تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 3 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 60 من 69

الموضوع: شرك العبادة ...

  1. #41

    افتراضي

    التعليقة الثامنة والعشرون.


    [تقول: (واستحال أن يأذن الله في عبادة غيره والشرك به)

    ما دام أنّه مستحيل ولا يحتاج للأمر والنهي فكيف تجعل أصل العبادة والشرك مرتبطٌ بالأمر والنهي وتجعل مفهوم العبادة والشرك مرتبطًا بالأمر والنهي كذلك.. هذا تناقضٌ مع ما قررتَه من الاستحالة].


    مضى وجه بيان الاستحالة بما لا مزيد عليه، والرد على المجوِّزين لذلك، كما مضى بيان وجه ارتباط بعض صور الشرك وأفراد العبادة بالأمر والنهي بما لا يدع مجالا للشك في أن التناقض وهمي خيالي.


    .............................. ......................

    [وإليك بيان ذلك: سجود إخوة يوسف عبادة لله و سجودهم ليوسف: ما هو الفرق بين السجودين؟ إن كنتَ غير مماحكٍ فستقول: لا فرق في الصورة الظاهرية بين السجودين، وإنما الفرق بشيء قام في الباطن. فالذي ميّز العبادة عن غيرها في شريعتهم هو أمر باطني، وبالتالي فمفهوم العبادة في شريعتهم لابد أن يكون مرتبطًا بأمر باطني .. ومفهوم شرك العبادة عندهم لابد أن يكون مرتبطًا بأمرٍ باطني أيضًا..]



    أقول: لا حاجة إلى المماحكة فالفارق بين الصورتين هو الفارق بين السجود للصنم، وبين السجود لله، وبين التقرّب إلى الله بقتل الأنبياء والرسل، وبين الحكم بكفر مؤذيهم فضلا عن قاتلهم، وبين التقرّب بقتل بعض الناس وبين العصيان به والكفر به، وبين الطاعة بإيلاج الفرج في الفرج، وبين المعصية بذلك، وبين السبّ والشتم يكون إيمانا وكفراً ومعصية ومباحاً وهو فعل واحد..



    فالسجود من حيث هو سجود، والقتل من حيث هو قتل، والإيلاج من حيث هو إيلاج، والسبّ من حيث هو سبّ فعل واحد بالنوع، لكن حكم الفعل الواحد اختلف لتوارد الأمر والنهي عليه من جهتين، بل الواحد بالعين يختلف حكمه باعتبارين عند بعض الفقهاء..

    فما أحوجك إلى مراجعة هذا الأصل من كتب الأصول فنفس السجود، والقتل، والزنا، والسبّ، يكون معصية وطاعة وكفرا وإيمانا لتوارد النهي والأمر عليه..

    فنفس الفعل معصية وكفر وشرك إذا تعلق به النهي، وهو طاعة وعبادة وتوحيد وإيمان إذا تعلق به الأمر.

    وليست علة الانقسام اختلاف الباطن والقصد وهو الأمر الباطني الذي تدندن حوله، عقيدة ملاحدة الجهمية والقدرية.. هوس لا يناط به حكم في الشرع الظاهر.



    إن الكلام في اتفاق الشرائع على توحيد الله وتحريم الشرك قد انتهى، والنزاع في فروع وأفراد العبادة التي يتقوّم بها الأصل لأن عبادة الله وحده ماهية كلية لها أفراد في الخارج، وأفراد الماهية الكلية يختلف حكمها لاختلاف الأمر والنهي، والنزاع أيضا في فروع الشرك التي هي من أفراد الماهية الكلية في الخارج..

    الأولى أحي الكريم: ترك الشقاق والنزول إلى الميدان بلا مواربة!



    رجاءً أفهمني كيف يكون الفرد الفعليّ عبادة لله وحده بالأمر والنهي ثم لا يكون إشراك غير الله فيه شركا؟

    .............................. .............................. .....

    [الآن كيف نقرّر بأنّ مبنى العبادة والشرك ومفهومهما ممّا تختلف فيه الشرائع؟

    هذا لا يمكن فمفهوم العبادة والشرك من أصول الدين الذي اتفقت فيه الشرائع وإنما تختلف الشرائع في أنواع العبادات لا في أصل العبادة ومفهومها... ولا نحتاج للأمر والنهي في أصل التعبّد لله... فنحن نخضع لله خضوعًا خاصًّا لا يليق إلا به ولا يُشاركه فيه أحد لأنّه هو المستحقّ للألوهية وحده .. هذا الكلام بيّن واضح... يحتاج فقط إلى تجرّد للوصول إلى الحق لمن أراد ..]



    أخي الجهني: ليس هذا من بحثك إنما هو لغيرك لو أنصفت!

    فإن أخاك المأربي هو الذي قرر بأن حقيقة الشرك: إثبات شريك فيما هو من خصائص الله، وأن الشرائع لا تختلف في تحريم هذه الحقيقة إطلاقا لأن ذلك ممتنع شرعا وعقلا وبيّن للقراء وجه الامتناع واستحالة ذلك.

    وكذلك قرّر سالفا وآنفا اتفاق الشرائع في عبادة الله وحده وأن هذا الأصل متفق عليه بين الشرائع لا يتغيّر.



    لكن بعد هذا عقبة بسيطة لم تستطع الظهور عليها ذلك أن عبادة الله وحده حقيقة كلية لا توجد في الخارج كلية بل لا توجد إلا مشخّصة معيّنة فتوجد في الأفراد والأعيان المتميّزة من صلاة وصوم وزكاة وحج وذبح ووضوء.......



    والشرائع إنما تشترك في الحقيقة العامة وتختلف في الأفراد الخارجية المعيّنة، وقد فتح الله عليك فهم هذا بعد عناءٍ.



    لكن لا بدّ أن تخطو مثلها إلى حقيقة الشرك التي لا تختلف فتعلمَ أن هذه الماهية الكلية لا توجد في الخارج إلا في الأنواع والأفراد المشخّصة فلا توجد في واقع الناس كليّةً بل تتقوّم الحقيقة في الأفراد المتميّزة من ذبح وسجود وطواف ونذر ودعاء لغير الله كما أن الحيوان جنس تحته أنواع وتحت النوع أفراد وأعيان، والحقيقة الحيوانية لا تتحقق في الخارج إلا في الأفراد والأعيان.



