أخيرًا أود ذكر شيئًا في توجيه كلام مجاهد -على فرض صحته- وإن وفقت فالله الحمد والمنة وإن أخطأت فنستغفر الله، وهو احتمال أن يكون قول مجاهد بناه على ما ورد في الأحاديث المرفوعة فقال بمقتضها ظنًا صحتها، والله أعلم.
وتأمل كلام ابن تيمية:(وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال إلا توفيقًا، لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول، وما ثبت من كلام غيره، سواء كان من المقبول أو المردود).
لم أقل أنك جهميّ، ولا يستلزم الكلام ذلك!
المراد هو بيان أنه إذا كان هذا الأثر من الكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم في أمر غيبي، وكان من الدين والورع وحفظ السنة إنكار مثل هذا الأثر، لكان أولى بذلك أن ينكره مجاهد فلا يحدّث بالباطل أو ينكره عليه أحد أقرانه أو أحد تلامذته أو أحد الأئمة الذين قبلوا هذا الأثر، لكنّ أحدا من هؤلاء لم يستنكره! بل حدّثوا به على الملأ وصرّح بعضهم بصحته وتلقيه بالقبول.
وقد حدّث عثمان ابن أبي شيبة أخو أبي بكر بهذا الأثر على رؤوس الناس وفي المجلس ما لا يقل عن عشرين ألفا، فما كان يجرؤ أحد على أن يقول: لا تحدث بهذا المنكر المهجور.
ولا وجه أصلا للكلام في الاختلاف في حكم حجية قول التابعي إذا اعتبر من قسم المرسل؛ لأن الحجة ليست مجرد قول مجاهد، بل الحجة في تلقي علماء السلف وأئمة العلل والجرح والتعديل الأثر بالقبول.
أما الإشارة إلى الاختلاف في حجية الاجماع السكوتي، وحجية قول التابعي إذا اعتبر من قسم المرسل، -فلا فائدة منها؛ لأن الاختلاف في ذاته ليس بحجة.
والمراد من الكلام هو أن أحدا من أهل السنة المتقدمين لم ينكر الأثر، حتى أنكره الجهمية، ولو نُقل عن أحد من العلماء المتقدمين أنه أنكره لطار به الجهمية، ولنقله من أنكر الأثر من المتأخرين ولو بغير إسناد!
بفرض صحة هذا الاحتمال، فلا شئ فيه؛ لأن الذين اتهموا بوضع الأحاديث المرفوعة متأخرون، ليسوا في طبقة مجاهد ولا شيوخه، ولا حتى تلاميذه، إلا غالب بن عبيد الله العقيلي، وهو متروك، ولم يرفعه بل قال: ((حدّثني المكيون)). هذا إذا صحّ الإسناد إلى غالب أصلا.
فالإشارة إلى أن مجاهدا اعتمد الأحاديث الموضوعة! لا وجه لها.
قوله: ((وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال إلا توفيقاً)) يعني قد يعترض البعض على تضعيفه للأحاديث المرفوعة بأنه طالما أن مثل هذا لا يقال إلا توقيفا، فلماذا تضعفها مع تصحيحك الموقوف والقول بقبوله؟
فرد على هذا الاعتراض بقول: ((لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول، وما ثبت من كلام غيره، سواء كان من المقبول أو المردود.))
يعني حتى إن كان من المقبول، فلا بد من التفرقة بين ما هو ثابت بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وما هو ثابت من كلام غيره، وقد بيّن قبل ذلك مباشرة أن أثر مجاهد من القسم المقبول، فقال: ((وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف، وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه، ويتلقونه بالقبول.))
وفي كلامه هذا بيان أن ما كان من كلام غير النبي صلى الله عليه وسلم فمنه مقبول ومنه مردود، وهذا بخلاف كلام بعض الناس الذين يقررون أن العقائد لا تقبل إلا من الحديث المرفوع، فما لا يصح مرفوعا لا تؤخذ منه عقيدة حتى وإن كان قول صحابي! والله المستعان.