سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ مَكِّيَّةٌ، وَآيَاتُهَا تِسْعٌ وَتِسْعُونَ
{الم} [العنكبوت: 1]
{الم} [العنكبوت: 1] قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى «الم»، وَذَكَرْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت: 2]
{أَحَسِبَ النَّاسُ} أَظَنَّ الَّذِينَ خَرَجُوا يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَصْحَابِكَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ..
{أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت: 2] أَنْ نَتْرُكَهُمْ بِغَيْرِ اخْتِبَارٍ، وَلَا ابْتِلَاءِ امْتِحَانٍ، بِأَنْ قَالُوا: آمَنَّا بِكَ يَا مُحَمَّدُ، فَصَدَّقْنَاكَ فِيمَا جِئْتَنَا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَلَّا، لَنَخْتَبِرَنَّ هُمْ، لِيَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ مِنْهُمْ مِنَ الْكَاذِبِ.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت: 3]
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وَلَقَدِ اخْتَبَرْنَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، مِمَّنْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلَنَا، فَقَالُوا مِثْلَ مَا قَالَتْهُ أُمَّتُكَ يَا مُحَمَّدُ بِأَعْدَائِهِمْ ، وَتَمْكِينَنَا إِيَّاهُمْ مِنْ أَذَاهُمْ، كَمُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَابْتَلَيْنَاه ُمْ بِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ، وَكَعِيسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَابْتَلَيْنَا مَنِ اتَّبَعَهُ بِمَنْ تَوَلَّى عَنْهُ، فَكَذَلِكَ ابْتَلَيْنَا أَتْبَاعَكَ بِمُخَالِفِيكَ مِنْ أَعْدَائِكَ
{ فَلَيَعْلَمَن اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } مِنْهُمْ فِي قِيلِهِمْ آمَنَّا..
{ وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت : 3] مِنْهُمْ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ عَالِمٌ بِذَلِكَ مِنْهُمْ قَبْلَ الِاخْتِبَارِ، وَفِي حَالِ الِاخْتِبَارِ، وَبَعْدَ الِاخْتِبَارِ، وَلَكِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ صِدْقَ الصَّادِقِ مِنْهُمْ فِي قِيلِهِ آمَنَّا بِاللَّهِ مِنْ كَذِبِ الْكَاذِبِ مِنْهُمْ بِابْتِلَائِهِ إِيَّاهُ بِعَدُوِّهِ، لِيَعْلَمَ صِدْقَهُ مِنْ كَذِبِهِ أَوْلِيَاؤُهُ.. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَذَّبَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَفُتِنَ بَعْضُهُمْ، وَصَبَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى أَذَاهُمْ حَتَّى أَتَاهُمُ اللَّهُ بِفَرَجٍ مِنْ عِنْدِهِ.. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ قَوْمٍ كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِمَكَّةَ، وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْهِجْرَةِ، وَالْفِتْنَةِ الَّتِي فُتِنَ بِهَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى مَقَالَةِ هَؤُلَاءِ، هِيَ الْهِجْرَةُ الَّتِي امْتُحِنُوا بِهَا.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا، سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [العنكبوت: 4]
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ فَيَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ..
{أَنْ يَسْبِقُونَا} أَنْ يُعْجِزُونَا، فَيَفُوتُونَا بِأَنْفُسِهِمْ، فَلَا نَقْدِرَ عَلَيْهِمْ فَنَنْتَقِمَ مِنْهُمْ لِشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ؟..
{سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: 4] سَاءَ حُكْمُهُمُ الَّذِي يَحْكُمُونَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ يَسْبِقُونَنَا بِأَنْفُسِهِمْ.
{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5]
{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} مَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ يَوْمَ لِقَائِهِ، وَيَطْمَعُ فِي ثَوَابِهِ..
{فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ} الَّذِي أَجَّلُهُ لَبَعْثِ خَلْقِهِ لِلْجَزَاءِ وَالْعِقَابِ..
{لَآتٍ} قَرِيبًا..
{وَهُوَ} وَاللَّهُ الَّذِي يَرْجُو هَذَا الرَّاجِي بِلِقَائِهِ ثَوَابَهُ..
{السَّمِيعُ} لِقَوْلِهِ: آمَنَّا بِاللَّهِ..
{الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5] بِصِدْقِ قِيلِهِ إِنَّهُ قَدْ آمَنَ مِنْ كَذِبِهِ فِيهِ.
{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6]
{وَمَنْ جَاهَدَ} عَدُوَّهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ..
{فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} لِأَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ عَلَى جِهَادِهِ، وَالْهَرَبِ مِنَ الْعِقَابِ، فَلَيْسَ بِاللَّهِ إِلَى فِعْلِهِ ذَلِكَ حَاجَةٌ..
{إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[العنكبوت: 6] وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، لَهُ الْمُلْكُ وَالْخَلْقُ وَالْأَمْرُ..