هذه الحدود الشرعية مصلحة للعباد، وخير للعباد، فالله -جل وعلا- أحكم الحاكمين {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:14] ،

فالحدود الشرعية جاءت متناسبة مع كل جريمة والأمن مطلب كلٌّ يقصده ويهدف إليه، لكن ما الذي يحقق هذا الأمن؟
ما الذي يحققه على أرض الواقع؟

لا يتحقق بمجرد القوة والغلبة، لا، بل يحققه أمر مهم وهو: تطبيق هذه الحدود الشرعية التي جاءت متناسبة مع كل جريمة، فكل جريمة وكل ذنب رُتَّبَ عليه حد.
فالحد مناسب وملائم لتلكم الجريمة، على اختلاف قوتها وضعفها، فشرع الله حد الزنا مائة جلدة، أو الرجم للمحصن ، وقطعت يد السارق عظة واعتبار، لكي تحترم الأيدي فتكف عن أموال الناس.
وشرع الله -جل وعلا- قتل القاتل وأخبر عنه بقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة:179] ، وشرع حد القاذف لأن قطع لسان الناس أعظم، فشرع جلده ثمانين جلدة، ولم يجعل عقوبته قطع اللسان، لأن قطع اللسان مفسدة أعظم من كلامه.

فشرع له الحد ثمانين جلدة، وهكذا لو تأمل المسلم حدود الله لوجدها متناسبة متفقة مع تلك الجرائم، ولذا قال الله -عز وجل- :{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[العنكبوت: 40] ، والمتأمل في العقوبات الشرعية يراها مناسبة كل التناسب، وواقعة موقعها إلا على من صرف الله قلبه وأعمى بصيرته.

إن الذين ينكرون قتل القاتل ويدعون إلى عقوبات أخرى ، هم رحموا المجرم ولم يرحموا من وقعت عليه العقوبة.
ولهذا يتخلص من العقوبة بأي وسيلة، برِشْوة أو بغيرها، أو باختلاف الأنظمة ووضعها، والذين جعلوا عقوبة الزنا مشروطة بالاغتصاب وأباحوها عند التراضي هم جَنَوْا على الأمة، حيث أباحوا لهم ما حرم الله عليهم، وسمحوا لهم بارتكاب الضرر لهم في دينهم ودنياهم.

إن الذين عطلوا حدود الله كلها إنما هم في آثمون، يعلمون أن هذه الحدود الشرعية ضدهم وضد أحوالهم، فيأبونها ولا يقبلونها .
وحدود الله جاءت عادلة لتحقيق الخير والصلاح في المجتمع والله -جل وعلا- حين قال:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة:179] فقوله:{حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} كيف يكون القصاص حياة؟
لأن القاتل إذا علم أن عقوبته أن تقطع رقبته، وأن يعامل بمثل ما عامل به المجني عليه سيرتدع، والسارق سيرتدع سيعلم أن يده تقطع، وتكون منشورة أمام الملإ ، كل من نظر إليه قال: ما هذا؟

كان يسرق فقطعت يده. فهي عظة وعبرة للسارق، وردعًا وزجرًا لمن تسول له نفسه الإقدام على هذه الجريمة.
إن الحدود إذا طبقت بإخلاص وصدق ونية صادقة تركت أثرها، لأن أحكام الله لا يجوز تبديلها ولا تغييرها، ولا الزيادة فيها ولا النقصان منها، بل يجب أن تطبق كما تلقيناها من الشارع -صلى الله عليه وسلم- إذا طبقت الحدود أَمِنَتِ السُّبُل، واطمأن الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.

ولهذا جاءت عقوبة المحاربين المفسدين في الأرض أشنع عقوبة قال تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}[المائدة:33] ، فقوله تعالى:{أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} بعضهم يقول: للتخيير. وبعضهم يجعلها مراحل، لكن جاءت هنا للتخيير للإمام أن يقتل، ويصلب، ويقطع أيدي وأرجل من خلاف، وينفي من الأرض.