    وإذ سلّمت أنّ الأفراد والأعيان في عبادة الله تختلف وتتبع الأمر والنهي، فما هو المانع أن يتجدّد في الشرع فرد أو نوع من حقيقة الشرك من أجل تجدّد فرد من العبادة الخاصة بالله؟



    هذا محلّ البحث وما سواه تحذلق لا يفيد شيئا والله المستعان.



    يتبع...................... .........

  2. #42

    افتراضي

    التعليقة التاسعة والعشرون:

    [سادسًا: جوابي عن سؤال أبي محمد الملحّ:

    وأخيراً: لا أزال أطالبك الدليلَ على أنّ سؤال القبوري للولي المقبور جلب النفع أو دفع الضر لا يكون شركاً أكبر حتى يعتقد فيه الربوبية!! ومن السلف لك في هذا؟

    [لابد أن يكون معه خضوعٌ خاص، وهو الخضوع الذي لا يليق إلا بالله، والدليل ما سبق في قصة سجود إخوة يوسف وسجود الملائكة فهو الأصلٌ والقاعدة في المسألة وبه عرفنا مفهوم العبادة والشرك وأنها مرتبطة بالباطن، والتقعيد والتأصيل لا يشترط له أدلة كثيرة بل يكفي دليل واحد، ويكون التعقيد بالنص وبالقياس وبالاستدلال وبالترجيح ونحوها عند العلماء ولا عبرة لغيرهم].



    أقول: أشكرك على إجادة الحيدة والاختزال في الجواب!

    وبعد هذا إليك هذه النقاط المختضرة.

    1- لماذا التهرّب من ذكر سلفك في هذا المعتقد؟ الجواب معروف عند القارئ فلا أطيل به الكلام.

    2- قلتَ: لابد أن يكون مع الفعل الخضوع الخاصّ بالله!

    لم أسألك عن وجود الخضوع ولا عدمه وإنما عن نفس الفعل، فتبيّن أنّ نفس الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ليس بشرك في حدّ ذاته وإنما الشرك الخضوع الخاص بالله عندك..

    والخضوع الخاص على اصطلاحك: اعتقاد الربوبية، عقيدة المشرك الوثني المتجهم.. تكذيباً للكتاب وإجماع العلماء قبل فتنة الوثنيين المنتسبين.

    3- الخضوع الخاصّ القلبي أمر باطن لا يُطّلع عليه إلا من جهة الفاعل، فما السبيل إلى قيامه بالفاعل؟

    وكيف تكفّره بوصف غيبي لا يطلع عليه أحد إلا بوحيٍ، فإنّ الخضوع الظاهر يحتمل التصنّع والتكلف، ويحتمل أن لا يبلغ إلى القدر المخصوص بالله، وقد تقرّر في الأصول: أن الشك في الشرط أو السبب يوجب الشكّ في الحكم، فلا يمكن والحالة هذه تكفير أحدٍ من المشركين المنتسبين مهما بلغ شركهم وكفرهم الظاهر!!

    هذا، وقد زعمتَ أنه يمكن تكفير الجاهل المشرك إذا خضع لغير الله الخضوع الخاص؟ كيف هذا بيّن لنا مشكوراً!

    إن قلتَ: اعتمد على ظاهر الحال، فالظاهر ليس بيّنة شرعية في مسائل التكفير عندك..
    ولا معنى لطرح مسألة التلازم بين الظاهر والباطن لأنك لو تقول به لاكتفيت بالصريح والظاهر من الأفعال في عبادة غير الله، والساجدين للأصنام والصلبان!!.
    وإن قلتَ: اعتمد على إخباره عن نفسه فلا بد أن تقبل كلّ ما يخبر به عن نفسه وإن كان خلاف الصريح فضلا عن الظاهر، لأن القاعدة: أن كلّ ما لا يُعلم إلا جهة الشخص يُقبَل قوله فيه.
    4- لا يمكن لك الاطلاع على مناط التكفير (الخضوع الخاص القلبي) على كل تقدير إلا بالظن، والقاعدة: أن الظن ملغى في الشريعة إلا ما دلّ الدليل على اعتباره. فما هو الدليل على اعتبار مثل هذا الظنّ؟ وكيف يقوم دليل على اعتباره، والقاعدة في الشرع:" لم أومر أن أنقّب عن قلوب الناس ولا أن أشقّ بطونهم"؟
    5- ما وجه التكرار لارتباط العبادة الظاهرة بالباطن الخاص؟ لأن الظاهرة ليست من العبادة ولا داخلة في تعريفك، ولا يجوز إضافة ما ليس من العلة إلى العلة.
    6- أما الاستدلال بسجود إخوة يوسف واتخاذه أصلا في إبطال دلائل القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة في اعتبار نفس الفعل والقول عبادة وكفرا وشركا وإيمانا فهو والله من البوائق والكبائر التي نعوذ بالله منها ولا أدري ما أقول لك؟

