وهبت الرياح

لغة وأدب
أحمد عطية - قاص مصري

كان الحوار على أشده، وكان يجلس هناك في أحد أركان الحجرة.. يتابع في صمت، يمتزج بالخوف، ما يدور حوله، وكان الرفاق قد أتوا لزيارة صديقهم الذي حبسه المرض منذ أيام قلائل، وحملوه على المجيء معهم، فلم تكن المعرفة التي تربطه بصديقه المريض قوية،

فقد قابله- فيما يذكر- مرة أو مرتين، حتى صورته لم تتضح في ذهنه عندما قالوا له إنه مريض.

تردد في المجيء، لكنه أتى بعد إلحاح، ودار الحديث في أغلبه حول ثواب الزيارة، ولكن حدث ما كان يخافه، فقد انقسم الرفاق إلى فريقين حول إحدى القضايا الدينية التي تشغل بال الناس في هذه الأيام، وأخذ أفراد كل فريق يطرحون رؤاهم التي تعضد موقفهم حيال هذا الأمر.. إلا هو.. فلم يدخل في أي فريق، بل ظل الصمت يخيم عليه وحده، وتناساه الرفاق، وكأنه لم يأت معهم، أو كأن الجالس هناك في ركن الحجرة ظلال تجمعت بسبب اصطدام شيء ما بضوء المصباح، فهو فضاء أسود لا وجود له على أرض الواقع، ومن الممكن في أي لحظة أن يزول.
ارتفع الصوت ووصل الحوار إلى أعلى درجاته، ولم ينطق صاحبنا بكلمة واحدة، وكل ما كان يفعله هو أن يرمق الجالسين بنظره فقط، فنظره حائر بين الفريقين، وغدا وكأنه وقع بين أمواج متلاطمة تدفعه يمينًا ويسارًا حتى أوشك على الغرق، أو بالأدق يئس من محاولات النجاة.
ليته لم يأت.. قالها في نفسه الحزينة مرات عدة، فضرورات الحياة ألهته عن طلب العلم الديني أو حتى معرفة جزء ضئيل منه، فهو يبدو وكأنه في صراع مع تلك الحياة التي لا تهبه من عمره إلا بعض الأوقات البسيطة التي يخلد فيها للنوم.. حتى هذه لم تسلم له في أغلب الأحوال.
الصوت مازال يملأ أركان الحجرة، والرفاق غدوا وكأنهم وجدوا ضالتهم في حديثهم هذا، وثوب الصمت مازال يخيم على صاحبنا في ركنه المظلم الجالس فيه، ووجهه يتوارى خجلا من ضوء المصباح المدلى من سقف الحجرة الذي تحركه الرياح المنبعثة من إحدى النوافذ، فيبدو وكأنه يكشف أستار الظلام ليعري ما وراءها.. وكان صاحبنا كلما اقترب منه ضوء المصباح حاول أن يختبئ في أي شيء، حتى إنه تمنى أن تبتلعه الأرض في موقفه المخجل هذا، فالكل يتحدث إلا هو، وكأن رصيده من الكلمات قد نفد، وغدا حاله وكأنهم حملوه معهم كما يحمل الأب صغيره الى أحد الأفراح في شوارع القرية، فلا حضوره يؤثر، ولا غيابه يضر.
الوجه يزداد حزنًا، والمصباح يعانده في الوصول إليه في مخبئه هذا، والكل انشغل بالحديث عنه، والكلمات تبدو وكأنها مربوطة في جبل من الصخر، والصمت يبدو وكأنه جدار مظلم يحجبه عن الناس من حوله.
الرياح مازالت تهب على وجهه، والليل يرمقه من هناك.. في ذلك الفضاء المتسع الذي يمتد إلى مالا نهاية له من العلو.. انشغل صاحبنا قليلا بتلك الرياح، وبذلك الليل الذي يطل عليه من بعيد، وكأنه أحس منهما صداقة جديدة ربما تعوضه عن هؤلاء الرفاق الذين لم يعرف عن حديثهم أي شيء، ولو تكلم لسخروا منه وعدوه أحد الجهلاء الذين كانوا السبب في بلايا الأمم.
ثم أفاق إلى نفسه مرة أخرى وهو يتمتم.. ليتني لم آت إلى هنا، نعم ليتني لم آت إلى هنا، كان من الممكن أن أتقرب إلى ربي بأي ثواب آخر غير هذا، وصدقني يا صاحبي.. فأنا المريض لا أنت، أنا الآن أشعر أني ذرات تافهة في هذا الوجود المتسع، أشعر وكأنني لا شيء، ربما أكون فراغًا وأنا لا أدرك، أو لعلني شبح لذلك الأحمق الذي عاش منذ آلاف السنين، وبقيت سيرته للأجيال يصبون عليها جامّ غضبهم في كل حادثة من حوادث الحياة.
نعم لعلني هو، فأنا أشعر الآن بأن القرون الخوالي تتحرك في داخلي، وبأن سيرتي تمتد هناك منذ آلاف السنين، منذ القرون الأولى من عمر الأرض، نعم أنا هو، فنحن يجمعنا نسيج واحد يربطه الجهل والتخلف في كل زمان وفي كل مكان، ليتني لم أولد أصلا، ولكنني ولدت لتمتد سلسلة الحمقى في كل زمان.. اللهم لا اعتراض على حكمك يا ربي.
الرياح مازالت تصافح المصباح بشدة، والمصباح مستمر في عناده مع صاحبنا هذا في مخبئه المظلم الذي اختاره لنفسه ليتوارى فيه من الرفاق، والليل مازال يرمقه من بعيد وكأنه ينتظر الفرصة ليهمس في أذنه، وكانت الرياح هي رسول الليل إلى صاحبنا، فسمعها تهمس في أذنه: تحرك يا فتى، وانفض عنك غبار الصمت والجهل، فأرض الله واسعة، فانسل من بينهم إلى حيث لا عودة، وانطلق في ذلك الفضاء تحمله الرياح في ثوب الليل في رحلة عبر القرون إلى نقطة البداية لينطلق منها.