الحمد لله وحده، والصلاة والسلام من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم،
أمـا بـعــد..

فحيَّاكُم الله جميعًا وبيَّاكُم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وجعلنا بفضله وإيّاكم،
مِمَّن يستمِعون القول ويتَّبِعُون أحسنَهُ، ومِمَّن أنْعَمَ عليهِم برحمته وهَداهُم، لأفضل الأعمال؛ فَيَسَّر وبارك مسعاهم، وتقبل برحمته دعواهم.

الكرام الأفاضل..
يامن تحبون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتحبون المحافظة على الأعمال الصالحة والمداومة عليها؛
لا شك أنكم تعلمون جيدًا أنَّ التفريق والتمييز بين الأقوال -
حسنها وقبحها- لا يتمتَّع به إلَّا أصحاب العقول الصحيحة الراجِحة الزاكِية؛
ممّن شاء لهم ربهم بالهداية وبشَّرهُم بذلك؛ إذا حرصوا وداوموا على خصال الخير، بالتخلق بأحسن الأخلاق وأداء أحسن الأعمال،
كما قال سبحانه:

{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} الزمر: 18

وعلى اختلاف أقوال العلماء في تفسير (يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ)
فأحسن القول على الإطلاق هو كلام اللّه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وأحسن الكتب المُنزَّلة من كلام اللّه هذا القرآن، كما قال:

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} الزمر: 23

فالقرآن الكريم هو دستور الحياة للناس جميعا،
وأصحاب العقول الزاكية، الذين يتَّبعون كلام الله الكبير المتعال؛ يُحسِنون الاتِّباع، ويجعلون القرآن مِنهَاجَهُم في جميع الأحوال.


فما هي أحوالكم مع كتاب الله يا إخواني وأخواتي وأبنائي وبناتي الكرام الأفاضل؟

وللـدخــول في صُلْبِ المـوضــوع وجَـوهَــرِه مُبـاشــرة،
فتحديدًا، كيف تستقبلون أمر الله تعالى بالإحسان للوالدين؟
وتخصيصًا، أوجه كلامي لأبنائي الفضلاء وبناتي الفضليات..

ما هي أحوالكم مع والديكم؟ .. هل تُحسِنون إليهما وتبرّونهما؟،

كما أمرنا المولى تبارك وتعالى في كتابه العزيز، عند قوله تعالى:

1- {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا} البقرة: 83

وقوله تعالى:
2- {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا} النساء: 36

وقوله تعالى:
3- {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا} الأنعام:151

وقوله تعالى:
4- {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا} الإسراء: 23

فتلك أربع آيات من أربع سور مختلفة، أمرنا الله فيها بالإحسان إلى الوالدين، بخلاف أيات عديدة أخرى.



انتبهوا جيدا وتابعوا معي بقلوب محبة لله تعالى ولأوامره سبحانه، ولنقف معا عند الآية الرابعة بترتيب عرضهم،
ففي هذه الآية (الإسراء: 23
) وما في الثلاثة قبلها،
يبدأ التشريع بالنهي عن عبادة غير الله؛ لأن ذلك هو أصل الإصلاح، ويأتي بعده الأصل الثاني من أصول الشريعة، وهو بر الوالدين.


فيقول ربنا تبارك وتعالى: (وَقَضَىٰ) أي: أمر..
أي:
أمَرَ عباده ، و ألْزَمَهم ، و حَكَمَ عليهم ؛ فرضًا وتكليفًا ووجوبًا
بـمـــاذا؟
بعبادته وحده لا شريك له؛ فإنَّ القضاء هاهنا بمعنى الأمر، ثم قرَنَ بعبادته بِرُّ الوالدين، فقال (وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا)
أى:
وقضى أيضا بأن تُحسِنوا إلى الوالدين إحسانا كاملا لا يشوبه سوء أو مكروه.

فانتبهوا يا أبنائي الكرام الأفاضل؛ لأنَّ الأمر هنا من الله تعالى مُباشِرٌ لكم؛ وهذا أمر إلهي لجميع الأبناء والبنات بالإحسان إلى آبائهم وأمهاتهم.