    أما القارئ فأقول له: هذا الاستدلال باطل قطعاً من وجوه مرّت ولا بأس بإعادتها ولو في سياق آخر:
    الأول: هذا من شرع من قبلنا وشرعنا مخالف له بالإجماع فلا يجوز الاستدلال به في الفروع الاجتهادية إجماعا فكيف الاحتجاج به في إبطال أدلة الشرع وفي الأصول الكبار؟ بل هذا من الكفر بالله سبحانه. قال أبو محمد ابن حزم رحمه الله:
    لا خلاف بين اثنين من المسلمين أن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأت بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام. الإحكام في أصول الأحكام (2/158).
    الثاني: طامة أخرى وهو أنك اتخذت هذا المنسوخ أصلا يرجع إليه في تأويل دلائل الكتاب والسنة.. «فهو الأصلٌ والقاعدة في المسألة وبه عرفنا مفهوم العبادة والشرك وأنها مرتبطة بالباطن».
    وهذا من الفواقر والخطأ الجسيم لأن القاعدة في الأصول: أن كلّ أصلٍ يحتكم إليه في تفسير الكتاب والسنة ويحكم به في الشرع فلا بدّ له من دليل قطعي ولا يكون ظنياً. وهذا ليس بدليل ظنيٍ ولا قطعيٍ بل هو منسوخ مخالف للشرع إجماعاً.
    لا يتخذ هذا أصلاً تصرف الأدلة من أجله وتفسّر على أساسه، وضابطا لمفهوم العبادة والشرك الوارد في الدلائل إلا من لا يدري ما يخرج من رأسه.
    الثالث: أمر آخر وهو أنّ العلماء اتفقوا على أنه لا يجوز أن يستنبط من النص معنى يعود عليه بالإبطال، فلا يجوز أن يستنبط من هذه القصة معنى يبطل اعتبار الأفعال والأقوال شركاً في نفسها، مع ما يلزم من إبطال الدلائل الدالة على أنّ المرء يكفر وهو لا يشعر ويحسب أنه يحسن صنعا وأنه على شيء ومن المهتدين!
    الرابع: سلّمنا هذا الأصل الباطل، لكن اتخاذه أصلاً ينقض أصلك الآخر وهو اختلاف الشرائع في أفراد العبادة واتباعها للأمر والنهي!
    لكن لا بأس في هذا لأنّه من عادتك في هذه المطالب!
    الخامس: سلّمنا لكن الدعوى أعمّ من الدليل، والدليل لا بد أن يكون مطابقا للدعوى، فالدليل في السجود لنبي ورسول، والدعوى أعمّ في جنس السجود، بل في أعم من هذا وهو أفراد العبادات والشرك.. مع أنك تقول: الأفراد تتبع الأمر والنهي، وأنها أمور وضعية شرعية، فما المانع في أن يكون طاعة لله في يوسف في شريعته، وشركا في شريعة في أخرى تبعا للأمر والنهي بخصوصه؟
    السادس: القول بالموجب وهو أن القبوري لا يذبح لغير الله ولا يسجد له ولا يستغاث به... إلا وهو معتقد بأن الوليّ يستحقّ هذا الخضوع وهذه العبادة وإن لم يسمّها عبادة، وأنه يستجلب بذلك نفعا دنيويا أو أخرويا ويستدفع به ضرّا كذلك، وأنه يتقرّب بذلك إلى الله..
    فإن قيل: قد يفعل ذلك لعبا واستجلابا لجاه أو مالٍ فلا يتحقّق الخضوع والذلّ.
    أجيب: إذا كان الفعل صريحا أو ظاهرا في المعنى فلا عبرة بالقصد المعارض لأنه مخالف للظاهر ومن كذّبه الظاهر لم يصدّق، والأصل تلازم الظاهر والباطن، ومن ادعى الانفصام لا يقبل منه إلا بإكراه... والأحكام الشرعية منوطة بالظواهر، والقاعدة في الشريعة: الإعراض عن آحاد الصور المضطربة وإدارة الحكم على المظنة. والفعل الظاهر العبادي مظنة الخضوع الخاص؛ فيدار الحكم على الظاهر لو سلّم لك الأصل الفاسد.
    فظهر بطلان رأيك على كل تقدير. والله الموفّق.
    7- سجود الملائكة لآدم من عمل الملأ الأعلى وليس ذلك بداخل في تكاليف أهل الأرض، ولا طائل في إطالة البحث في أن آدم مسجود له أو هو قبلة للساجدين كالكعبة. ونظيره: قتل الأنبياء والرسل من أشدّ الكفر بالله وأعظمه في تكاليف أهل الأرض، ومع ذلك ملك الموت يقال له: اقبض روح الأنبياء والمرسلين فينزع أرواحهم ممتثلا بذلك أمر الله فهو مطيع لله!
    هذا فعل واحد (إزهاق روح الأنبياء) وهو كفر ومحاربة لله من جهة، وطاعة لله من جهة أخرى، فالسجود لآدم طاعة لله وقد مرّ معنا: أنها العمل لغيره بأمر طوعا، بل كان السجود إيماناً بالله، والقاعدة: أنما كان تركه كفراً ففعله إيمان؛ ولهذا كفر بالامتناع عنه إبليس اللعين.

    الخلاصة: أن أفراد العبادة أمور جعلية شرعية تختلف بتوارد النهي والأمر وتستلزم أفرادا شركية تعود لحقيقة الشرك الكلية.

  3. #43

    افتراضي

    الحمد لله
    أخي أبا محمدـ، اعذرني على هذه المداخلة ، فإني يهمني التأصيل وخاصة ما له علاقة بقضايا العقيدة وفهمت منك مما قررته جوابا على أخينا الجهني هداه الله ما يلي:
    أن الشريعة لا تعتبر المقاصد في صور العبادة ، فما ثبت أنه عبادة وأن الله أمر به فيكون عبادة صرفها لغير الله شرك وأن القائلل باعتبار المقاصد في صور العبادة إنما يبنيه على الإرجاء والتجهم ؟؟؟
    هذا الطرح الأول
    الطرح الثاني
    أنك تقول إنما ذلك متعلق بالعبادة التي أمر الله أن لا تكون إلا له أي ما خصه الله بنفسه سبحانه ، وبالتالي فالعبادة على قسمين:
    ـ عبادة عامة أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب ولا يكون صرفها لغير الله شرك أكبر إلا بتفصيل كالهجرة من مكة إلى المدينة فمن قصد بها الله فله أجر ومن قصد بها غير الله شهوة كمهاجر أم قيس فلا أجر له وإن قصد بها غير الله رياء وقربة كان بين الكفر الاكبر والأصغر وهذا التفريق دل عليه حديث إنما الأعمال بالنيات، فقد دل على اعتبار النيات في صور العبادة فالهجرة صورة واحدة والحكم مختلف وهو من العلوم الظاهرة المجمع عليها في هذه الشريعة مما ناسب التفريق بين سجود العبادة وسجود التحية
    ـ والعبادة الثانية عبادة خاصة صرفها لغير الله لا يكون فيه تفصيل بل هي شرك أكبر في جميع الأحوال كالسجود لغير الله.
    فعندنا عبادة أمر الله بها وصرفها لغير الله فيه تفصيل
    وعبادة أمر الله بها ولكن بدليل يدل على أنها بذاتها تدل على الكفر
    وعلى هذا الطرح إشكالات كالآتي:
    أولا: أن صورة السجود لوحدها جعلها الله هي العبادة لا أن العبادة من مجموع الصورة والقصد, وبالتالي يكون ما ثبت التفريق بينه بالإجماع مرفوعا اسما وحكما أقصد سجود تحية وسجود عبادة ولا يبقى كاسم للسجود إلا واحدا بحيث متى خرج كان عبادة، وبمعنى آخر فرق بين أن يرد الأمر بالسجود لله وحده فهذا لم يخل منه عصر حتى أيام سجود التحية، وبين أن يرد أن كل سجود لا يكون بعد صدوره إلا عبادة، والمشاحة في هذا الثاني ويلزم التدليل عليه لاتصاله بقضية الأسماء والنقل بخلاف الأول فهو أمر أن لا نخرج السجود إلا عبادة وفرق بين القضيتين
    ثانيا:نحتاج إلى معرفة أمثال السجود وأدلة تخصيصها
    ثالثا : يقع الإشكال لزاما على الإجماع أن العبادة كلها صرفها لغير الله كفر لدلالة النص الصريح علي ذلك
    رابعا : يقع الإشكال لزاما أيضا على الإجماع المدعى في عدم اشتراط النية في صرف العبادة وأن عكس ذلك يكون من قبيل الإرجاء والتجهم فمن اشترط النية والقصد فيما هو من خصاص الله سبحانه فهو مرجئي جهمي ومن اشترطها في العبادة العامة فليس مرجئيا جهميا ، وهذا التفصيل لازم من التفصيل في العبادة
    وعلى الطرح الأول أي بنفي وجود التفصيل في كل عبادة وأن الجميع يجري مجرى واحدا فيحتاج ذلك الإجابة على حديث إنما الأعمال بالنيات وعبادة الهجرة فقد صرفها مهاجر لغير الله أي امرأة كما يلزمه أن كل عبادة صورتها لا ينبغي أن تخرج على العادة كالزكاة والنفقة وأنواع البر التي ثبت أنها عبادات فمتى خرجت لغير ما أمر الله به فهي كفر اكبر مخرج من الملة..
    أتمنى أخي الفاضل أن لا أكون أثقلت عليك فحقا هذا ما بلغه فهمي وأعتذر على مثل هذا الطرح المستعجل دون أن أرتبه جيدا
    كما أرجو أن يكون جواب أخي فيه باختصار حتى لا أتشتت كما المرة الأولى
    وشكرا مسبقا

