بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله الذي خلق الكون وقدّره , وأبدع في صنعه وكوّنه , والصلاة والسلام على خير خلقه محمد بن عبدالله عليه وعلى آله وصحبه وسلم اللهم تسليما .. أما بعد :

فكما للسفر متاعب فإن له منافع , ولو لم يكن في فوائد السفر إلا قطع الرتابة التي يسير عليها المرء في حياته لكفى ! وليعلم أن بعض السنن التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن تطبيقها إلا في السفر , وأن السفر هو ما عده الناس سفرا على ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .

** نقطة نظام **

كنت متجها على متن رحلة إلى مطار الملك عبدالعزيز الدولي بجدة , فقلت لمَ لا أنظر عبر النافذة إلى ما حولي ؟! فنظرت فإذا بي أرى من جمال السحاب ما لم تره عيني قط؛ مع أن ركوب الطائرة بالنسبة لي أمر معتاد إلا أن هذه الرحلة كانت عجبا بدءا من ترحيب المضيف الذي رحب بي وكأنه يعرفني من سنين ! بل لا أكتمكم حديثا أني سألت نفسي هل سبق لي أن رأيته أو اجتمعت به ؟! عندها علمت كم يفعل البِشْر في نفوس البَشَر !

أكملت قراءة ما بيدي ثم نظرت مرة أخرى فإذا بي أرى بياضا على مد بصري كأننا نسير في أرض بيضاء مستوية ! بعد دقائق .. إذا بسحب كالجبال ارتفاعا وانخفاضا وتعرجات مع أنها متصلة غير متقطعة ؛ فقلت سبحان بديع السموات والأرض , هذه السحب التي تحمل الخير وتحمل العذاب , هذه السحب التي يستبشر الناس بها ولا يهدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يراها خوفا من الوعيد ؟! هذه السحب التي ضحكت الرسوم المتحركة على عقولنا بها وأنه يمكن الجلوس على السحابة والقفز منها إلى أخرى !!

فهل يتنبه الآباء والأمهات إلى خطورة ما يعرض على أطفالهم من رسوم أو ألعاب خصوصا في جانب الإلهية وأنها تبقى راسخة في أذهان أطفالهم كما بقي القفز بين السحاب ! يا ليت قومي يعلمون !


** جزء من مقال **

الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل ! المكان الدور الثاني من الحرم المكي الشريف ؛ كنت أنظر إلى تلك الكعبة التي سكنت سويداء قلوب الناس فأتوا إليها من كل فج عميق لا يمل من النظر إليها, وأقول سبحان الله لا يمكن أن تخلو من طائف بها !

كأن تلك الأيام كانت موسما للحملات الخارجية خصوصا من البلاد الأوربية وأمريكا لأني قابلت عددا منهم فرأيت كذلك عجبا !!
ومن ذلك أني رأيت عربيا قد هاجر إلى بلاد الغرب يسأل صاحبنا الهولندي عن معنى كلمة ( مهندس ) في اللغة العربية ويخبره صاحبه الأعجمي ! ثم يكمل حديثه معي .

بل الأعجب أنه جلس بجواري رجل من بريطانيا وأخذ يتحدث عن الإسلام وضرورة أن يتعامل رجال الشرط برفق مع ضيوف بيت الله وأن من هؤلاء الضيوف من هو كالمجنون كما يصف هو لا يعرف قدر البيت ولا منزلته , فلا يحترم من فيه , وأخذ يشير بيده مستدلا على ما يقول , ثم بدأ يتحدث أن الله يعبد في كل مكان وأن الناس هناك كل يسير في طريقه وحال سبيله , وتمنى لو اتصف أهل الإسلام بأخلاقه - أي الإسلام - حقيقة !! وبعدما اكتملت الصفوف أخذ يمنع الآخرين من العبور بيننا ويقول بلغته : أرجوكم لو سمحتم الطريق مغلق , اذهب مع هذا الطريق !
وقبل الآذان بدقائق يأتي رجل كبير السن عليه مشلحه فيضايق أحد الشباب ( غير عربي ) حتى قام من مكانه فوثب صاحبي وأمسك به وقال أرجوك لا تذهب , هنا هنا , وأجلسه مكانه ثم قال الله يعبد في كل مكان ثم ذهب ! مكان جلست فيه أكثر من ساعة لتصلي فيه ثم قبيل الصلاة تذهب وتتركه ! إيثار عجيب وأعجب منه بكاء هذا الشاب بكاء الطفل واضعا يديه على وجهه يدعو ولم ينزلها حتى أقيمت الصلاة فماذا كان يقول ؟!! الله أعلم !
وأعجب منهما غضب ذلك الشيخ الهرم من باكستان على رجل رآه يمد قدمه باتجاه الكعبة ويقول احترام احترام أدب !!