فهل تعرفون معنى الإحسان إلى الوالدين جيدا؟
وهل تفهمون معناه كما ينبغي؟

إنَّـه الإعطاء بأكثر ما لديكم من عطاء، و المَنْح بكل ما لديكم من كرم في العطاء..
إنَّـه الجميل الحسن المُقترِن بكل معروف تقدمونه لهما..
..إنَّـه الإشفاق برقّة القلب لهما والحُنُوّ والعطف عليهما..
إنَّـه الرأفة والرحمة بهما ورِقَّة معاملتهما واستقبال كلامهما بكل امتِنَانٍ وبِشرٍ وسُرور..
إنَّـه الفضل الذي تُميَّزونهما به؛ فتُفضلونهما على أنفسكم وعلى غيركم في كل شيئ..
فالإحسان إلى الوالدين وبرهما كرامة لهما في الدنيا، وكرامة لكم في الدنيا والآخرة.


ومن مرادفات كلمة الإحسان: الإجادة ، و البراعة ، و الإِتْقَان ، و التمَكُّن .

فأنتم أبنائي وبناتي تحتاجون لكل ذلك في معاملتهما، كما أمرنا سبحانه وتعالى.

وأي علاقة إنسانية في الدنيا كلها غير معاملة الوالدين تستوجب علينا تحرِّي فهم البرِّ والإحسان جيدا؟!!

إنَّه البِرّ الذي سيجازينا به الله حسن الثواب والجزاء في الدنيا والآخرة، برحمته سبحانه وبفضله الواسع.


إذن فالمراد بالإحسان هنا، أي: أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي لأنهما سبب وجود العبد في الحياة،
وحبكم لهما واجبٌ عليكم وفرضٌ يُلزِمكُم بأن تبروهما في حياتهما وبعد مماتهما.

وبالوالدين إحسانا
هذا أمر مباشر من الله تعالى لكل الأبناء والبنات؛ يقتضي الامتثال إليه، ومخالفته يُعدُّ من الكبائر،
بل إن عقوق الوالدين وعدم الإحسان إليهما يُعدُّ من أكبر الكبائر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" أكبرُ الكبائرِ : الإشراكُ باللهِ ، وعقوقُ الوالديْنِ ، وشهادةُ الزورِ ، وشهادةُ الزورِ -ثلاثًا- أو: قولُ الزورِ".
فما زال يُكَرِّرُها حتى قلنا : لَيْتَهُ سَكَتَ . [1]

في هذا الحديثِ يُخبِرُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأكبرِ هذه الكبائرِ وأعظمِها، وهي الإشراكُ بِاللهِ، وعقوقُ الوالدَيْنِ، وهو الإساءةُ إليهما وعدَمُ الوفاءِ بحَقِّهما،
وكان مُتَّكِئًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَجلَسَ، وقال:
«ألَا وقولَ الزُّورِ»
والزُّورُ: هو الباطلُ، وظَلَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُكرِّرُها حتَّى قال أصحابُه في أُنفسِهم: لَيتَه سَكتَ؛ لِمَا حَصلَ لهم مِنَ الخوفِ.
ولا شَكَّ أنَّكُمْ تعْلَمُونَ الذُّنُوب الَّتي يقعُ فيها المؤمنُ؛ بأنَّ منها الصَّغائرُ ومنها الكبائرُ،
والكبائرُ هي الذُّنوبُ العِظامُ الَّتي تَعلَّقَ بها وعيدٌ في الآخرةِ، أو حَدٌّ وعقوبةٌ في الدُّنيا، كَالقتلِ وشُربِ الخَمْرِ والزِّنَا، وغيرِ ذلك...