  4. #44

    افتراضي

    وأضيف طرحا ثالثا من باب طرح كل الاحتمالات الممكنة
    وهو أن يكون ما خرج من غير معنى العبادة خارجا عن اسم العبادة فهجرة مهاجر ام قيس مثلا ليست عبادة أصلا وهكذا يقال في سجود التحية تبعا وانه لا يسمى عبادة فيرجع الإشكال إلى اسم العبادة وأنه مركب من قول وعمل
    وذلك هو معنى الدين والإيمان ونفرق بعد ذلك في التكفير بقرائن خارجة عن الحد تهَمةً قضاء وحكما كإتيان الساجد بما هو خلاف العرف والعادة فسجود التحية لا تعرفه العرب والمسلمون أو كون المسجود له ادُّعي فيه خصائص الألوهية ونحو ذلك فيكون من باب التفريق بين التأويل السائغ وغير السائغ دون الحاجة إلى إقامة تأصيل جديد في أنواع العبادة والله اعلم

  5. #45

    افتراضي

    أخي أبا محمد الجزائري رفع الله قدرك في الدارين

    1- أسلفت في محاورة أخينا الجهني: أن كل طاعة تكون عبادة بنظر آخر، وذلك أن المكلّف ملزَم بحق التكليف من الله في كلّ تصرّفاته وأعماله المختارة، وهنا كان الإنسان مثابا بتنفيذ أمر الله جلّ جلاله حتى ولو كان ذلك في استجابة داعي شهواته مادام أنه يلاحظ امتثال أمر الله تعالى وحكمه كما في قوله عليه السلام: «وفي بضع أحدكم صدقة» ويكون محروما من الأجر والثواب إذا لم يلاحظ الاستجابة لأمر الله في السعي إلى مصالحه المشروعة، وفي هذا المعنى الحديث الشريف: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» والنية المرادة هنا عند أكثر العلماء هي نية الامتثال لأمر الله ونهيه، وإذا كان هذا جاريا في كل فعل وترك ثبت أن في الأعمال المكلّف بها طلبا تعبديّا من حيث الجملة.

    2- الأعمال كلّها إما مطلوب أو مباح، والمباح لا يتقرّب به إلى الله فلا معنى للنية فيه، والمطلوب نواه وأوامر، فالنواهي كلها يخرج الإنسان عن عهدتها وإن لم يشعر بها فضلا عن القصد إليها. وإن شعر بالمحرّم ونوى تركه لله حصل له مع الخروع عن العهدة الثواب والأجر لأجل النية فهي شرط في الثواب لا في الخروج عن العهدة.

    والأوامر على قسمين: الأول: ما يكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته كأداء الديون والودائع والغصوب.. وهذا لا يتوقف على قصد الفاعل لها فيخرج الإنسان عن عهدتها وإن لم ينوها.

    والثاني: ما تكون صورة فعله ليست كافية في تحصيل مصلحته المقصودة منه كالصلوات والطهارات والصيام والنسك ... فإن المقصود منها تعظيمه جلّ جلاله بفعلها والخضوع له في إتيانها، وهذا إنما يحصل إذا قصدت من أجله سبحانه، فإن التعظيم بالفعل بدون قصد المعظّم محال، كمن صنع ضيافة لإنسان انتفع بها غيره فإنا نجزم بأن المعظم الذي قصد إكرامه هو الأول دون الثاني، فهذا القسم هو الذي أمر فيه الشرع بالنيات، وعلى هذا يتخرّج خلاف العلماء في إيجاب النية في إزالة النجاسة.

    فمن اعتقد أن الله أوجب على عباده مجانبة الحدث والخبث حالة المثول بين يديه تعظيما له فيكون من باب المأمورات التي لا تكفي صورتها في تحصيل مصلحتها فتجب فيها النية. ومن اعتقد أن الله حرّم على عباده ملابسة الخبث فيكون عنده من باب المنهيات، فلا يفتقر إلى النية.

    3- القربات التي لا لبس فيها لا تحتاج إلى نية كالإيمان بالله، وتعظيمه وإجلاله والخوف من نقمه والرجاء لنعمه والتوكل على كرمه والحياء من جلاله والمحبة لجماله والمهابة من سلطانه وكذلك التسبيح والتهليل وقراءة القرآن وسائر الأذكار فإنها متميزة لجنابه سبحانه.

