بارك الله فيكم..
المسألة تحتاج في الابتداء إلى تحرير دقيق للمراد بالبدعة.. فإن حددناها بحد جامع مانع فلعلنا نقول: "هي كل قول أو فعل محدث بغير مثال سابق، أو بغير دليل شرعي معتبر".. وهو بيان قوله عليه السلام : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"
وقد يؤول بعض النزاع في كثير من أبواب البدعة التي بها يوصف الفعل بأنه بدعة إلى الاختلاف في حدها وضبطها ابتداءا، فإن وقع بيننا الاتفاق على الحد الجامع المانع وكان ذلك منطلقا للنظر، زال شطر كبير من النزاع فيما يأتي بعد مترتبا عليه.. (ولا يخالف في حدها العام - غالبا - إلا أصحاب البدع المنافحون عنها، فهم يريدون تضييق حدها حتى يتسع الشرع لما رأوا هم مشروعيته مما اتفق أهل السنة على بدعيته، وهذا موضوع آخر) ويبقى نزاع النظار بعد ذلك فيما يرقى عندهم للاستدلال ويصح أن يوصف بأنه "دليل شرعي معتبر" في كل مسألة بحسبها!
فإن صح - مثلا - عند مجتهد من المجتهدين نص أو أثر سلفي في مسألة مسح الوجه بالكفين بعد الدعاء، أو كان من نظره في درجة ضعف الآثار الواردة فيها لا يراها مانعة من إدخالها قاعدة مشروعية العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، فيراها مشروعة لذلك، فإنه يكون خلافه مع الذي يقول ببدعيتها خلافا سائغا، فالحق أن كل عبادة يرى أحد المجتهدين أنها مشروعة لدليل معتبر عنده، ولا يوافقه على ذلك مجتهد آخر، فلهذا المجتهد المخالف أن يصفها بأنها بدعة، لأن الدليل عنده غير صالح للاستدلال، فمشروعيتها عنده مردودة، فليس أمامه إلا أن يراها بدعة..
وقد يستفرغ هذا الباحث وذاك الوسع في النظر في أقوال السلف في المسألة فيرى أحدهما أن له سلفا في تبديع من رأى مشروعية ذلك الفعل، ويرى الآخر أن له هو الآخر سلفا في القول بمشروعيته (ومن ثم رد القول ببدعيته) كذلك، فعلام يدل هذا؟ يدل على أن الخلاف - نفس هذا الخلاف الواقع بينهما - خلاف قديم وقع بين السلف أنفسهم مثله، فلا ينحسم أمره بمجرد التمالؤ بأقوال السلف وما أثر عنهم، بل يبقى الأمر على ما كان عليه: خلافا سائغا تعاقبت عليه أعصار المسلمين، بين من يقول بالمشروعية ومن يقول بالبدعية..
ولي استطراد هنا أرجو أن يعذرني فيه شيخنا أمجد وفقه الله ولكن تدعو إليه الحاجة في نظري والله أعلم..
فقد رأيت أنه يقع خلط كثير من بعض الفضلاء عند مدارسة أمثال هذه المسائل بين وصف الفعل ووصف الفاعل..
