أمّـا مسألة عدم قبول صلاته أربعين صباحا فورد ذكره مع الحديث الذي سبق آنفا , وورد مفردا وحده فعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من شرب الخمر شربة، لم تقبل له صلاة أربعين صباحًا)) .
أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم وقال: "هذا حديث صحيح قد تداوله الأئمة، وقد احتجا بجميع رواته، ثم يخرجاه، ولا أعلم له علة"، ووافقه الذهبي وزاد: "على شرطهما".
وصححه الشيخ شعيب في تعليقه على المسند برقم : 6854 . وقَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قال الأشرف : إنما خص الصلاة بالذكر لأنها أفضل عبادات البدن فإذا لم يقبل منها فلان لا يقبل منها عبادة أصلا كان أولى قال المظهر هذا وأمثاله مبني على الزجر وإلا يسقط عنه فرض الصلاة إذا أداها بشرائطها ولكن ليس ثواب صلاة الفاسق كثواب صلاة الصالح بل الفسق ينفي كمال الصلاة وغيرها من الطاعات .
قال أبو عبد الله ابن منده : " قوله " لا تقبل له صلاة " أي : لا يثاب على صلاته أربعين يوماً عقوبة لشربه الخمر ، كما قالوا في المتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب إنه يصلي الجمعة ولا جمعة له ، يعنون أنه لا يعطى ثواب الجمعة عقوبة لذنبه ." تعظيم قدر الصلاة " ( 2 / 587 ، 588 ) .
وقال الشيخ المنجد : وليس معنى عدم قبول الصلاة أنها غير صحيحة ، أو أنه يترك الصلاة ، بل المعنى أنه لا يثاب عليها . فتكون فائدته من الصلاة أنه يبرئ ذمته ، ولا يعاقب على تركها .
قال العلاّمة صالح آل الشيخ : يُنفى القبول ويراد منه نفي الثواب مع بقاء العبادة صحيحة عند الفقهاء والأصوليين .اهـ
وفي مثل هذه العبارة كثيرةٌ جدّا فالضابط ما قاله ابن العراقي : يمكن أن تضبط المسألة -يعني الفرق بين النصوص التي فيها عدم القبول بمعنى عدم الصحة والأخرى التي فيها أن عدم القبول بمعنى عدم الثواب- قال: يمكن أن تضبط بأنه إذا اقترن مع عدم القبول في النص ذكر معصية، فإنه يكون عدم القبول بمعنى عدم الثواب-بمعنى أنه لا يثاب عليها والعبادة صحيحة-، وإن لم يقترن بالعبادة معصية وإنما اقترن بها شرط، صار معنى عدم القبول عدم الصحة. وهذا ضابط عندي حسن، لأنه يمكن ضبط كثير من المسائل به. ( شرح متن الورقات للآل الشيخ ) . وكذا قال نحوه الإمام النووي . ولمزيــد من الفائدة في هذه المسألة يراجع كتاب : شرح الكوكب المنير لابن النجار ( 1 / 470 ) .
وجاءت أحاديث كثيرة جدا ربط العدد بالأربعين ما لا يحصى ذكره في هذا الموضع .
قال الملا القاري : والحاصل أن لعدد الأربعين تأثيرا بليغا في صرفها إلى الطاعة أو المعصية ولذا قيل من بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شره فالموت خير له فإن تاب أي رجع إليه تعالى بالطاعة تاب الله عليه أي أقبل عليه بالمغفرة فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحا ظاهره عدم قبول طاعته ولو تاب عن معصيته قبل استيفاء مدته كما يدل عليه الفاء التعقيبية في قوله فإن تاب تاب الله عليه ويمكن أن يكون التقدير ولو كانت التوبة قبل ذلك والفاء تكون تفريعية . (مرقاة المفاتيح) . وقال الامام النووي : لعل وجه التقييد بالأربعين لبقاء أثر الشراب في باطنه مقدار هذه وكذا . (مرقاة المفاتيح) (11/288) .
وقال الشيخ الدهلوي كلاما عجيباً فقال : السر في عدم قبول صلاته أن ظهور صفة البهيمة وغلبتها على الملكية بالإقدام على المعصية اجتراء على الله وغوص نفسه في حالة رذيلة تنافي الإحسان وتضاده ، ويكون سببا لفقد استحقاق أن تنفع الصلاة في نفسه نفع الإحسان وأن تنقاد نفسه للحالة الإحسانية . ( حجة الله البالغة ) .