    4- كلامنا مع أخي الجهني في العبادة المحضة التي هي من خصائص الله سبحانه بالدليل الشرعي لا في الطاعة أو العبادة غير المحضة.

    5- الأفعال والأقوال إذا كانت نصوصا أو ظواهر في مرادها لم نحتج إلى النظر في القرائن والقصود لانصرافها لمدلولاتها بصراحتها أو بظهورها في باب التكفير، لأن الكفر والشرك يثبت مع عدم شعور فاعله بخلاف الإيمان والإسلام فلا يثبت إلا بالاختيار والقصد.

    6- نفرّق بين الشرك الأكبر الذي هو إثبات شريك لله قولا أو فعلا أو اعتقاداً فيما هو من خصائص الله، وبين شرك الرياء وهو شرك الأغراض لأن المرائي شركه في الغرض من العبادة لا في صرف شيء من الخصائص لغير الله.

    7- إذا كان السبب قولا أو فعلاً صريحا في مراده أو ظاهرا فيه فهو مناط الحكم عند أهل السنة، وجعلُ المناطِ هو الباطنَ أو الاعتقاد وعدم اعتبار الظاهر أو جعله أمارة هو مأخذ التجهم والإرجاء وهذا يعود إلى مذاهب الناس في حقيقة الإيمان والكفر ومثلكم لا يحتاج إلى الكلام في ذلك.

    8- خلاصة الأمر في مسألة الشرك: هل هذا العمل من خصائص الله في الشرع؟ إذا كان الجواب نعم؟ ننظر هل هو صريح أو ظاهر في دلالته كالسجود لغير الله؟ إذا كان الجواب نعم، نرتّب الحكم على صاحبه مع مراعاة العقل والاختيار، ولا بدّ أن يكون فردا من حقيقة الشرك الكلية في الأفعال والأسماء والصفات والعبادة.

    9- وفي الكفريات الأخرى ننظر في دلالة الفعل على معناه، ثم هل جعل الشارع له سببا للتكفير، ثم في نوع المسألة التي يتعلق بها، وفي حالة الجاهل والمتأول وداره ....
    10- أدلة تخصيص السجود بالله سبحانه في شرعنا جملة وتفصيلا أظن أن الإخوة سئموا من تردادها وذكرها فيراجع من المشاركات
    وشكرا لك على الإفادة


    هذا ما أمكن ذكره على استعجال

  6. #46

    افتراضي

    عذراً

    نسيت التعليق على قضية مهاجر أم قيس وأمثالها...

    هذا من الشرك في الإرادات والنيات وعدم الإخلاص وهو البحر الذي لا ساحل له وقلّ من ينجو منه فمن أراد بعمله غير وجه الله أو نوى شيئا غير التقرّب إليه وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته. وهو قريب من شرك الأغراض أو هو بعينه.

    والمقصود أن هذا وأمثاله أتوا بصورة الفعل الذي هو قربة موهمين إرادة وجه الله ولم يريدوا وجهه بل غرضا دنيوياً لهم.


    وليس الكلام في هذا النوع، وإنما في صرف نفس الفعل إلى غير الله والإرادة به قصدا وفعلاً شريطة كونه من خصائص الله.



  7. #47

    افتراضي

    خلاصة ما ورد في الإشكال حول سجود إخوة يوسف

    الجهني : ليس كل سجود عبادة وقد جاء الدليل بأن سجود التحية ليس عبادة فقد فعله إخوة يوسف
    المأربي : من صرف شيئًا مما جعلته الشريعة من خصائص الإلهية لغير الله فهو مشرك .. وسجود إخوة يوسف لا يرد نقضا على الأصل؛ لأنك لم تُثبت أن جنس السجود كان من خصائص الإلهية في شرع يوسف وإخوته!


    الجهني : مسائل الشرك الأكبر من أصول الدين ولا يمكن أن يدخلها النسخ .. فالله لا يبيح الشرك في زمن من الأزمان ..
    المأربي : استرح قليلا أخي الجهني فإن بحثك ضعيف مهزوز لا ينصر حقّا ولا ينقض باطلا بقوّة! .. جواز الشرك بالله وإباحته من الجائزات عند طوائف من أهل القبلة قالوا بجواز نسخ التوحيد وإقرار الإشراك بالله لأنّ المنع من ذلك يحدّ من كمال قدرة الله بل هو تعجيز لله وتحكّم عليه عندهم ..

    الجهني: سبحان الله .. وهل تقول بهذا !!
    المأربي: لا .. الشرك يمتنع تشريعه عقلا في أيّ شريعةٍ لأنه إخبارٌ بخلاف الحقيقة ولأنه تشبيه المخلوق بالخالق في الخصائص الإلهية .. واتفاق الشرائع إنّما هو في أصل التوحيد ودعوة الخلائق إلى عبادة الله وحده وأن لا يشرك به شيئا وهي تختلف في الفروع المؤدية إلى الأصل والخادمة له من أنواع العبادات التي يتقرّب بها إلى الله!

    الجهني : هل خصائص الألوهية يمكن أن تتغيّر من شريعة إلى شريعة؟
    المأربي : نعم يمكن أن ينسخ الله جميع العبادات إلا معرفته سبحانه ..

    الجهني : خصائص الألوهية هي أمور تختصّ بالله من حيث كونه إلهًا للعالمين .. وإلهنا وإله السابقين واحد سبحانه .. وما كان من خصائص مقام الألوهية لا يمكن أن يبيحه لأحد في أي زمن من الأزمان .. فكيف يمكن أن تكون خصائص الألوهية متغيّرة ..
    المأربي : الله لا يرضى أن يشرك به في عصر من الأعصار لا شركا أكبر ولا أصغر لكن القضية قضية أمر ونهي واختلاف في الأفراد والأنواع؛ فإذا أمر الله أن لا نصرف هذا النوع إلا إليه فهو عبادة وإن كان ذلك جائزا قبل ذلك، ولا يكون في ذلك الوقت شركاً بالله، وإنما صار عبادة أو شركا بالأمر والنهي الحادث، فإن الله يحدث من أمره ما شاء، ويحكم ما يريد ﴿لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب﴾ .. الشرك الأكبر أن يصرف نوع من أنواع العبادة لغير الله كأن يسجد لغير الله أو يدعوه أو يذبح، وقد يجري في بعض الأنواع النسخ والتغيير.

