قال ابن الجوزي:
قال ابن عقيل(1): الفلسفة حدس قد يوافق الإصابة وقد يخطئ. والنبوة حق تصيب ولا تخطئ. وفرق بين من كان مصدره حدسا وبين من كان مصدره وحيا.
---
وقال ابن الجوزي:
ونقلت من خط ابن عقيل (2) قال: حضرت أرسطو الوفاة، فرأى تلاميذه ما هو فيه من غير أن يكون كَرِبا لذلك، فسألوه عن كونهم في حزن وهو في سرور، فقال: ثقة مني بالروح بعد الموت.
قالوا: وما سبب الثقة ؟
فقال: أخبروني، أموقنون أنتم بفضل الفلسفة ؟
قالوا: لولا علمنا بفضلها ما اقتبسناها.
فقال: أذلك الفضل في الدنيا أم في الآخرة ؟
قالوا: إذا أقررنا بفضل الفلسفة ورأينا غير أهلها في الدنيا أفضل عيشا من أهلها، فقد اضطرَّنا الرأيُ إلى أن نوجب ذلك الفضل لأهلها في الآخرة.
قال: فإنكم إن كرهتم الموت الذي هو السبب لكم في الآخرة، فقد كرهتم المنزلة التي فيها الفضل لكم، ورضيتم المنزلة التي فيها الضرر عليكم. ثم إنكم حقا أن تنظروا ما هذا الموت المكروه عند العامة، هل يجدونه غير مفارقة الروح الجسد ؟
قالوا: لا.
قال: فهل يسركم ما أدركتم من العلم ؟
قالوا: نعم.
قال: فبماذا تنالون العلم، بالجسد أم بالروح ؟
قالوا: بحياة الروح، وأن البطيء عنه ثقل الجسد.
قال: فإذا كان قد استبان لكم أن العلم ثمرة الروح وأن البطيء عنه ثقل الجسد، وكنتم بدرك العلم مسرورين، وبفوته محزونين، لقد اضطركم الرأي إلى إيثار مفارقة الروح الجسد، إذ قد بان لكم أن مفارقة الروح الجسد أفضل لكم من ملازمته إياه. ألستم ترون شهوات الجسد من النساء والبنين وفضول المطاعم مضرة بالفلسفة، التي معناها صب الحكمة وأنكم لم تجعلوا تلك الأمور إلا صيانة للعقل ورغبة في العلم؟ قالوا: بلى.
قال: فإذ أقررتم أن هذه اللذات المقوية للأجساد مفسدة للعقول، فقد التزمتم أن الأجساد التي هي قابلة لهذه اللذات أفسد.
قالوا: لقد اضطرنا الرأي إلى تحقيق ما مضى من قولك، وكيف لنا أن نجترئ من الموت على ما اجترأت عليه، ونزهد في الحياة كما زهدت؟ قال: إني مجهد نفسي في الصدق، فأجهدوا أنفسكم في الفهم. إن الفيلسوف قد رضي من الدنيا مالا تراد الدنيا له، واحتمل من نصب الفلسفة ما لا يرح منه إلا الموت، فما حاجة من لا يتمتع بشيء له من الحياة إلى الحياة، وما هرب من لا راحة له إلا في الموت من الموت، ولقد جهل من ظن أن له إليها من التنعم والتلذذ سبيلا، ومن حرم نفسه لذة إليها واحتمل مؤنة الفلسفة لا ينفي ثوابها بعد الموت، ثم أُلقيَ حزينا عند الموت فقد عرض نفسه لأن نضحك منه، ومن أحق بأن نضحك منه من ناصب غرس أو باني قصر يوجد محزونا حين تم له منها الذي أمله.
(1),(2) : (الثبات عند الممات ابن الجوزي)