نعود إلى الدور الثاني وإلى تلك الساعة , كنت أقول لنفسي انظر إلى هذا البيت الذي طاف به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , وكيف صمد بإذن من الله وبقي شامخا إلى يومنا هذا عزيزا على قلوب محبيه , تنظر إليها وتنظر إلى ما خلفها من التحديثات الحاصلة في المسعى والعمران خلفها ثم تنظر إلى ما حولها فترى وميض آلات التصوير في كل مكان ؛ هذا الوميض الذي كان يوما من الأيام ممنوعا !! فأصبح اليوم من أبسط الأمور فعلمت أنك تستطيع أن تصل إلى ما تريد بأكثر من طريق مع الصبر بكل تأكيد !

في خضم توارد تلك الأفكار إذا برجل من هذه البلاد يسأل عن طواف الوداع متى يفعله ؟! فتذكرت كلام مسؤول الفندق حينما قال لي وهو من الهند لي أكثر من عشرين سنة هنا كثير من السعوديين لا يعرفون عن الحرم والعمرة والحج أي شيء حتى بعضهم إذا سكن هنا يسأل عن اتجاه الحرم – مع أن الحرم على بعد 200 متر – وهذا رأيته بأم عيني ! ...., أجبت الرجل ومضى بعدها بدقيقة وقف أمامي رجل يقول لي باللغة الانجليزية لو سمحت ممكن أن تأخذ لي صورة هنا ؟! وسلمني جهازه لأصوره ! حقيقة تحرجت كثيرا لكن لم أرد أن أكسر قلبه فقلت له لا مشكلة فقال لي بطارية جهازي قاربت من الانتهاء أريد صورة واحدة فقلت لا بأس سأستخدم جهازي وفعلا صورته - ولاسيما أننا في الدور العلوي فلا إيذاء لأحد هناك - , لا استطيع أن أصف شعوره وفرحه بالصورة حين رآها على جهازه بعد إرسالها له وهو ينظر إلى الكعبة فشكرني بطريقته الخاصة وهي معروفة بعد أن شكرني بلساني : فوضع كفيه على بعضهما ثم انحنى قليلا ! وذهب !!
فقلت سبحان الله .. ما هذا الفرح الذي في قلوبهم وتفتقده قلوبنا ؟!


فقلت : تخيّل لو أن رجلا أتى وقطع شيئا من ستار الكعبة أو عمل عملا تخريبا بجوار الكعبة أو حاول هدم الكعبة ماذا سيفعل هؤلاء الناس فيه ؟! سيطئونه بالأقدام حتى يموت , وستتناقل الأنباء العالمية هذا الخبر وتصدر فيه البيانات مما هو معلوم !

فقلت: سبحان الله حرمة المسلم أعظم عند الله من حرمة الكعبة ولو هدمت الكعبة حجرا عن حجر ما عظم ذلك بقدر ما يعظم سفك دم امرئ مسلم ! وليت أن الأمر توقف على أن الكفار هم من يقتلون المسلمين بل العجب أن يقتل المسلمُ المسلمَ على لعاعة من الدنيا , ولا نرى لذلك الدم من حاقن ! هل انقلبت الموازين أم أن كثرة المساس تقتل الإحساس أم على قلوب أقفالها ؟!!

أصلح الله أحوال المسلمين وردهم إليه ردا جميلا .. وأعود وأقول سبحان الذي قال ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) ..


** طيور مهاجرة >>

قال الله تبارك وتعالى ( ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) فهل نظرت إلى قلبك أين هي منه ؟!!

** نقطة عبور **

مشلحه : العباءة .

لعاعة : الشيء القليل الزائل .