    الجهني : لا خلاف في كون أنواع ما يُتعبّد به من العبادات توقيفي فهذا لا يُنازع فيه أحد .. ولا خلاف في كون النسخ يحصل في هذه العبادات فأيضاً هو محل اتفاق .. أما كون خصائص الألوهية مرتبطة بالعبادات المتغيّرة فغير صحيح لأنّ خصائص الألوهية مرتبطة بأصل العبادة وهو الخضوع الخاص .. وهذا الذي لا يبيحه الله في أي زمانٍ ومكان ..
    المأربي : ما ذكرتَه من أن العبادة هي الخضوع الخاصّ الذي لا يليق إلا بالله، ولا يمكن أن يُبيحه الله لأحدٍ في أي زمنٍ من الأزمان.. فكلام يدفع ما قدّمتَه من أنَ العبادة توقيفية لأن هذا يقتضي أن تكون حقيقة لا تقبل التغيّر والاختلاف في أيّ زمن من الأزمان، وكونها توقيفية يقتضي أنها وضعية شرعية تدور مع الأمر والنهي في الشرائع فكيف التوفيق بين الكلامين؟
    كيف تزعُم أنها توقيفة وضعية تدور مع الأمر والنهي! وفي نفس الوقت تقول: إن العبادة تكون مع انتفا الأمر والنهي!
    ثم نريد أن نقف على طريق المعرفة بهذا الخضوع الخاص؟ وجهة التخصيص له! فإن كانت الفطرةَ والضرورة فلا تكون العبادة توقيفية ..

    الجهني: الجواب سهلٌ وبسيط : أصل العبادة هو الخضوع العبادي الخاص الذي لا يليق إلا بمقام الألوهية .. وهو أمر ضروري لا حاجة للأمر والنهي فيه .. أمّا أنواع ما يُتعبّد به فارتباطها بمفهوم العبادة هو من جهة أنّها الطريقة الصحيحة التي يريد الله أن نتعبّده بها .. فليس بين هذه الأفعال وبين مفهوم العبادة (الخضوع الخاص) تلازم .. فيمكن أن يتعبّد الإنسان لله بفعل لم يشرعه الله ويكون عمله بدعة .. وقد يفعل الشخص هذه الأفعال التي شرعها الله من غير نية التعبّد فلا يكون فعله عبادة ..
    أمّا الشرك فهو متعلّق بصرف هذا الخضوع الخاص وليس بأنواع ما يُتعبّد به .. فمن تعبّد لغير الله بالخضوع الخاص سواءٌ بما شرعه الله من الأفعال أم بغيرها فهو مشرك في الحالتين ، ومن تعبّد لله بالخضوع الخاص سواء بما شرعه الله من العبادات أو بغيرها فهو موحّد في الحالتين لكن في الحالة الثانية يُسمّى مبتدعًا ..
    المأربي: قلتَ سابقًا في تعريفك للعبادة: هي الخضوع الخاص الذي لا يليق إلا بالله، فالعبادة عندك - بجنسها وأفرادها- هي الخضوع الخاص الذي لا يليق إلا بالله ومن صرفه لغيره مشرك كائنًا من كان ولو لم يرد أمر ونهي. لأنه التعريف الصحيح والجامع المانع! أما هنا فلجأت إلى أصل العبادة وزعمت أن تعريفك للعبادة ليس إلا تعريفًا لأصل العبادة. أما تعبّد الله به العبد من العبادة كمّا وكيفاً فلا يدخل في التعريف، فأين راح التعريف الجامع المانع الصحيح؟

    الجهني : إن التبست عليه كلمة (أصل) فاحذفها ولا يضيرك شيء .. التعريف الجامع المانع للعبادة هو الخضوع الخاص اللائق بمقام الألوهية وهو أمر باطني .. علاقة الأفعال الظاهرة بمفهوم العبادة هي كونها الطريقة التي شرعها الله لنتذلّل له بها ونخضع له بها الخضوع الخاص.. وليس لها مدخل في معنى العبادة الجامع المانع .. والآن بعد استعراض المفهوم الصحيح للعبادة كما أراه .. ما خلاصة مفهومك حول العبادة وجوابك عن الإشكالات؟
    المأربي : عبادة الله وحده حقيقة كلية لا توجد في الخارج كلية بل لا توجد إلا مشخّصة معيّنة فتوجد في الأفراد والأعيان المتميّزة من صلاة وصوم وزكاة وحج وذبح ووضوء.. والشرائع إنما تشترك في الحقيقة العامة وتختلف في الأفراد الخارجية المعيّنة ..

    الجهني : كلامك هذا لا يستقيم لما يلي :
    1- العبادة عندك ليست إلا أفراد العبادات .. فأعيان العبادات هي التي تُشكّل ماهية العبادة وحقيقتها .. والعبادة ليس لها وجود كلي .. فإذا كانت أعيان العبادات قابلة للتغيير والنسخ من زمانٍ إلى زمان فمعنى ذلك أن العبادة ذاتها قابلة للتغيير والنسخ .. فالعبادة إنّما هي مجموعة هذه الأفراد .. وبالتالي فحقيقة التوحيد والشرك قابلة للتغيير والنسخ .. وكلُّ ما يتحقّق به شرك العبادة عند قوم يمكن أن يكون هو هو عين التوحيد والإيمان في شريعة أخرى ..
    ليس ثمّ شيءٌ ثابتٌ عندك إلا الاسم والعنوان فقط وهو عبادة الله وإفراده بخصائص الألوهية .. أما حقيقة هذه العبادة وهذه الخصائص وماهيتها فهي قابلة للتغيير من زمان إلى زمان .. وهذا مثلُ من يشرب الخمر الحقيقي ويقول إنّها جائزة لأنّهم يسمونها (ماء) .. والماء يجوز شربه !!
    2- كيف يقول العلماء في تعريف البدعة بأنها : التعبّد لله بما لم يشرعه الله .. أليس هذا تناقض منهم حسب تعريفك .. العبادة ليست إلا أفراد العبادات التي شرعها الله؛ والعبادة لا تصير عبادةً ولا تصير نهاية الخضوع إلا إذا أمر الله بها ؛ فكيف يمكن تصوّر حصول التعبّد بشيء لم يشرعه الله ولم يأمر به ..
    3- حسب تعريفك: كيف نفرّق بين الفعلين الذين لهما صورة واحدة وكلاهما أمر الله به، لكنّ أحدهما عبادة والآخر ليس عبادة وإنّما هو طاعة كما هو الحال في سجود الملائكة لله وسجودها لآدم .