نعم فاعل البدعة أو القائل بها مبتدع فيها بحسبها، وهذا من حيث القاعدة كما نقول من فعل كذا فقد ابتدع.. فلا فرق من هذه الحيثية بين الحكم على فعل ما بأنه بدعة أو كفر، وبين وصف القائل به أو فاعله (من جهة النوعية لا العينية) بقولهم من قال كذا أو من فعل كذا فقد ابتدع أو كفر! ولكن البدعة فعل أو قول قد يرى المجتهد مشروعيته لدليل صلح عنده للاستدلال مع أنه على الصواب ليس يصلح.. ولكن هل قولنا "على الصواب" هذا في مسألة متفق فيها على أنه لا يصلح، أم مختلف فيها؟ أعني في القرون الفاضلة فهي المرجع عند النزاع.. وهل الخلاف سائغ أم أن فيه قولا متفقا عليه وقولا شاذا، شذ به من شذ ولو كان صحابيا؟ وحينئذ هل يقال أن هذا الصحابي "مبتدع" على هذا الإطلاق، بحيث تلحق به هذه الصفة؟ هل يطلق عليه أنه من "أهل البدع" أو أنه مبتدع، ويلصق به ذلك؟؟ كلا ولا شك! بل هو مخطئ في اجتهاده - ويصح أن يقال أنه كان فيه على بدعة مع كونه مجتهدا مأجورا - لاتفاق السلف على خلاف ما انفرد هو به، ولا يوصف بأوصاف مطلقة من مثل هذه التي نلحقها بأهل الفرق الضالة ونميز بها صاحب البدعة الأصلية الكلية من الواقعين في البدع الجزئية، فضلا عن التمييز بين المتسنن المجتهد ومن يتبع الهوى تقليدا! تماما كما نقول في فاضل من أهل العلم: وافق الأشاعرة والمعتزلة مثلا في كذا، ولكن لا نلحقه بهم.. مع أن قوله هذا المنسوب إليه متفق على بدعيته وفساده، فكيف إن لم نهتد إلى اتفاق بين الصحابة والسلف على تبديع القائل أو الفاعل في هذا الفعل أو ذاك، وكان لذاك القائل أو الفاعل مستند يستدل به - صلح للاستدلال أو لم يصلح؟
تأملوا قول شيخ الإسلام رحمه الله - والذي نقله الفاضل الأزهري في مشاركته الأخيرة - إذ يقول:
"كثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآياتٍ فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع..." اهـ.
فقوله هذا رحمه الله قد يدخل فيه من قال بمشروعية شيء لا يقوى عليه دليل عند مخالفه -وأن كان المخالف هو جمهور العلماء -، كما قد يدخل فيه من شذ بتلك المشروعية (موافقا لمن شذ بها كذلك من السلف)! والواجب حينئذ هو عين ما يجب على كل مجتهد إزاء من خالفه في الاجتهاد ما دام الخلاف خلافا سائغا! (هذا مع العلم بأن بعض مسائل الخلاف في الفرعيات قد لا يراها بعض المجتهدين مما يسوغ فيه الخلاف، وهذه مسألة أخرى). أما من شذ، فعلينا إعذاره وترك متابعته على قوله ذاك، مع العلم بأن ثبوت وصف البدعة على الفعل الشاذ الذي اتفق السلف على أنه ليس بمشروع، أقوى اعتبارا من ثبوته على الفعل الذي في مشروعيته خلاف مشهور بينهم.. وإن كان المعنى (معنى البدعة) يشملهما جميعا عند من لا يرى أصل المشروعية، وإن تفاوت مقداره وما ينبني عليه من أحكام إزاء الواقع فيه عنده.
فعلى مثالنا الذي مثلنا به آنفا، الرجل الذي نراه يمسح وجهه بيديه بعد الدعاء هذا لا نرميه بالبدعة كوصف ملابس له يتميز به، إن كنا من القائلين بعدم مشروعية فعله هذا لضعف الدلالة عندنا.. وإنما نقول فعله هذا بدعة (عند ذكر ذلك الفعل أو عند الكلام على مذهبه فيه)، وهو عندنا مبتدع فيه تحديدا، أو مقلد لمبتدع فيه.. أو موافق لمبتدع باجتهاده إن كان من أهل الاجتهاد والنظر وقد توصل إلى مشروعيته بناءا على اجتهاده.. فهو عندنا على بدعة بفعله ذاك! ولكن هل هذه البدعة تهمة في حقه أو خارمة لتسننه أو لفضله أو نحو ذلك؟؟ كلا ألبتة، ولا قريب من ذلك! فهو مجتهد فيما ساغ فيه الاجتهاد من القرون الأولى! واختياره الذي ذهب إليه له فيه سلف.. فلا نشنع عليه به ولا نتهمه في دينه وتسننه واتباعه!
