تابع، الجزء 2 والأخير
ما طبيعة هذا العيد، هل هو عيد قومي أم ديني؟
إن الذي نقرأه على لسان دعاة الأمازيغية حين يطالبون بِجعل هذا العيد عيدا معتمدا في دول المغرب العربي؛ أن هذا العيد لا صلة له بالدين أو أي حادث ديني، وأنه تقويم يختلف عن التقاويم المرتبطة بالدين كميلاد المسيح عليه السلام والهجرة النبوية، وهذا ليؤكدوا للحكومات أن مطلبهم ثقافي قومي بريء لا يعادي الانتماء للإسلام.
وما نكاد ننتهي من قراءة تلك العرائض المقدمة والمقالات التي تتضمن هذا المطلب حتى نقف أمام نصوص أخرى لهؤلاء وأمام تصريحات لهم تجعلنا نشك في صدق دعواهم من أن هذا العيد الذي يطالبون به لا علاقة له بالدين.
فضلا عن قصة العجوز وما تعلق بها فإننا نجد بعضهم يقول إن طقوس الاحتفالات فيها تقاليد وثنية إلا أنها أُسلمت بدخول الأمازيغ في الإسلام، ومن ذلك وضع النساء كميات صغيرة من الطعام الذي تعده الأسرة تحت الموقد وعمود البيت والمغزل للتقرب من الأرواح الخفية ونيل رضاها، وحينما جاء الإسلام هذب هذا السلوك ليتماشى مع القيم الإسلامية، وأصبحوا يقولون إن هذه الأفعال من أسباب البركة لا من التقرب إلى الأرواح، ومنهم من يدخل هذا اليوم فيما يسمى بالعواشير، وهي أيام تعتبرها العامة أياما دينية.
وتزل أقلام بعضهم في حالة غضب أو حماسة أو غفلة فيقول أحدهم:" لا بد أن يجعل يوم يناير يوم عطلة للجميع ولا بد من الاعتراف به مثله مثل السنة الهجرية ورأس السنة الميلادية"، ويقول آخر معظما لهذا العيد:" لقد ارتبط يناير بمعتقدات ضاربة في القدم"، ومنهم من يكتب عن:"خروج النساء إلى حقول الزيتون لمناجاة الطبيعة لإعطاء محصول وفير"، ومنهم من يقول عن الديك الذي يذبح في هذه المناسبة:" ليكون أُضحية الناير لإعداد عشاء ليلة الناير". ويقول آخر:"يقوم فيه الناس بتناول شربة يناير على لحم قرابين الديوك أو الأرانب، ويدخل هذا اليوم ضمن ما يسمى بأيام العواشير، التي تعتبر قبل كل شيء أياما دينية". ويقول آخر:" إذ يتم الاحتفال برأس السنة بشكل كبير على غرار باقي الأعياد الدينية، ويتم خلالها تبادل الزيارات والتهاني بين أفراد العائلة".
ويكفينا للدلالة على أنه عند دعاة تعميمه وترسيمه من الأعياد الدينية، أنهم يقولون لا بد من ردِّ الاعتبار لهذا اليوم بدءا من ردِّ الاعتبار لمظاهر الاحتفال التي لا تخلو من دلالات رمزية، فتعالوا بنا نُلقي نظرة على هذه الطقوس التي يدعون إلى إحيائها.
طقوس الاحتفال
ويعتقد دعاة إحياء هذا العيد أنَّ من يحتفل به يُمضي سنة سعيدة، ويُبعد سوء الطالع، كما يرمز الاحتفال به إلى الخصوبة والرزق، لذلك لا بد من تقديم قرابين وتضحيات وإظهار التفاؤل بوفرة المحاصيل ولإبعاد شبح الجوع، وعند النظر في طقوس الاحتفال التي تختلف باختلاف مناطق الشمال الإفريقي، فإننا نجدها تحوي مظاهر شركية بَيِّنة وبدعا وخرافات ما أنزل الله من سلطان، فإضافة إلى المظاهر التي تدل على معنى العيد، كارتداء الملابس الجديدة، وتنظيف البيوت وتزيينها، وحلق رؤوس الصغار وتزيينهم ووضع الحنة في أيديهم وتوزيع الهدايا عليهم، وتبادل الزيارات والتهنئة ونحو ذلك، نَجد أشياء تمس العقيدة الإسلامية في صميمها منها.
