توزيع المخطوطات العربية والإسلامية في العالم

الاستاذ / عصام الشنطي رحمه الله

(1)
توطئة:

يقفز أمامي سؤال كبير يَفرض نفسه، ويُلحُّ في السؤال، وهو: كيف وصلت هذه الألوف من المخطوطات إلى أوربا وأمريكا؟ ذلك العالم البعيد عن ميدان النشاط الحضاري العربي والإسلامي، في عصور توجهوا فيها إلى العلم والتأليف، واطلعوا على إنجازات من قبلهم، فهضموها وتمثَّلوها، ثم قدَّموا حضارة ذات دفقة قوية، فيها إقرار لبعض ما سبق، وفيها تعديل وتصحيح، وفيها جديد مُضاف شأن جميع الحضارات السابقة واللاحقة.

على أن واقع المخطوطات العربية والإسلامية في وقتنا هذا، موزعٌ في أقطار العالم، وهي منتشرة عبر أربع قارات، من المغرب الأقصى حتى باكستان، ومن تركيا حتى الصومال، ومن أوربا حتى أمريكا، والحق أنه يمكن تقسيم هذه المناطق جميعها إلى ثلاث دوائر واضحة المعالم والحدود:

أولها: الدائرة العربية.

وثانيها: الدائرة الإسلامية.

وثالثها: الدائرة الأجنبية.

وهنا ينبغي أن ننبه إلى أن الصلة بين الدائرة الأولى والثانية صلة قوية، ليس من السهولة بمكان الفصل بينهما. فمنذ أن خرج العرب من جزيرتهم، يحملون دينهم الجديد، وفتحوا هذه المناطق الشاسعة، شرقًا وغربًا، ودخل أهلها في الدين الحنيف، وشاعت اللغة العربية –لغة القرآن الكريم- بينهم، وأصبحت لغة التدوين والتأليف والعلم، وانتشرت مهنة الوراقة والنساخة، وعُرف الوراقون، وشاعت المدارس ودور العلم، ووجدت في هذه المناطق جميعها، عربيِّها وإسلاميِّها، المخطوطات في كل موضوع وفن. مع التنبه أن كثيرًا من العرب بعد الفتوح اختلطوا بالأقوام التي دخلت في الإسلام، وأن كثيرًا من العلماء المنسوبين إلى مدن غير المدن العربية كالهمذاني والزمخشري والبيروني والرازي، وغيرهم، إنما نُسبوا إليها لنشأتهم فيها، وليس معناه أنهم يعودون بالضرورة إلى أصول غير عربية.

(2)

أولًا: الدائرة العربية:

من الطبيعي أن نجد في أقطار العرب المختلفة مخطوطات مبثوثة في العواصم والقرى وبيوت العلماء المشتغلين بالتأليف والتصنيف. وكانت المعلومات لدينا أن تجمعها الأكبر في بعض العواصم، أو بعض الأقطار دون الأخرى. وكنا نظن إلى عهد غير بعيد أن ليبيا والجزائر مثلًا تقل فيهما المخطوطات قلة واضحة، إلى أن اتضح أن المناطق النائية منهما، في الصحراء والواحات في الجنوب تحتوي على مخطوطات لا حصر لها، وكأن أهلها هربوا بها من سواحل بلادهم حيث احتلها الأغراب، وهددوا ثقافتهم وتراثهم بالقوة والقهر.

وحين نطوف في هذه الأقطار نرى أن مصر تتصدر المرتبة الأولى في اقتناء المخطوطات، ففيها نحو مائة ألف مخطوطة. وأشهر مكتباتها دار الكتب المصرية، وجامع الأزهر، وجامعة القاهرة، وفي الإسكندرية مكتبة البلدية (آلت إلى مكتبة الإسكندرية)، وجامعة الإسكندرية، والمسجد الأحمدي في طنطا (آلت إلى مخطوطات الأوقاف بمسجد السيدة زينب بالقاهرة)، وفي الزقازيق، ورفاعة الطهطاوي في سوهاج، وغيرها من المكتبات التي فهرست في العقود الأخيرة، ولدى الأفراد والأسر مئات من المخطوطات لا ندري عن أكثرها شيئًا.

ويمتلك العراق أيضًا نحو مائة ألف مخطوطة، نصفها تقريبًا في دار المخطوطات في بغداد، وهي المكتبة المركزية والتي كانت في حوزة المتحف العراقي، والباقي في نحو مائة مكتبة عامة وخاصة في المدن الأخرى، وفي أوقاف بغداد ألوف منها، وقد حُرقت عن آخرها في أحداث العراق الأخيرة.