وازديادًا في فهم المعاني؛ فمفهوم بر الوالدين:
لُغــًة: الخير والفضل، يقال: بَرَّ الرجلُ، يَبَرُّ بِرًّا، وجمع البر: أبرار, وجمع البار: بررة.
وبَرِرْتُ والدي، أبرَّرُهُ، بِرًّا: أحسنت الطاعة إليه، ورفقت به، وتحرَّيتُ محابّه، وتوقَّيتُ مكارهه.
واصطِلاحًا: بر الوالدين: الإحسان إليهما ؛ بالقلب، والقول، والفعل تقرباً لله تعالى.

ومفهموم عقوق الوالدين:
لُغــًة: عَقَّ، يَعُقُّ عقوقاً، والعقُّ: الشقُّ، يقال: عقَّ ثوبه، كما يقال: شقَّ ثوبه، ومنه يقال: عقَّ الولدُ أباه، وعقَّ أمه،
من باب قَعَد: إذا عصاه وترك الإحسان إليه, فهو عاقٌّ.

واصطِلاحًا: هو إغضابهما بترك الإحسان إليهما.

وقيل: عقوق الوالدين:

كل فعل يتأذَّى به الوالدان تأذياً ليس بالهيِّن، مع كونه ليس من الأفعال الواجبة.

وقيل: عقوق الوالدين:

ما يتأذَّى به الوالدان من ولدهما: من قولٍ، أو فعلٍ، إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالدان.

فإلى كل ابن فاضل وابنة فاضلة..


أمام كل منكما الفعل وضده؛ إمَّـا البرّ ، وإمَّـا العُقوق، والجزاء بيد الله سبحانه؛
ثـــواب أو عـقـــاب
كما أن الجزاء من الله تعالى يكون في الدنيا أولا، ثم في الآخرة!


فعقوق الوالدين من كبائر الذنوب والآثام ، والعاقُّ مُعرَّض بعقوقه لسَخَطِ الله وغضبه
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

" مَلْعُونٌ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ " [2].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : الْـعَـــاقُّ لِــوَالِــدَيْ ــــهِ ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَة ُ ، وَالدَّيُّوثُ ،
وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ : الْــعَــــاقُّ لِــوَالِــدَيْ ــــهِ ، وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى
" [3]

أمَّا بِرُّ الوالدين فله ثمرات عظيمة بشَّر بها النبي صلى الله عليه وسلم فيما صحَّ عنه،
ذلك أنه سبب في زيادة العمر وسعة الرزق وتفريج الكربات وإجابة الدعوات وانشراح الصدر وطيب الحياة.


وهو سبب في برِّ الأبناء بالآباء، كما أنه دليل على صدق الإيمان وكرم النفس وحسن الوفاء.

عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ، أَنَّ جَاهِمَةَ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَجِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ،
فَقَالَ: " أَلَكَ وَالِدَةٌ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " اذْهَبْ فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا " [4].

هذا الحديث فيه خلاف كبير في صِحةِ لفظه؛ لكنَّ في تخريجٍ للإمام الألباني صحَّ هذا اللفظ:
" الزَم رِجلَها فثمَّ الجنَّةُ " [5].
ومعنى اللفظين صحيح وسليم وواضح ولا يحتاج لشرح؛
لكنَّه معنى هام جدا عند المفاضلة بين الجهاد -الذي هو ذروة سِنام الإسلام-، وبين ملازمة العبد لأمه والبقاء معها لرعايتها،
ولا شك أن هذا المعنى يُزيدنا فهمًا لبرِّ الوالدين وأهمية الإحسان إليهما؛ كما أمر ربنا تبارك وتعالى، وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم.


هكذا يعلمنا سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم.

إنَّه برُّ الوالدين والإحسان إليهما، وهو من أجَلِّ الأعمال التي يُثاب عليها العبد، ويقطف ثمراتها،
ومــن هذه الثمرات في الــدنـيـــــا:

زِيــادة في الـعـمـــر

كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يَرُدُّ القضاءَ إلَّا الدعاءُ ، و لا يَزيدُ في العُمرِ إلَّا البِرُّ " [6].

ما تفعله اليوم مع والديك تلقاه غدا من أبنائك
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"بَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ... الحديث" [7].