أولا : الذبح لغير الله عز وجل
ومن مظاهر الجاهلية في هذا اليوم ذبح الدجاج عند عتبات المنازل بزعم أن ذلك يصد أنواع الشرور التي قد تصيب الإنسان، ومعروف أن هذا من الذبح للجن ومن الاستعاذة بالشياطين لا منهم، وبعضهم لا يصرح بذلك بل يكتفي أن يشترط أن يُشترَى الديك حيّا ليتولى أهل البيت ذبحه، بمعنى أنه لو اشتراه مذبوحا لم يُجزئه.
ومنهم من يذبح في هذا اليوم عن الرجل ديك وعن المرأة دجاجة وعن الحامل دجاجة وديك ويعتقدون أن في ذلك وقاية من الحسد والعين، وهذا تعوُّذٌ ما أنزل الله به من سلطان.
ثانيا : دعاء غير الله عز وجل
كما سبق نقله عن بعضهم أنه ينبغي للنساء أن يَخرجن إلى الحقول لمناجاة الطبيعة لطلب محصول وفير، ومن مظاهر هذه المناجاة ما تقوم بعض النساء بعد ذبح الديَكة حيث يقومن برمي ريشها في الحقول، ويرددن هذه العبارة:"أيها العام الجديد منحناك الريش فلتمنحنا العيش". وهذا مظهر من مظاهر عبادة الطبيعة أو الإله "يناير"، وهذا من مظاهر الشرك الصريح.
ثالثا : تبركات شركية
ومما يتبع دعاء غير الله تعالى التبرك بأفعال غريبة لا دليل على بركتها قصد استجلاب الرزق والرخاء، ومن ذلك وضع عيدان خضراء أو عراجين على سقف البيت رجاء أن تكون السنة الجديدة خضراء مثل اخضرار تلك العيدان، ومنهم من يضع قصبا طويلا وسط الحقول حتى تكون الغلة جيدة وتنمو بسرعة، ومنهم من يكلف الأطفال بقطف الأزهار والورود ووضعها عند مداخل البيوت وبتغطية أرضية حظائر الحيوانات الداجنة بالأعشاب الطرية للغاية نفسها.
رابعا : عبادة الأرواح
في بعض المناطق المغربية يعمد السكان بعد الانتهاء من أكل وجبة العشاء إلى ترك ما يقابل حصة فرد واحد من الأكلة لتوزع على جميع زوايا البيت، كتعبير عن اقتسام ما تجود به الأرض مع كائنات خفية أو قوى مباركة، وهذه من العقائد الوثنية التي قيل إنها كانت قبل الإسلام والظاهر أنهم قد حافظوا عليها ولم ينفعهم معرفتهم للإسلام ولا لعقائده وشعائره، وفي بعض المناطق يضعون على مائدة الطعام الأطباق والملاعق بعدد أفراد العائلة الأحياء والأموات منهم، وهذا ينبئ عن اعتقاد حضور الأرواح في أيام الأعياد والأفراح وهو اعتقاد جاهلي منتشر في المنطقة كلها.
خامسا : استسقاء وكهانة
في بعض المناطق المغربية المعروفة بالسحر والشعوذة تقوم النساء في ليلة رأس السنة بوضع ثلاث لقمات في سطوح المنازل، ترمز كل لقمة أحد الشهور الثلاثة الأولى من السنة: يناير، فبراير ومارس، ثم يقمن برش الملح على تلك اللقمات من مكان بعيد استدرارا للمطر، وفي الغد يقمن بتفحص هذه اللقمات، ويعتقدن أن اللقمة التي سقط عليها الملح تحدد الشهر الذي سيكون ممطرا.
سادسا : تمائم تحمي من قرصنة الحليب
ومن الفلاحين أصحاب المواشي من يقصد في يناير بعض المشعوذين ليكتب له تميمة على غصن صغير من شجرة ذكر التين (الذُكَّار) بهدف حماية حليب أبقاره من القرصنة، لأنهم يعتقدون أن الحليب يمكن أن يقرصن ويحول من بقرة إلى أخرى!!