وفي السعودية أكثر من سبعين ألف مخطوطة في مدينة الرياض وغيرها، تمتلكها الجامعات ومراكز البحوث ومؤسسات علمية. وقد اشترت عُظْمَها من تجار المخطوطات في العقود الثلاثة الأخيرة، وبهذا دخلت السعودية ودول الخليج العربي في منافسة مع الدول الأجنبية في شراء المخطوطات.

وفي المغرب الأقصى ما يزيد على ثلاثين ألف مخطوطة، وأشهر مكتباتها الخزانة العامة، والحَسَنية (الملكية) في الرباط والصُّبيْحية في سَلَا، وجامع القرويين في فاس، والجامع الكبير في مكناس، ومكتبة ابن يوسف في مُرَّاكش، ومكتبة الزاوية الحمزاوية في سيدي حمزة، ودار الكتب العامرية في تمغرات، هذا غير ما في صحراء المغرب مما نجهل أكثره.

وفي سوريا احتوت مكتبة الأسد الوطنية بدمشق على نحو أربعة عشر ألف مخطوطة جُمعت من دار الكتب الظاهرية بدمشق، والأوقاف في حلب، ولدى الأُسَر في المدن السورية ما هو بالمئات، وبعضها بالألوف.

وفي دار الكتب الوطنية في تونس العاصمة نحو خمسة وعشرين ألف مخطوطة، غير ما في المدن الأخرى من المكتبات العامة.

وفي اليمن أكثر من عشرين ألف مخطوطة في صنعاء، والروضة من ضواحي صنعاء، وتَعز وزَبَيد وحَجَّة، وتَرِيم في حضرموت حيث مكتبة الأحقاف الشهيرة، غير آلاف في البيوت لا إحصاء لها ولا ضابط.

وفي موريتانيا نحو أربعين ألف مخطوطة، في نحو ثلاثمائة مكتبة في نواكشوط العاصمة ومدينة تشيت وغيرها، وأغلبها مكتبات خاصة، وهي في حالة متدنية للغاية، وتحتاج إلى حملة شاملة لصيانتها وترميمها وتجليدها وحفظها في ظروف صحية ملائمة، وسرعة تصويرها.

وكذلك في الجزائر وليبيا والصومال والسودان والكويت وقطر وعُمان والإمارات، مما لا نرى تفصيله في هذه المحاضرة.

وفي ختام هذه الدائرة لا أنسى مخطوطات فلسطين التي تعرضت –وما زالت تتعرض- للتخريب الصهيوني، أو النهب والنقل إلى الجامعة العبرية، وتحتاج إلى خطة قومية لإنقاذ مخطوطات مدينة القدس، ومدينتي عكا ويافا المحتلتين، على وجه الخصوص.

(3)

ثانيًا: الدائرة الإسلامية:

تتصدر تركيا هذه الدائرة بجدارة، فقد قُدِّر عدد مخطوطاتها نحو مائتي ألف مخطوطة، أكثرها في إستانبول وأشهر مكتباتها السليمانية التي ضمت بين جوانحها عشرات المكتبات. والبقية في مدن أخرى مثل بورصة وقونية ومغنيسية وأنقرة وأدرنة. وفي مصدر آخر أن إستانبول تضم ثلاثمائة ألف مخطوطة، أي نحو 10% من المخطوطات في العالم، على تقدير أنها ثلاثة ملايين مخطوطة.

ولا بد أن ننبه هنا أن أكثر مخطوطات تركيا قد نُقلت إليها بقوة النفوذ ووضع اليد إبان الحكم العثماني للأقطار العربية نحو أربعة قرون. ولا بد أن ننبه أيضًا أن تركيا هي المثل الصارخ لامتناعها عن تصوير مخطوطاتها لمعهد المخطوطات العربية، أو لأي من الدول العربية، ويبدو أن الفرصة سانحة للمراكز العربية الخاصة للتصوير منها لقاء دعمها بالأجهزة والمعدات، ويحتاج هذا الأمر إلى تنسيق عربي للوصول إلى إنجاز أكبر، بعيدًا عن تكرار الجهود والنفقات.

وفي إيران نحو مائتي ألف مخطوطة، وعُدَّ في طهران العاصمة نحو 35 مكتبة تحتوي على مخطوطات عربية. ويُذكر من مدنها الأخرى ذات المخطوطات مَشْهَد.