ومن المسائل ما قد يقع فيه خلاف معتبر بين القائلين بالمشروعية والقائلين بالبدعية (وليس للمشروعية من قسيم إلا البدعية: فالفعل التعبدي إما مشروع وإما مبتدع، لا ثالث لهما!) فينظر الناظر فيجد - على سبيل المثال - صحابيا وتابعين أو ثلاثة يقولون بالبدعية، ويجد المشهور عن الصحابة والسلف في المقابل القول بالمشروعية.. فهل له أن يقول أن القائلين بالبدعية لم يصلهم الدليل؟ نقول ربما، هذا محتمل مهما عظم قدرهم.. ومحتمل أن يكون قد بلغهم ولكن رجح عندهم ما يخالفه..
وهل له حينئذ أن يقول أن له سلفا في وصف هذا الفعل بأنه بدعة؟ نقول نعم يسعك ما وسعهم، على اعتبار أن الخلاف في المشروعية قديم بين السلف.. ولا يقال حينئذ أن الذين لم يقولوا بالمشروعية ولكنهم كذلك لم يقولوا بالبدعية: لا يوافقون الذين قالوا بالبدعية على إطلاق الوصف بالبدعة! فليس من بديل للمشروعية سوى البدعية أصلا!
ولأضرب مثالا على ذلك، خلافهم في الجهر بالبسملة في الصلاة.. أبو هريرة رضي الله عنه صلى صلاة جهر فيها وقال أنه أعلم الناس بصلاة النبي عليه السلام.. وفي المقابل فقد نقل عن بعض السلف أن هذا الجهر بدعة! فهل انفرد من نقل عنه القول بالبدعية بوصف رفع الصوت بالبمسلة بأنه بدعة؟ كلا! بل كل من لم يكن يرى مشروعية هذا الفعل - والخلاف سائغ مشهور - لن يجد بدا إن طلبت منه وصفا يصف به ذلك الفعل إلا أن يصفه بأنه بدعة! يريد بذلك أنه غير مشروع ولا يثبت عنده دليل على مشروعيته! وهو اجتهاد من هذا واجتهاد من ذاك، فمن وافق بعضهم وقال الجهر بدعة، فله في سلفه كل من لم ير مشروعيته في الصلاة، ليس فقط من ثبت عنهم التصريح بأنها بدعة! ومن خالف وقال بل هو مشروع قد ثبت فعله عن النبي عليه السلام، فهو مخالف لكل من قال ببدعيته، ولا تثريب على هؤلاء ولا على هؤلاء! طالما أننا نفهم ما نقصده بالبدعة فهما صحيحا، ونفهم لازم وصف هذا الفعل بعينه بأنه بدعة، ونحفظ للمجتهد حقه من هؤلاء ومن هؤلاء ونرجو لهم جميعا من الله الأجر، فلا يضيرنا أن نصف الفعل بأنه بدعة وأن القائل بمشروعيته قد وقع بذلك في بدعة!
أما مسألة فقه الدعوة من جهة مراعاة أحوال العامة وسوء فهمهم للوازم البدعة وللتفصيل الدقيق في التبديع وتخطئة المخالف وفقه الإنكار عليه وكذا، فهذا اعتبار آخر وقضية أخرى لا دخل لها بالمسألة، فأرجو ألا يداخل بعض الإخوة بالكلام فيها ها هنا. فلا يخالف من له أدنى قدر من الفهم في دين الله في أن التبديع - مثلا - بالقول بخلق القرءان، ليس كالتبديع بالقول بمشروعية مسح الوجه بالكفين بعد الدعاء (عند القائل بعدم مشروعيته)!! فليتأمل أولو الألباب..
هذا والله أعلى وأعلم، ولله الحمد أولا وآخرا.