سابعا : ترك العمل والحياكة
ومن مظاهر التقديس لهذا اليوم أنَّهم يُحرمون فيه النسيج والحياكة، بل ويخرجون آلات ذلك من البيت، كالآلة التقليدية التي تسمى بـ"أزطا" (آلة حياكة البرانس والأفرشة) فإنَّه إن لم تُنتهَ أشغال الحياكة قبل نهاية السنة يضطرون إلى تفكيكها وإخراجها من البيت إلى غاية انتهاء الاحتفال.
وكذلك يحرمون الرعي والعمل في الأرض لأنه يوم عيد من جهة ولأنهم يخافون إن خرجوا في هذا اليوم إلى المزارع أن يصيبهم مثل ما أصاب تلك العجوز المغرورة.
ثامنا : تحريم الطبخ وغسل الأواني وربما اللحوم الحمراء
ومنهم من نقل على سبيل الإشاعة والإذاعة لا الإنكار، أنَّ من تقاليد الأمازيغ في ليلية يناير تحريم أكل اللحم ولعله يقصد اللحوم الحمراء، لأن ذبح الدجاج من طقوس اليوم كما سبق، وأنَّهم لا يشعلون النيران، والمراد نيران الطبخ لأنهم يُعدُّون الأكل يوما من قبل، لأن يوم السنة الجديد لا طبخ فيه. وذكر أنَّهم لا يغسلون الأواني المنزلية التي تخص الطبخ، وهذه بدعة معروفة يراد بها التبرك وجلب الخيرات تُفعل في عاشوراء على وجه الخصوص، ومنهم من ذكر أنهم لا يغتسلون حتى نهاية يوم الاحتفال ودخول يوم جديد.
تاسعا : الماما نوال!؟
ومنهم من حكى عن أهل تلمسان اعتقادا يشبه اعتقاد النصارى في "البابا نوال" وهو ما سميته بالماما نوال، وذلك أنهم يقولون أن "امرأة يناير" تطوف ليلا بالمنازل وتوزع الحلوى والهدايا على الأطفال، وفي ظني أن هذا تركيب بين خرافة عجوز يناير وبين الخرافة النصرانية المعروفة.
عاشرا : التفاؤل بمطر ذلك اليوم
ومن الأمور المنقولة أن بعض الناس يعتقد أنه إذا أمطرت السماء في تلك الليلة أو في اليوم الأول من السنة الجديدة، فإن الأمطار ستنزل بغزارة خلال هذه السنة وسيكون الموسم الفلاحي مباركا.
الحادي عشر : عشاء يناير وبدعه
وأهم شيء في هذا اليوم، وربما يكون الشيء المشترك الوحيد بين المناطق التي تحتفل بليلة يناير إعداد عشاء خاص من مأكولات تقليدية متعارف عليها؛ تختلف باختلاف المناطق وباختلاف أنواع المحاصيل المنتجة بها، ودعاة الأمازيغية يزعمون أن هذا الصنيع تعبير من الأمازيغ عن تشبثهم بالأرض وخيراتها، وكأن الأمازيغ فقط هم من كان يسترزق من الأرض، وكأنهم هم وحدهم من يُعدُّ مأكولات خاصة في المناسبات وما يعتبرونه من الأعياد.
ومن هذه المأكولات ما يسمى بإركمن (المحتوية على جميع أنواع الحبوب والبقول) وتسمى أيضا (تمغطال وأوفثيان والشرشم) أو ثركيمت (وهي نوع من العصيدة) أو البسيسة أو البركوكس (العيش) أو الشخشوخة أو الرشتة أو الكسكس الذي يُعدُّ مرقه بأنواع متعددة من الخضر منهم من يقول سبعة فصاعدا.
ويتعلق بهذا العشاء بدع سنبينها، ونقول إنها بدع لأننا بينا أنه احتفال ديني، فمن اعتبر الاحتفال من الوثنية كان مشركا، ومن اعتبره من دين الإسلام كان مبتدعا لأنه لا صلة له بالإسلام ولطقوسه.
ومن البدع المتعلقة بهذا العشاء
1-إيجاب إركمن، منهم من يقول إن إركمن تعتبر من الوجبات الضرورية التي يجب على كل أسرة أن تتناولها في ليلة رأس السنة مع جواز إضافة وجبات أخرى حسب إمكانيات كل أسرة.