دعاؤك مُستجاب عند الله بإذنه تعالى

ففي قصة أصحاب الغار الثلاثة عبرة، كان بينهم رجلاً باراً بوالديه فذكر ما كان منه معهما من البر ثم قال:
((فإن كنتَ تعلَمُ أنِّي فعلتُ ذلكَ ابتغاءَ وجهِكَ فافرُج لنا فُرْجةً نرى منها السَّماءَ ففرَّجَ اللَّهُ لهم فُرجةً حتَّى يرونَ منها السَّماءَ...)) [8].

وعن أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ رضي الله عنه أنَّ عمر رضي الله عنه قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
" يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ،
لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ
، ... الحديث " [9].

وفي الآخــــــرة
نعيمٌ مُقيم في جنَّات النَّعِيم،
كما قال رسول الله صلى عليه وسلم:
"دخلتُ الجنةَ، فسمعتُ فيها قراءةً، فقلتُ: من هذا ؟! قالوا: حارثةُ بنُ النعمانِ، كذلكم البرُّ ؛ كذلكم البرُّ. - كان أبرَّ الناسِ بأمِّه ". [10]

وبالوالدين إحسانا
إنَّه البرُّ والإحسان إليهما، الذي يحتاج إلى رجاحة العقل وسلامة القلب والامتثال لأوامر الله تعالى، عملًا بهذه الحكمة:

مَنْ أَرْضَى وَالِدَيْهِ : أَرْضَى خَالِقَهُ ، وَمَنْ أَسْخَطَ وَالِدَيْهِ ، فَقَدْ أَسْخَطَ رَبَّهُ .

وبر الوالدين والإحسان إليهما يكون في مرحلتين رئيسيتين: الأولى وهما في قوتهما ، و الثانية وهما في حالة الكبر،
ووجوب بر الأبناء بوالديهما فرضًا لازمًا عليهم يجب أن يُغرس فهمه في عقولهم وقلوبهم، يبــدأ مــن:


المرحلة الأولى
عند أول إداركهم وبلوغهم سن التكليف في مرحلة المراهقة،

حيث الالتزام بأداء أركان الإسلام،
بالمحافظة على الصلاة المفروضة في أوقاتها مع النوافل، وصيام شهر رمضان فرضًا وغيره من الأيام تطوعًا،... إلخ.
وحيث الالتزام بتعلُّمِ أمور الدين،
بتحصيل قدر من العلم، وتعلُّم كيفية الامتثال لأوامر الله تعالى وتجنب نواهيه،... إلخ.

المرحلة الثانية
بمجرد بلوغ أحد الأبوين أو كلاهما حالة الكبر والضعف، عملًا بقوله تعالى:
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}الإسراء: 23

ونحن ما زلنا في وقفتنا مع هذه الآية الكريمة،
فقد ذكر الله تعالى
حالة الكِبَر، ودلَّنا على مدى دِقَّةِ العناية بالوالدين وهما في هذه الحالة التي يحتاجان فيها إلى البِرِّ بصورة أكبر وأشمل؛
فألزم سبحانه في هذه الحالة مُراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لأنهما قد صارا عِبئاً ثقيلًا على الأبناء،
ويحتاجان رعايتهما كما كان يحتاج الأبناء لتلك الرعاية في صغرهم


وقد تطول بالوالدين أو أحدهما مرحلة الكِبَر، ويظلُّون على هذا الحال لسنوات، فيشعر بعض الأبناء بالاستثقال والضيق والملل،
فيُظهِرون غضبهم على أبويهم، وحفاظًا على مشاعر الوالدين ورحمة بهما نهى الله تعالى عن إظهار أقلّ مظاهر الغضب بالتنفس أو التأفيف،
وأمر سبحانه بالترفق بهما دائما قولا وعملا؛ بالقول اللين اللطيف،
والعمل على راحتهما وتلبية كل متطلباتهما بلا كراهة.