وفي الهند -التي نشأت فيها في عصور ماضية دول إسلامية، وبالتالي انتشر الإسلام واللغة العربية- عدد وفير من المخطوطات في المدن والقرى، بعضها في مكتبات عامة تتبع الحكومة المركزية في دلهي، ومكتبات تتبع حكومات الولايات، ومكتبات وقفية تتبع هيئات إسلامية عامة، ومكتبات لها صفة الملكية الخاصة. وفي عام 1984م زرتُ خمس مدن هندية متباعدة، هي دلهي وحيدرآباد الدَّكن ومَدْراس وكَلْكتَّا وبَتْنه، ودخلتُ سبع عشرة مكتبة، تحتوي على إحدى وأربعين ألف مخطوطة. هذا غير مدن أخرى كمدينة تونك وديوبَنْد ورامبور وعليكرة.

وفي جمهورية أوزبكستان الإسلامية التي استقلت بأَخَرَة عن الاتحاد السوفيتي، معهد أبي الريحان البيروني للدراسات الشرقية في طشقند. وهو الذي يحتوي –حين زرته عام 1977م- على نحو سبعة عشر ألف مخطوطة. ويُذكر أن المخبآت من المخطوطات في عهد الاتحاد السوفيتي قد بدأت تظهر بعد الاستقلال عنه، وبدأ محصول هذا المعهد يزداد شراء أو إهداء. هذا غير ما في مدن وقرى أخرى كبُخارى وسمرقند.

ومثلها جمهورية أذربيجان، ومركزها باكو، وجمهورية طاجيكستان، ومركزها دوشَنْبِه، كلها تحتوي على الألوف من المخطوطات. وكذلك باكستان وأفغانستان في قارة آسيا، ونيجيريا والسنغال وغيرهما في قارة إفريقيا.

وأختم هذه الدائرة بذكر جمهورية البوسنة والهرسك الإسلامية الواقعة في قلب أوربا، والتي دخلت الإسلام في عهد الفتوحات العثمانية، وانتشر فيها هذا الدين واستقر، كما انتشر التأليف والتصنيف بالعربية من علماء المنطقة، وكثرت المخطوطات التي كان يجلبها أهل البلاد عند الحج، ومن تركيا، ومن أشهر مكتباتها في مدينة سراييفو –عاصمة البوسنة- مكتبة غازي خسرو بك الإسلامية التي تضم بين جدرانها نحو خمسة عشر ألف مخطوطة إسلامية، ثلاثة أرباعها مخطوطات عربية، أما مخطوطات معهد الدراسات الشرقية في سراييفو البالغة نحو أربعة آلاف مخطوطة، فقد حرقها الصرب عن آخرها، بصاروخ، في شهر مايو (أيار) عام 1992م.

(4)

ثالثًا: الدائرة الأجنبية:

تنحصر المخطوطات –موضوع المحاضرة- مكانًا في هذه الدائرة في قارتي أوربا وأمريكا، وزمنًا خلال الأربعة القرون الأخيرة.

ذلك أن أهل الدائرة الأولى والثانية من عرب ومسلمين كانوا قد حافظوا على مخطوطاتهم قرابة عشرة قرون. وكانوا يعتنون بها ورقًا وأحبارًا ونَسْخًا وتصحيحًا وتجليدًا وزخرفة وحفظًا. ولم يفرطوا فيها إلا بعد الانحدار والتخلف، وشيوع الأمية والجهل بقيمة هذا التراث، وما أودع فيه من فكر وإبداع.

كانت حركة الاستشراق النشطة قد ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي، موازية للنهضة الأوربية الحديثة. واقترن ذلك عند الأوربيين ببدء اقتناء المخطوطات للاطلاع على ما فيها، رغبة في اللحاق بالعرب والمسلمين والتفوق عليهم. وفي القرن السابع عشر الميلادي أنشئت في البلدان الأوربية منابر للدراسات العربية والإسلامية، للمزيد من البحث والاطلاع على الحضارة العربية الإسلامية، لتفتح لهم آفاقًا علمية جديدة. ولما تحولت أوربا في القرن التاسع عشر الميلادي إلى قوة عسكرية وسياسية كبرى، واحتلت كثيرًا في الأقطار العربية والإسلامية، ازداد اهتمام المستشرقين بالمخطوطات العربية شراء، أو استيلاء عليها بالقوة والنفوذ، ونشط نقل المخطوطات إلى بلادهم –بلاد الغربة- بكميات ضخمة وبأسعار زهيدة.