ففي عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قَدِمَ نَاس مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ المَدِينَةَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَكَلَّمُوا بِالإِسْلاَمِ، فَقَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ: إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، وَاسْتَوْخَمُوا المَدِينَةَ، «فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَوْدٍ وَرَاعٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا» ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا نَاحِيَةَ الحَرَّةِ، كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، «فَبَلَغَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ ـ وأقام الحد عليهم وقتلهم لإفسادهم ـ »
وهذا هو أرحم خلق الله بالخلق -صلى الله عليه وسلم- ، لكن لكل شيء ما يناسبه من الرحمة.

فالرحمة مع المجرمين أن تقام حدود الله عليهم لنرحم الأمة، ولأن قُطَّاع الطرق لابد أن يعاملوا غير معاملة من كان داخل المدينة، فالسارق تقطع يده، لكن الْمُحَارب والْمُهدد لأمن الناس وتجارتهم وطرقهم لابد أن يردع برادع يجعل غيره يتعظ ويعتبر، ويعلم أن هذا مصير كل مفسد وكل مجرم، وكل عابث بالأمن والاطمئنان.

إقامة الحدود ونعمة الأمن

حدود الله نعمة تقيمها دولة الإسلام وتحافظ عليها، ففي بلادنا هذه تحكم شريعة الله، وتقام حدود الله، وهي من نعم الله علينا، ولهذا عَظُمَ الأمن واستتب بفضل الله وكرمه، لأن الأمن من أعظم نعم الله على العباد كما قال -جل وعلا- :{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}[القصص:57 ] ، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}[العنكبوت: 67].

فلما أقيمت حدود الله -عز وجل- صار الناس يتخطفون من حولهم وهم في أمن، وهم آمنون، وهكذا وضعنا الآن في هذا البلد المبارك ، وهذا البلد المبارك المترامي الأطراف لما وفقه الله لقيادة حكيمة ولأئمة أرجو الله لهم التوفيق والسداد والعون على كل خير، فأقاموا حدود الله واهتموا بأمن الأمة سُلِكَتْ السبل، وصارت السبل آمنة مطمئنة ولله الفضل والْمِنَّة، وهذا من فضل الله علينا، أسبغ الله -جل وعلا ذكره- على سبأ هذه النعمة فقال: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ: 18] .

إن الأمن من أعظم نعم الله، ولا يحققه ويدعمه إلا شرع الله، لكي يعلم المسلم قدر الدم، وقدر المال، وقدر العرض، فإذا أقيمت الحدود علم الناس أن هناك رادعًا قويًا وفي الأثر لعثمان -رضي الله عنه- “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن” فلا شك أنه مُؤثر، لكنه يؤثر في القلوب المؤمنة الْمُخْبِتَةِ، وضعيف الإيمان لا تؤثر فيه المواعظ.
فلابد من عقوبة سُلطانية، فإنه لما سرقت المرأة المخزومية في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فِإنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟» ، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ، قَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَاخْتَطَبَ، فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» ، ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقُطِعَتْ يَدُهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ، وَتَزَوَّجَتْ، وَكَانَتْ تَأتِينِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى -رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيقضيها.(9)

العقوبات رحمة ونعمة

العقوبات رحمة ونعمة من الله، قال الله في حق نبيه:{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}[الأنبياء: 107] فهو رحمة لهم، بالإحسان إليهم بما جاء به من هذه الشريعة الكاملة الشاملة الفذة التي ما طرق العالم شريعة أكمل منها ولا أظهر منها.

أسأل الله للجميع التوفيق والسداد، وأن ينصر دينه، وأن يُعْلِيَ كلمته، وأن يوفق قادتنا لما يحبه ويرضاه ويعينهم على تطبيق شرع الله ويحفظوا حدوده، وصلى الله على محمد.

***أصل المادة تعليق لسماحة المفتي – وفقه الله – على محاضرة ” في الجامع الكبير بالرياض بعنوان ”
إقامة الحدود وأثره في حفظ الأمن “