  8. #48

    افتراضي

    الثلاثون:

    الهروب إلى الإمام وما أدّى إليه!

    تهرّب الجهني كثيراً عن الوقوع في ورطة وسقطة راسبة لا لعاً لها، وأخيراً تردّى فيها والعياذ بالله..


    بيان هذا:

    أنه قرّر أن من خضع لغير الله الخضوع الخاص الذي لا يليق إلا بالله فهو مشرك كافر، وإن كان جاهلاً..

    وقرّر مع ذلك: أنّ المشرك لا يكون مشركاً حتى يعلم أنّ هذا الخضوع لا يستحقه إلا الواحد الأحد ثم يصرفه إلى غير الله..
    ثم طالبته كثيراً الجمع بين تكفير الجاهل المشرك، وبين نفي وجود المشرك الجاهل في الواقع...
    وتهرّب كثيرا حتى أعياني الطلب..
    ثم طالبتُه أكثر من مرّة وسألته عن السبيل إلى أن هذا الخضوع لا يليق إلا بالله وأنه لا يستحقه إلا الله سبحانه؟
    فتهرّب، وحاد، واختزل، واشتغل بغير المطلوب، لكني صبرت له، وواصلت المسيرة حتى استخرجتُ منه ذلك بالمنقاش فقال:

    معرفة كون هذا الخضوع لا يليق إلا بالله سبحانه ليس طريقه الشرع والرسالات، ولا النظر العقلي والاستدلال، بل هو أمر ضروري لا حاجة للأمر والنهي فيه..

    فصار حقيقة الأصل الذي قاد إلى هذا الكفر الإلزامي على الأقلّ:

    كون هذا الخضوع خاصاً بالله لا يستحقه إلا الله ضروريّ، وكون الصارف لغيره مشركا ضروريّ أيضاً حتى للمشرك نفسه لأن اختصاص الله بهذه العبادة ضروري لا يحتاج إلى إرسال وإنزال كتاب ولا يتوقف على أمر ولا نهي (الشرع)...

    خلاصة الأصل:

    العلم باختصاص الله بهذا العمل ضروي لا يتوقّف على سببٍ، والعلم بالشرك في صرفه إلى غيره ضروريّ، فالناس موحّدون ضرورة، ومشركون ضرورة في آن واحد، والرجل عالم عارف، وجاهل غافل في آن واحد في عمل واحدٍ...

    هذا حقيقة ما تضمّنه كلامه وأصله، والألفاظ قوالب المعاني فإذا عرف المعنى فلا عبرة بالمبنى.

    أخي القارئ لعلّك تستغرب لزوم الكفر من هذا الأصل قبل استغراب صاحبي الجهني فأقول لك:

    انتظر، واستمع لما يلقى إليك بذهنٍ خال عن النفرة والبغض وعن الحب والاستحسان.

    بيان هذا من وجوهٍ مختصرة:

    الوجه الأول:

    اختلف الناس في معرفة وجود الله بصفات الكمال الذاتية هل تقع ضرورةً، أم لا تحصل إلا بالنظر والاستدلال؟ أو تحصل بهذا تارة، وبهذا تارة؟ فنُقِل عن الأكثرين أنه يجوز أن تقع من غير كسب، وأن تقع بنظر واستدلالٍ، ونقل آخرون: أنّ كونها نظرية كسبية هو قول الأكثرين، وخلافه قول الأقلين، وقال آخرون: إنها من النظريات الجلية الدانية من الضروريات.

    هذا خلاف في طريق معرفة وجود ذاته هل يجوز أن تكون ضرورة لا تتوقف على نظر واستدلال أم لا تعرف إلا بالنظر؟
    واتفقوا على أن تفصيل المعرفة بالله وبصفاته.. لا يُعلم إلا بطريق السماع من الرسل والأنبياء.

    وإذا كان هذا في معرفة الأصل (معرفة وجود الله) فلك أن تعجب ما شئت من قول صاحبنا بضرورية معرفة عبادة الله وتحريم عبادة غيره، وأنها لا تتوقّف على بعثة الرسل والأنبياء وإنزال الكتب!!
    قال الإمام أبو الفرج المقدسي (486هـ)رحمه الله:
    «إن معرفة الله يجب أن تتقدّم على عبادته؛ لأنه لا يجوز للمكلّف أن يعبد من لا يعرف.. وإذا ثبت هذا فيجب تقدّم المعرفة على العبادة..»التبصرة في أصول الدين (ص22).