أما أمريكا فلم تدخل حَلْبة هذا المجال، ولم تفتح أبواب الدراسات العربية والإسلامية لديها، إلا في وقت متأخر، ومن ثم لم تشترِ المخطوطات، إلا في القرنين الأخيرين.

ومن قائمةٍ أمامي يتبين أن عشرين دولة أوربية تقتني مخطوطات، الأمر الذي يعني شيوع هذه المخطوطات فيها. وأن الولايات المتحدة الأمريكية هي الواحدة والعشرون التي اهتمت بالدراسات العربية الإسلامية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، وتبع ذلك –كما قلنا- اقتناء المخطوطات.

ولعل في صدارة هذه البلدان روسيا، التي يقدِّر الخبراء أن مكتباتها تضم نحو أربعين ألف مخطوطة. وقدَّر آخرون ضعف هذا العدد. ومن أهمها معهد الدراسات الشرقية في مدينة بطرس بيرج (لينين جراد سابقًا)، وجامعة بطرس بيرج، ومكتبة الدولة (لينين سابقًا) في موسكو.

وبريطانيا تحتوي على نحو عشرين ألف مخطوطة، ومن أهم مكتباتها المكتبة البريطانية (المتحف البريطاني سابقًا) في لندن، والمكتب الهندي في لندن، ومكتبة بودليانا في جامعة أكسفورد، وجامعة كيمبرج، والجمعية الملكية الآسيوية، ومكتبة وِلْكَم لتاريخ الطب، وجامعة ليدز، وجامعة مانشستر.

وفي فرنسا نحو ثمانية آلاف وخمسمائة مخطوطة، عُظْمُها في المكتبة الوطنية في باريس.

وفي إيطاليا نحو سبعة آلاف وخمسمائة مخطوطة، ومن أشهر مكتباتها أمبروزيانا في مدينة ميلانو، وغيرها في نابولي وفلورنسا وبالرمو (صقلية) والبندقية وتورينو.

وفي الفاتيكان في روما نحو ثلاثة آلاف مخطوطة.

وفي ألمانيا نحو أربعة عشر ألف مخطوطة. ومن أشهر مكتباتها مكتبة الدولة في برلين، ومكتبة جوتا وتوبنجن وليبسك وغيرها.

وفي هولندا نحو خمسة آلاف مخطوطة، ومن أشهر مكتباتها جامعة لَيْدِن.

وفي إسبانيا نحو ثلاثة آلاف مخطوطة، منها ألفان في مكتبة إسكوريال في دير إسكوريال الذي يبعد عن العاصمة مدريد نحو خمسين كم.

وفي بلغاريا ما يزيد على ثلاثة آلاف مخطوطة، كلها في المكتبة الوطنية في العاصمة صوفيا.

وفي أيرلندا مكتبة شستربتي Chester Beatty في مدينة دَبْلن، التي تضم نحو أربعة آلاف مخطوطة.

وفي النمسا نحو أربعة آلاف مخطوطة، وعشرة آلاف بردية عربية، ومن أشهر مكتباتها المكتبة الوطنية في فيينا.

أما الولايات المتحدة الأمريكية ففيها نحو ثلاثة عشر ألف مخطوطة، وقيل نحو ثلاثين ألف مخطوطة، ومن أشهر مكتباتها جامعة برنستون المتضمنة مجموعة يهودا المشهورة البالغة نحو خمسة آلاف مخطوطة، وجامعة ييل Yale، وجامعة شيكاغو، ومكتبة الكونجرس في واشنطن، والمكتبة العامة في نيويورك.

(5)

أمثلة من الاستيلاء والشراء:

لقد سلك الأجانب شتى الوسائل والطرق للحصول على هذه الثروة ونقلها إلى بلادهم. سواء كانت هذه الطرق شرعية أو غير شرعية. ونشط المستشرقون والدبلوماسيون والأثرياء منهم، يساعدهم تُجار المخطوطات وجهل أصحاب هذا التراث وسوء أحوالهم المالية. وحينًا كانت تنال إهداءً أو استيلاءً بقوة السلاح والنفوذ في فترة الاحتلال وانتشار الاستعمار.

وسنذكر بعض هذه الأحداث التي تكشف عن الأساليب التي اتبعت لامتلاك هذه الألوف من المخطوطات خلال القرون الأربعة الأخيرة. وسيدهش المستمع، إلى هذه الأحداث وكأنها حكايات موغلة في الخيال والمبالغة، غير أنها –ونحن غُفْلٌ عنها- حقائق واقعة، وأحداث ملموسة.

