إن حفظ هيبة العالم أو الداعية إنما هو من تمام الدين وصيانة العلم وحفظ مكانته بحفظ مكانة أصحابه وحملته، وليس هذا من باب الكبر، وإنما من باب تعظيم قدر العلم.. وقد كان مالك بن أنس مهابًا لا يجرؤ أحد أن يتكلم بحضرته، ولا أن يسأله هيبة له، وإذا تكلم لا يرد عليه.
قال الشافعي: (كنت أصفح الورق بين يدي مالك صفحًا رقيقًا هيبة أن يسمع وقعه).
قال الخطيب في الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع: (يجب على طالب الحديث أن يتجنب اللعب والعبث والتبذل في المجالس بالسخف، والضحك، والقهقهة، وكثرة التنادر، وإدمان المزاح والإكثار منه، فإنما يستجاز من المزاح يسيره ونادره وطريفه الذي لا يخرج عن حد الأدب وطريقة العلم، فأما متصله وفاحشه وسخيفه وما أوغر منه الصدور وجلب الشر؛ فإنه مذموم وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر، ويزيل المروءة).
قال موسى بن أعين: قال الأوزاعي: (كنا نضحك ونمزح فلما صرنا يقتدى بنا خشينا أن لا يسمعنا التبسم).
ولا تتم للعالم والداعية مثل هذه الهيبة حتى يحمي حماها فلا يقف في موقف يزري فيه نفسه، ولا ينتقص فيه قدره، وإن لم يكن فيه خرم لمروءة، أو نقص لكمال خلق، وإنما من باب دفع التهم عن النفس، وقيل: (إياك وما سبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره).
يقول الشافعي رحمه الله: (لو علمت أن شرب الماء ينقص مروءتي ما شربته).
فلما حفظ هيبة نفسه حفظ الله هيبته وأعلى مكانته.. يقول الربيع تلميذه: (والله ما اجترأت أن أشرب والشافعي ينظر إليَّ هيبة منه).
ومن هذا الباب أيضًا ما يذكرونه أن ملك الروم دعا الباقلاني إلى مائدته، تكرمة له لأنه رسول السلطان.. فقال له الباقلاني: أنا من علماء المسلمين، ولست كالرسل من الجند وغيرهم الذي يعرفون ما يجرى في هذا الموطن عليهم، والملك يعلم أن العلماء لا يقدرون أن يدخلوا في هذه الأشياء وهم يعلمون، وأخشى أن يكون على مائدته من لحوم الخنازير، وما حرمه الله تعالى، على رسوله وعلى المؤمنين.. فانظر كيف راعى نظرة العوام له، وماذا سيقولون عنه إذا علموا أنه أكل من طعام الملك وفيه ما فيه من خمور ومحرم.. فاحترز لنفسه واشترط.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: ( قال علماؤنا لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المناكر، كُـره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها).
والخلاصة أن من احترم دينه ونفسه لابد أن يحترمه الناس.. ومن أهان نفسه ودينه أذله الله.
ولو أنَّ أهل العِلْمِ صانوه صانهم ... ولو عظَّموهُ في القلوبِ لعَظَّمَا