ينفع به، كما أنوه بأنني لم أجمع فيه مسائل الخلاف وإنما تعرضت فيه لأهمها، والهدف من ذلك هو بيان مخالفة القوم للأئمة الأعلام كأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعى والثوري ومالك والشافعي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل الشيبانى ويحيى بن معين وغيرهم من الأئمة المهديين، وبيان مدى موافقة أقوال الأشاعرة لأقوال الجهمية والمعتزلة الذين أفسدوا الدين بمقالة التعطيل والتأويل.
هذا وما كان من توفيق فمن الله تعالى وحده، وما كان من خطأ أو زلل فمنى ومن الشيطان، كما أسأل الله تعالى أن يتقبل منى هذا العمل وأن يجعله في ميزان حسناتي ، وأن يختم لي بخاتمة خير على منهج أهل السنة والجماعة .
كما أرجوا من أهل العلم وطلبته أن يطالعوه بنظر الإنصاف، ويصلحوا ما وقع فيه من الخطأ والخلل، وما أبرىء نفسي من السهو والزلل، وأستغفر الله تعالى الذي لا اله إلا هو الحي القيوم من زلة القلم، مما علمت ومما لم أعلم إن ربى غفور رحيم.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين.
كتبه / أبو عمار محمد بن عبد الستار الفيديميني
فيديمين - الفيوم - مصر