2-تحريم كل أكل عدا البسيسة والكسكس ، وفي تونس قرأت لبعضهم أنهم يحرمون كل أكل إلا أن يكون البسيسة أو الكسكس.
3-وجوب الشبع في ليلته ، ومن الاعتقادات الباطلة التي يُروَّج لها أنَّ من لم يشبع من الطعام في ليلة رأس السنة فإن الجوع سيطارده طيلة تلك السنة، ومن أجل إرغام الأطفال على الأكل حتى التخمة يقال لهم إن من لم يشبع في تلك الليلة تأتيه عجوز في الليل فتملأ بطنه بالتبن والهشيم.
4-التكهن بأسعد أفراد العائلة، ومن مظاهر الجاهلية التي يلصقها البعض بهذا اليوم أنَّهم يجعلون عشاءهم من الكسكس أو العصيدة ويجعلون في القصعة نواة تمر، ثم تجتمع العائلة عليها ويأكلون منها، ومن يَجد تلك النواة أثناء الأكل يعتبر رجل أو امرأة السنة صاحب الحظ السعيد فيها.
5-التفاؤل باللبن، ومنهم من لا يجعل للكسكس مرقا بل يقدمه مع اللبن الأبيض فقط، وذلك تفاؤلا بالسنة الجديدة حتى تكون صافية مثل لون اللبن المسكوب على الكسكس.
6-تبرك غير مشروع، وذلك برمي القليل من الكسكس أو الطعام في أنحاء البيت بغية حصول البركة، وهذا من جنس ما يفعل للأرواح وقوى الطبيعة كما سبق في فقرة سابقة.
7-إطعام الحشرات، ومن عادات بعضهم في هذا اليوم إطعام الحشرات حتى لا تأكل الزرع، وهذه سذاجة وحمق من فاعله ومصدقه.
8-حلويات ومكسرات من أجل عام طيب، وفي بعض المناطق الغربية وفي المغرب الأقصى يعدون أطباقا تُملأ بأنواع الحلويات والمكسرات والفواكه الجافة فيضعون فيها التين المجفف والزبيب والفول السوداني واللوز والجوز والفستق وغيرها، والغاية من إعدادها وتقديمها كما يقولون هو الاستبشار بعام طيب كهذه الأطباق.
هذه هي الأساطير التي تُروَّج في مثل هذه الأيام حول الفاتح يناير، وهذه هي الأكاذيب التي يُسَوِّقها الإعلام في هذه المناسبة، وهذه هي طقوس الاحتفال الوثنية والشركية والبدعية التي يريد بعض الناس تعميمها، وأن يجعلوها رمزا للثقافة التي يعتزون بها، ويتميزون بها عن العرب وباقي المسلمين،
ومما ينبغي التنبه له أن ما ذُكر في هذا المقال ليس أمرا عاما في بلدان الشمال الإفريقي بل هي طقوس واعتقادات تنتشر في مناطق محصورة، وأن الظاهرة الأكثر انتشارا ظاهرة العشاء وليست عامة، ولكن من يكتب عن هذه الاحتفالات يشيع تلك الطقوس ويَجعل القارئ يتخيلها احتفالات عامة وطقوسا منتشرة عند أغلب السكان المسلمين وليس الأمر كذلك، ثم إننا عند تصنيف تلك الطقوس ووصفها لم نتقصَّد نقدها على ضوء الأدلة الشرعية ولا على ضوء العقل والمنطق، لأن ذلك قد يجعل المقال أكثر طولا ويُخرجه عن مقصوده، فمن أراد طلب الأدلة الشرعية على تحريم الكهانة أو الذبح لغير الله والتبرك بما لم تثبت له البركة وغير ذلك فليطلبها في مظانها من كتب العقيدة الإسلامية، والمقصود بيان حقيقة الأكاذيب التي تنتشر حول التقويم الأمازيغي المزعوم، ثم بيان أن دعاته إنما يدعون من خلاله إلى الوثنية التي كانت دين أجدادهم قبل الإسلام،
والحمد الله رب العالمين. اهـ.
*****
وإنا لله وإنا إليه راجعون
والحمد لله ربّ العالمين