1- وقفتُ في مكتبة أمبروزيانا (بميلانو – إيطاليا) حين زرتها في أواخر عام 1989م، على غير مخطوطة كتب عليها أنها جُلبت من واحة جعبوب الليبية، أحضرها ضباط إيطاليون إبان احتلال ليبيا عام 1911م، ومن هذه البابة ما زال الصهاينة يمارسون منذ نصف قرن حيال المخطوطات في فلسطين التخريب أو النهب.

2- زار المستشرق هنري جلازر اليهودي النمساوي، في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، اليمن وأقطارًا عربية أخرى، غير مرة، وتخفَّى بزيِّ فقيهٍ عربي باسم الحاج حسين، وجمع في رحلاته مائتين وخمسين مخطوطة باعها للمتحف البريطاني، ومائتين وستًّا وأربعين مخطوطة اشترتها منه المكتبة الملكية ببرلين سنة 1877م.

3- طاف الكونت كارلو لندبرج السويدي، المتوفى 1924م، في مصر واليمن وأقطار عربية أخرى، وكان قد عمل قنصلًا للسويد في مصر، واشترى مئات المخطوطات ونقلها إلى بلاده.

4- استطاع المستعربون الروس، ومنهم كراتشكوفسكي، المتوفى 1951م، أن ينقلوا نفائس المخطوطات من الجمهوريات الإسلامية التي كانت تنضوي تحت مظلة الاتحاد السوفيتي، إلى معهد الدراسات الشرقية في بطرس بيرج. وكذلك زار هذا المستعرب لبنان وسوريا وفلسطين ومصر، واشترى منها مخطوطات لصالح معهده.

5- استطاع المستعرب البريطاني سيرجنت R.B.Serjeant الذي توفي بأَخَرة، والذي أقام في اليمن سنين طوالًا، أن ينقل كثيرًا من مخطوطات حضرموت وغيرها من المناطق اليمنية إلى جامعات إنجلترا، ولما تمكنت حكومة اليمن من إبعاده من بلادها قَرَّ في جُدَّة يستقبل المخطوطات التي يأتيه بها تُجارها اليمنيون.

6- جلب القنصل البريطاني في بغداد (لنج Lynch) عام 1860م، وما بعده، ثلاثمائة وعشر مخطوطات، وجلب قنصل بريطاني آخر هو بج Budge، من الموصل، مائة وثلاثًا وسبعين مخطوطة، أودعت جميعها المتحف البريطاني.

7- استطاعت بعثة بريطانية متخصصة في جمع نفائس المخطوطات أن تحصل من مصر، عام 1842م، على قدر وافٍ منها، من بينها ثلاثمائة مخطوطة مكتوبة على رَقِّ غزال.

8- قَدِم الثري الأيرلندي شستربتي بلادنا عام 1913م بحثًا عن المخطوطات والتحف، واستقر زمنًا في القاهرة، وتحلق حوله تُجار المخطوطات، فاشترى منهم نفائسها، وتجمع لديه نحو أربعة آلاف مخطوطة منتقاة، وهي محفوظة في مدينة دَبْلن (أيرلندا) في مكتبة سميت باسمه.

9- لضائقة مالية سافر الشيخ أمين بن حسن الحلواني المدني، وهو من الحجاز، من المشتغلين بالعلم، إلى لَيْدِن (هولندا) عام 1301هـ (1883م) ومعه ستمائة وأربعة وستون مخطوطة نفيسة آلت بالشراء إلى جامعة لَيْدِن والعجب أن الجامعة لضائقة مالية أخرى باعت عام 1900م جزءًا من هذه المخطوطات إلى جامعة برنستون الأمريكية.

10- اشترت مكتبة الكونجرس في واشنطن مكتبة الشيخ محمد إمام المنصوري بكاملها، وهو من علماء الأزهر، وذلك في الأربعينيات من القرن المنصرم، وهي تحتوي على ما يزيد على ألف وخمسمائة مخطوطة، عدا ألوف المطبوعات.

11- أمر السلطان عبد الحميد الثاني في إستانبول بإهداء عظم مخطوطات الجامع الأموي بدمشق إلى ألمانيا، بمناسبة زيارة ولي عهدها الجامع عام 1898م.

12- جمع الثري الأرمني فروج سلاطيان، وهو حلبي الأصل، مكتبة تضم مائة وستًّا وعشرين مخطوطة، أهداها إلى مكتبة يريفان عاصمة الجمهورية الأرمنية، ومعها فهرس مطبوع في بيروت في توصيفها، كان قد صنعه د. صلاح الدين المنجد، بتكليف من صاحب المخطوطات قبل إهدائها.