قال الشيخ حاتم الشريف العوني : وأما حديث :" مدمن الخمر كعابد وثن " فقد اختلف فيه تصحيحاً وتضعيفاً، والراجح ضَعْفُه من جميع وجوهه ، فانظر (العلل) لابن أبي حاتم ( رقم 1553 ، 1591) ، و(التاريخ الكبير) للبخاري (1/129) (3/1515) ، و( شعب الإيمان) للبيهقي ( 5/12-13رقم 5597 - 5598) ، (والعلل المتناهية) لابن الجوزي ( رقم 1116-1121) .
وأما من صححه كابن حبان ( رقم 5347) ، والضياء ( 10/330) فتأولوا الحديث وفسروه بأقوال :
منها : أن المشبه بعابد الوثن هو المستحل له المعتقد أنه حلال مع علمه بتحريم الله تعالى له ( وهو تفسير ابن حبان له ) .
ومنها : أن وجه الشبه ، هو : حبوط عمله كحبوط عمل الكافر، أي أنه لا يُثاب على القربات ( وهو تفسير طاووس بن كيسان أحد علماء التابعين ، كما في (المجتبي) للنسائي رقم 5665) .
ومنها : أن المدمن والكافر سواءٌ في مطلق التعذيب بالنار ، ولا يلزم استواؤهما في كل شيء ، فإن الكافر مخلّد في النار ، وأما عُصاة المؤمنين فلا يخلدون ، ثم هم مُعرضون لعفو الله ورحمته .
ومنها : أن مدمن الخمر في اتباعه لهواه ومخالفته أمر الله -تعالى- كعابد الوثن ، وقد قرن الله - تعالى- بين الخمر وعبادة الأوثان ، فقال - تعالى- : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " [ المائدة : 90].
ومنها : أن تعلق قلب مدمن الخمر بالخمر يشبه تعلق قلب عابد الوثن بالوثن ، كما قال - تعالى- عن اليهود: " وأُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم" [البقرة: 93].
وعلى هذه المعاني يُحمل قول عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - : " من شرب الخمر فلم يِنْتشِ لم تقبل له صلاةٌُ ما دام في جوفه أو عروقه منها شيءٌُُ ، وإن مات مات كافراً، وإن انتشى لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ، وإن مات فيها مات كافراً "
تفسير طينة الخبال :
فسّره الحديث أنه صديد النار وقال السندي : وَهَذَا مَبْنِيّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِطِينَةِ الْخَبَال هِيَ نَهْر الْخَبَال وَهُوَ الظَّاهِر وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .
لطيفــة : ذكر الشيخ سيد العفاني في كتابه " صلاح الأمة " فصل من رحل لطلب حديث واحد فجاء :
عن ربيعه بن يزيد قال سمعت ابن الديلمي يقول بلغني حديث عن عبد الله ابن عمرو بن العاص فركبت إليه إلى الطائف أسأله عنه وكان ابن الديلمي بفلسطين قال فدخلت عليه وهو في حديقة له فوجدته مختصرا بيد رجل كنا نتحدث بالشام أن ذلك الرجل من شربة الخمر قال فقلت له يا أبا محمد هل سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في شارب الخمر شيئا قال فاختلج الرجل يده من يد عبد الله بن عمرو فقال نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا
قلت ما حديث بلغني عنك تقوله إن صلاة في بيت المقدس كألف صلاة وإن القلم قد جف فقال عبد الله اللهم إني لا أحل لهم أن يقولوا إلا ما سمعوا مني قالها ثلاثا قال ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن سليمان بن داود سأل الله ثلاثا سأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه وسأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه وسأله من أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه أن يغفر له هذا آخر حديث أبي صالح وزاد معن وسياق الحديث له قال وسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن الله خلق الناس في ظلمة فأخذ نورا من نوره فألقى عليهم فأصاب من شاء وأخطأ من شاء فقد عرف من يخطئه ممن يصيبه فمن أصابه من نوره اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول إن القلم قد جف . ( الرحلـة في طلب الحديث ) (1/ 137 ) .