فضل الصخور على القلوب
______________________
نعرف جيداً من خلال تجاربنا اليومية أن إيماننا في قلوبنا يمر بحالات متفاوتة، بل شديدة التفاوت.
تارةً نشعر بدفء الإيمان في قلوبنا يتصاعد، فيرقُّ القلب ويلين ويخفّ ويرفرف، فتنيب النفوس وتذعن، حتى نجد في نفوسنا اندفاعاً لافتاً للعمل الصالح، ونفوراً من المعصية. وتاراتٍ أخرى نشعر بالإيمان في نفوسنا يتبلد، ويفتر، حتى نجد من استثقال الطاعات والتكاسل عنها ما يشعرك أنك مكبل، كأنك تمشي في قيود، تستوعر الخطى.
هذه أحاسيس لا يكاد يخلو أحدنا منها، لكن إلى أي مدى يا ترى يقسو القلب ويتجمد الإيمان فيه؟ ما هي أدنى مراحل يبوسة القلب؟
.
.
تخيل ما شئت من هذه المراحل والصفات لقسوة القلب، ثم استمع إلى تصوير القرآن لحالة محزنة مخيفة من حالات قسوة القلب، يقول الله جل وعلا:
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (1).
.
إنه ليس كالحجارة فقط، بل قد يكون كما تصوّر الآية «أشد قسوة»!
.
بالله عليك! هل تتخيل قلباً أقسى من الصخر؟
.
بل إن الله تعالى ذكر فضل الحجر على بعض القلوب، في صورة يتصبب المؤمن منها حرجاً! حيث تستكمل الآية التصوير:
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}
.
كم هي مقارنة موجعة! الله تعالى يذكر فضل وتميز الصخور على بعض قلوب بني آدم! فيذكر من فضائل الصخور أنها من لينها ومطاوعتها تنشق لينفسح من بين جوانحها الماء المتدفق، أو تهبط وتتردى كأنما خضعت وتذللت ..
.
ولكن ما الذي يحدث إذا قسا القلب؟ ما الآثار التي تستتبع هجوم قسوة القلب؟
.
الحقيقة أن القلب إذا قسا خسر القدرة على الاتصال بالله سبحانه وتعالى، ومناجاته، والتشرف بالانطراح بين يديه.
.
وهذه اللحظات التي يتقلب فيها القلب بين يدي الله هي من أرقى وأجمل وألذ لحظات الدنيا ..
.
بل إن الله تعالى يقدّر على العباد كوارث كونية يريد منهم أن تدفعهم للتعلق بالله ومناجاته والتضرع له، ولكن من ابتلي بقسوة القلب يفلس في الوصول إلى هذه اللحظات الراقية المشرقة، كما يقول الله تعالى:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَاسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَاسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1).
.
أي شؤم لقسوة القلب إذ يتسبب في مضادة أمر الله!
.
الله يقدّر المرض والمجاعة والحروب والفقر، يريد من العبد أن يرتفع ويتشرف باللجوء إلى الله، والتضرع له، والتمرغ فوق تراب العبودية، وتعفير الوجه بذل الإخبات، ولكن قسوة القلب تكبل العبد فلا يصعد لهذه المنزلة العظيمة.
.
تأمل مرةً أخرى الآية الكريمة:
{فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَاسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ}.
.
.
وهل يقف أمر (قسوة القلب) عند الحرمان من مقامات الإيمان الرفيعة كالتضرع لله؟
.
لا، طبعاً، بل هناك ما هو أفظع من ذلك، وهو أن المرء إذا قسا قلبه فقصّر في طاعة الله، بدأ يلتمس لنفسه المخارج بتأويل النصوص لتوافق هواه، فتراه يدس رأسه في مسائل الخلاف يبحث عن القول الذي يوافق تقصيره، ويحني رماح النصوص كي لا تصيبه، أو يلوي أعناقها لتعزز مساره، كما قال الله تعالى في وصف تأثير قسوة القلب على تحريف النصوص:
{وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}

______________________________ _________
منقول