13- استأجر السلطان زيدان بن الملك أحمد المنصور السعدي عددًا من السفن لنقل مكتبة من مراكش إلى ثغر أغادير بالمغرب، والتي تبلغ نحو أربعة آلاف مخطوطة، ففاجأها قراصنة الأسطول الإسباني، واستولوا على المخطوطات عام 1021هـ (1612م)، وآلت كلها إلى مكتبة إسكوريال في إسبانيا، وما زلنا نرى تملكات هذه المخطوطات للسلطان زيدان مقيدة على ظهرياتها([1]).

14- حصلت جامعة برنستون الأمريكية عام 1943م على نحو خمسة آلاف مخطوطة مقابل سبعة وعشرين ألف دولار دفعتها للتاجر يهودا، وهو يهودي مغربي، من أصل بغدادي، وقد كان يجمع المخطوطات من بلادنا بقصد المتاجرة. وقد أصدرت الجامعة فهرسًا خاصًّا بهذه المخطوطات في مجلد ضخم بعنوان مجموعة يهودا.

15- نصح المستعرب الإيطالي جريفيني Griffini التاجر الإيطالي كايروتي في الحديدة باليمن أن يشتري المخطوطات بالحبوب التي كان يتاجر بها. واستطاع أن يجمع ألفًا وستمائة وعشر مخطوطات باعها إلى مكتبة أمبروزيانا في ميلانو (إيطاليا). وجريفيني نفسه الذي شغل منصب مدير المكتبة الملكية بعابدين في القاهرة، في الأعوام من 1920-1925م، رَحَّل من مصر وغيرها ألفًا ومائتين وإحدى وأربعين مخطوطة إلى مكتبة أمبروزيانا ذاتها.

(6)

وبعد،

فإن هذه الأعداد التي ذكرناها تقريبية، ويختلف المقدِّرون حولها اختلافًا كبيرًا. وطبيعي أن ينسحب هذا التقدير التقريبي على المخطوطات في أوربا وأمريكا، فمن قائل إنها ستون ألف مخطوطة، والمكثر جعلها مائة وأربعين ألفًا، أما مكتباتها في هذه الدول الأجنبية فحينًا مائة وستون مكتبة، وحينًا أربعمائة مكتبة.

وسوف لا تصح هذه التقديرات المتباعدة إلا بعد أن تخضع جميعها إلى الفهرسة، ونشر هذه الفهارس، بما فيها المكتبات الخاصة، التي ما زالت معلومتنا عنها ضئيلة وناقصة، ونحن نعلم أن ثلثي المخطوطات كلها لم تخضع للفهرسة بعد.

ومهما يكن الأمر فإن مخطوطاتنا كثيرة كثرة مؤكدة، على الرغم من أن ما وصلنا منها لا يتجاوز –في رأي الباحثين المتخصصين- 10% من المخطوطات أصلًا، وأن عظمها قد ضاع واندثر قديمًا في الحروب والتخريب والحرائق والتعصب الفكري.

ولا أرى أن نضيع الوقت في محاولة استعادة هذا التراث الفكري من بلاد الغربة، لأسباب منها أن القوانين الدولية (هيئة اليونسكو) لا تعين أصحاب هذا التراث على استعادته؛ لأنه غير مسجل لدينا، ولا معرَّفٌ به، ولا مفهرس. والأفضل من هذا أن ننسق لتصوير هذا التراث وحفظه وإتاحته للمحققين والدارسين، دون أن يتكرر العمل والنفقات في غياب التنسيق.

على أن نلتفت إلى ما لدينا منه، وهو كثير، يحتاج إلى فهرسة وتسجيل وتوثيق، ثم صيانة وترميم وتجليد وتصوير قبل أن يندثر بحكم الزمن الممتد، أو يتعرض للضياع بسبب الحروب والحرائق.

وينبغي أن يقترن هذا العمل بإصدار القوانين التي تحمي ما لدينا من التراث، وتوقف تيار المتاجرة به وتهريبه من مكان إلى آخر. والتعجيل بفهرسته وتسجيله وتوثيقه يساعد على استقرار هذه المخطوطات في أماكنها، وتُثبِّت ملكية أصحابه الأصلاء له.


([1]) مصطلح في علم المخطوطات، مفردها ظهرية، وهو أول ما يظهر لك من المخطوطة، وهي صفحة العنوان.