لغتنا الفتية.. هل أصابها الوهن؟




لاشك أن اللغة كائن حي يجري عليها ما يجري على الأحياء، تولد ضعيفة، ثم إذا ما تعهدها ذووها بالرعاية والإصلاح عاشت بين ظهرانيهم شابة فتية مفعمة بالحيوية، ثم يأتي من بعد القوة ضعف وشيبة، هذا ناموس المخلوقات، أما لغتنا فتخرق ذلك الناموس؛ فهي معصومة من الضعف والشيبة.
إن الفضل، كله في استمرار شباب لغتنا، هم علماؤنا من الرعيل الأول، أولئك الذين امتلأت قلوبهم حباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وغيرة على لغتهم من أن يتسرب إليها اللحن، فوضعوا علم النحو، وهو من أسمى العلوم قدراً، وأنفعها أثراً، به يثقف اللسان، ويسلس عنان البيان، فقيمة المرء فيما تحت لسانه، لا طيلسانه، وقد صدق إسحق بن خلف البهراني في قوله:
النحو يبسط من لسان الألكن
والمرء تكرمه إذا لم يلحن

وإذا طلبت من العلوم أجلها
فأجلها منها مقيم الألسن

فبالنحو يسلم الكتاب والسنة من عاديات اللحن والتحريف، وهما موائل الدين، وذخيرة المسلمين، فكانت العناية بهما عملاً مسوّغاً، وسعياً في سبيل الدين مشكوراً.
ثم بعد أن فتح المسلمون قلوب العباد قبل أن يفتحوا البلاد، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وبحكم الفتح كثر الموالي، وتقاطر الوافدون من الأقطار المفتوحة على مكة المكرمة، التي يؤمها كل من قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وإلى المدينة المنورة، حاضرة المسلمين، ثم ازداد النزوح في عهد الأمويين والعباسيين، وطال لبث هؤلاء بين ظهراني العرب، فتولد عن هذا تسرب اللحن إلى اللغة العربية، ووهنت الملاحظة الدقيقة، وهي اختلاف المعاني لاختلاف شكل الكلمة.
وهاك مثالاً يوضح إلى أي مدى وقع اللحن، واحتاج الناس إلى قواعد النحو:
يُروى أنه قدم المدينة في خلافة عمر الفاروق - رضي الله عنه - أعرابي، فقال: من يقرئني شيئاً مما أنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم ، فأقرأه رجل سورة براءة (التوبة) {إن الله بريء من المشركين ورسوله...} بجر (رسوله) فقال الأعرابي: أوقد برئ الله تعالى من رسوله؟ إن يكن الله تعالى قد برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه، فبلغ ذلك عمر، فدعا الأعرابي، وقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين، قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن الكريم، فسألت: من يقرئني؟ قأقرأني هذا سورة براءة، وقص عليه القصة، فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي، فقال: وكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن الله بريء من المشركين ورسوله (بالرفع)، فقال الأعرابي: لأنا ولله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منهم، فأمر عمر - رضي الله عنه - ألا يقرئ القرآن إلا عالم بالعربية.
من تلك القصة ندرك على أي مدى تسرب إلى اللغة الفساد، لكن الغيورين من أبناء العروبة (مادة الإسلام) سارعوا بسد تلك الثلمة، بوضع علم يصون اللسان عن اللحن في الكلام، فما أحوجنا اليوم إلى الخلفاء الراشدين! وأمراء الأمويين، والعباسيين!
أهذه اللغة العظيمة التي وسعت كتاب الله المعجز، وعز على الأقدمين والمحدثين حصر مفرداتها وتراكيبها، وما تحمله من أسرار وكنوز تعجز، عن الإيفاء بأسماء آلات ومخترعات من لغات أقل قدراً وأضعف جنداً!
هذا ما دعا العربية أن تنعي حظها على لسان أحد أبنائها (حافظ):
وسعت كتاب الله لفظا وغاية
وما ضقت عن آي به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق أسماء ومخترعات

أتلك اللغة التي فتن بجمالها القاصي والداني تهجر؟ أيذهل عنها أبناؤها رغم حسنها وجمالها؟ ولأنها لغة الحس المرهف، والذوق الرفيع، آلمها ذهول أبنائها، فرددت قول ولدها:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند
لعمري إنها لجميلة معنى ومبني، خُلقا وخَلقا، مر بها الغربيون، ففتنوا بجمالها، تقربوا منها، توسلوا إليها، أغروها بالتقدير والتكريم، ولرقتها وعذوبتها ونقاء سريرتها، استجابت لتوسلاتهم، ألبسوها ثيابهم، منحوها جنسياتهم، تباهوا بها في المحافل الدولية، والمنتديات العالمية، حنت إليهم وحنوا لها، تحاوروا معها؛ إذ هم في عقلها، في قلبها، ورددت قول ولدها:
بلادي وإن جارت علي عزيزة
وأهلي وإن ضنوا علي كرام

والآن.. ألا يجدر بنا أن نتعلم من أخطائنا؟ أن نعود إلى طريق أوائلنا؟ أن نولي اللغة جل اهتمامنا؟
إن العربية نهر عذب سائغ شرابه، فهي كانت ولا زالت مصدر عزنا وفخرنا، وعلينا أن نتعهدها كما تعهدها أجدادنا؛ لتحيا عزيزة بين أحضاننا، ولتكون سندا لنا في شيخوختنا، ومن ثم يتعهدها من يأتي بعدنا، فتحيا شابة فتية - كما ولدت - وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
دمتم أبناء العروبة جندا لها.



اعداد: سعد بن محمد داود