وتعامل الأبناء مع والديهم في حالة الكبر يحتاج إلى فهمٍ عالٍ وتدريبٍ سابق،
وهذا ما يجب على الأبناء أن يتعلموه جيدا في المرحلة الأولى السابق ذكرها، حيث يتعلمون أمور دينهم والالتزام بها.


أسأل الله تعالى لي ولكم أن يجعلنا ممن برّوا والديهم كما أمرنا سبحانه، وأن يتجاوز عنَّا كل تقصير في حقهما،
وأن يغفر لمن مات منهم ويرحمهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.





__________________
المراجع:
تفسير ابن كثير
تفسير الوسيط للشيخ طنطاوي
تفسير الطبري
تفسير السعدي
تفسير القرطبي
الدرر السنية: موسوعة الحديث
بر الوالدين: د. سعيد القحطاني
من خطبة الجمعة، للشيخ بهجت العمودي-موقع المنبر

----------------
[1] رواه الإمام البخاري (6919).
[2] متن الحديث:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

" لَعَنَ اللَّهُ سَبْعَةً مِنْ خَلْقِهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ ، وَرَدَّدَ اللَّعْنَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلاثًا ، وَلَعَنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَعْنَةً تَكْفِيهِ ،
فَقَالَ : مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ،
مَلْعُونٌ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنَ الْبَهَائِمِ ، مَلْعُونٌ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ ، مَلْعُونٌ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ ابْنَتِهَا ،
مَلْعُونٌ مَنْ غَيَّرَ حُدُودَ الأَرْضِ ، مَلْعُونٌ مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ ".
رواه الإمام الطبراني في: الأوسط (8497) ، وصححه الإمام الألباني في: صحيح الترغيب (2420).
[3] صححه الإمام الألباني في: صحيح سنن النسائي (2561).
[4] المستدرك على الصحيحين للحاكم (7248)، وقال الإمام الذهبي في ملخصه: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ, وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.

وقال الإمام الشوكاني في الدراري المضيئة (441): اختلف في إسناده اختلافا كثيرا. وضعفه الإمام الألباني في السلسلة الضعيفة.
[5] متن الحديث، عن معاوية بن جاهمة السلمي:
يا رسولَ اللَّهِ إنِّي كنتُ أردتُ الجِهادَ معَكَ أبتغي بذلِكَ وجْهَ اللَّهِ والدَّارَ الآخرةَ،
قالَ:
" ويحَكَ أحيَّةٌ أمُّكَ "
قُلتُ: نعَم
قالَ: " ارجَع فبِرَّها "، ثمَّ أتيتُهُ منَ الجانبِ الآخَرِ فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ إنِّي كنتُ أردتُ الجِهادَ معَكَ أبتغي بذلِكَ وجهَ اللَّهِ والدَّارَ الآخرَةَ
قالَ: " وَيحَكَ أحيَّةٌ أمُّكَ " ، قلتُ نعَم يا رسولَ اللَّهِ
قالَ: " فارجِع إليْها فبِرَّها " ، ثمَّ أتيتُهُ من أمامِهِ فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ إنِّي كنتُ أردتُ الجِهادَ معَكَ أبتغي بذلِكَ وجْهَ اللَّهِ والدَّارَ الآخرةَ
قالَ: "ويحَكَ أحيَّةٌ أمُّكَ" ، قُلتُ: نعَم يا رَسولَ اللَّهِ
قالَ: "ويحَكَ الزَم رِجلَها فثمَّ الجنَّةُ" صححه الإمام الألباني في: صحيح ابن ماجه (2259)
[6] حسنه الإمام الألباني في: صحيح الجامع (7687).
[7] حسنه المنذري في: الترغيب والترهيب (3/294).
[8] من حديث مطول رواه الإمام البخاري (5974) ، رابط المتن والشرح:
هنـــا
[9] من حديث مطول رواه الإمام مسلم (2542) ، رابط المتن والشرح: هنـــا
[10] صححه الإمام الألباني في: تخريج مشكاة المصابيح (4854).