    وتتحقّقَ أن صاحبنا يتكلّم في مسائل ليس هو من أهلها وأن كلامه في هذه الأبحاث أجنبي عن أصول العلم بل هو إنشائي لا ينجي من لزوم الكفر.
    الوجه الثاني:
    اختلف الناس في تفرّد الله بالوحدانية في أفعاله فقيل: نظرية كسبية وهو قول الأكثرين، وقيل: هذا إجماع، وقيل: يجوز أن تعرف بالضرورة...
    الوجه الثالث:
    اختلفوا في وجوب المعرفتين (معرفة الذات بالصفات الذاتية، والتفرّد بالأفعال) هل تثبت بالشرع أم بالعقل؟
    قال أبو الفرج الشيرازي (486هـ)رحمه الله:
    «قال أهل السنة جميعا: وجبت معرفة الباري بالشرع دون العقل، وقالت المعتزلة: وجبت بالعقل دون الشرع..» التحبير شرح التحرير (2/734).
    وقال الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني (558هـ)رحمه الله:
    «معرفة الله عندنا وجبت بالشرع، ولو لم يبعث الله الرسل لم يجب علينا معرفة الله ولا عبادته ولكن لما أرسل الله الرسل لم نعلم صدقهم إلا بالنظر بمعجزاتهم، وعرفنا الله تعالى بالعقل.
    وقالت المعتزلة والقدرية: معرفة الله وجبت بالعقل ولو لم يبعث الله الرسل لكان في العقول ما يدل على توحيدهم لله سبحانه.
    وهذا نفس قول البراهمة الذي قالوا بإبطال الوسائط.
    والدليل على بطلان قولهم قوله تعالى:﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾ وقوله تعالى:﴿لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل﴾ فقال بعد الرسل ولم يقل بعد العقل..»الانتصار في الرد على القدرية الأشرار (1/118-119).
    وانظر كلام شيخ الاعتزال عبد الجبار في وجوب معرفة الله بالعقل وأن لا حاجة إلى السمع في ذلك من كتاب «المغني في أبواب التوحيد والعدل»(14/151).
    وقال أبو الفرج المقدسي رحمه الله:
    «إن معرفة الله لو كانت حاصلة بالعقل لكان كلّ عاقل عارفا بوحدانية الله، فلما وجدنا جماعة من العقلاء كفاراً غير عارفين لدينٍ، دلّ على أن المعرفة لم تحصل بالعقول؛ ألا ترى أن ما يُدرك بالنظر لا يختلف أرباب النظر فيه»التبصرة في أصول الدين (ص24).
    لا يختلف أهل السنة في أن معرفة الله بالصفات الذاتية ووحدانيته بالخلق والتدبير والملك... لا يثبت بها الإيمان الشرعي بل صاحبها كافر إن لم تثبت له المعرفة الثالثة في:
    الوجه الرابع:
    وجوب إفراد الله بالعبادة وحرمة عبادة غيره فرع عن معرفة ذاته وتفرّده بالأفعال.. ثم عن وجوب المعرفتين بالشرع أو بالعقل، فلزم أن تكون وجوب المعرفة الثالثة بالسمع وهو الأمر والنهي وهو الشرع مع إمكان معرفة هذا بالنظر العقليّ.
    ولا أعلم أحداً قال قبل الجهني: إنّ هذه المعرفة ضرورية من غير نظرٍ ولا سمعٍ، بل اتفق الناس على أنّ وجوب هذه المعرفة (إفراده بالعبادة وحرمة الشرك) مسألة نظرية تتوقّف على النظر والسمع ولم يقل أحد أنها ضرورية.
    قال الشيخ أبو محمد بن عبدك البصري (347هـ)رحمه الله في المعارف الثلاث:
    «فمن كانت معه معرفتان فهو كافر، وبالمعرفة الثالثة يصحّ الإيمان، وهو الفصل الثالث: وهي معرفة التوحيد التي دعت الرسل إليها، وبعثوا بها، وكلّفنا قبولها، وهي قوله:﴿وإلهكم إله واحد﴾ وهو قوله:﴿لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل﴾، وأخبرنا أنه ما كان معذّبا قبل بعثتهم، فكانوا يعرفون أن لهم ربّا وإلهاً ولكنهم ينكرون توحيد الإله وبعث رسله وشرائع دينه، وبه وقع منهم الكفر.
    فوجود ذلك منهم يزيل عنهم معرفة التوحيد، ولا يزيل ضرورتهم،وهذه المعرفة وجبت بالتوقيف،وهي ما وقفتنا الرسل عليه، ودلّنا عليه سبحانه، ووفّقنا لذلك، وبها يجب الخلود في الجنة وبعدمها يجب الخلود في النار، وهي مكتسبة ولم تجب بالعقل كما زعمت المعتزلة، لأن هذه مقالة تضاهي مقالة البراهمة..».درء التعارض (8/510-511) نقلا عن كتابه «أصول السنة والتوحيد».
    وقال العلامة ابن عرفة التونسي: «اتفقت الملل كلها على أنّها نظرية ولم يقل أحد أنها ضرورية»تفسير ابن عرفة (ص553).
    هذا بعض تقريرات بعض الفقهاء لنظرية التوحيد بالعبادة، وأنها محلّ دعوة الأنبياء والمرسلين، وأنها تؤخذ من التوقيف والرسل...
    الوجه الخامس:
    هذا القول يؤدِّي إلى الكفر بالله وجحد الرسالات ويلتقي بالبراهمة من جهةٍ وعقيدة الاعتزال من جهة أخرى ونعوذ بالله من الضلال بعد الإيمان!
    وتقريره: أنّ العباد مكلّفون بعبادة الله وحده وتحريم الشرك إجماعاً، والتكليف لا يكون جبراً ولا يقع اضطراراً، بل يكون اختياراً؛ والخيرة تعتمد المُكنة من النقيضين، فإذا كانت العبادة ضرورةً غير كسبية بطل التكليف والامتحان، وصارت بعثة الرسل وإنزال الكتب لتقريرها وتحريم ضدّها تقريرا للضرورات وتحصيل حاصل وهذا عبث ينزّه عن الله بل هو قدح في مقام الربوبية!!
    الوجه السادس:
    ألا ترى الناس يشركون بالله برهةً من الزمن، ثم يؤمنون ويوحّدون الله بالعبادة، وترى من كان موحّدا مؤمنا يكفر بالله ويشرك..
    ولو كان إدراك حقيقة العبادة الخاصة بالله ضروريّا لما أمكن الانتقال من الضرورة ولم يختلف الأمر، لكن لما كانت كسبية نظرية صحّ عليها النقلة والتحويل ﴿وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كلّ ختّار كفور﴾ ﴿وإذا مسّكم الضرّ في البحر ضلّ من تدعون إلا إيّاه فلما نجّاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً﴾ ﴿وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين﴾ ﴿فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجّاهم إلى البر إذا هم يشركون﴾ ﴿كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم﴾﴿ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا﴾ ونحوها من الآيات..
    فلو كان إدراك حقيقة عبادة الله وحده ضرورة لما أشرك الخلائق في عبادته لأنهم مضطرون إلى التوحيد في العبادة، والعقلاء لا يختلفون في الضرورات وإنما في النظريات، ولما كان لقول الشارع: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» ... محلّ ووجهٌ ظاهر؛ وإلا كيف يمكن الدعوة إلى اعتقاد ما هو ضرورة للعبد موجود في قلبه لا يحتاج فيه إلى رسول ونبي ولا أمر ولا نهي؟
    الوجه السابع:
    إن الرسل عليهم السلام إنما أرسلوا بوصل الربوبية والوحدانية بتوحيد العبادة فأبى ذلك المحروم، وقبل من الرسل الموفّق، فالقضية قضيّة ردّ من بعضٍ، وقبول من آخرين لا مسألة ضرورة قاهرة.
    قال الشيخ أبو محمد بن عبد البصري رحمه الله في هذه المعرفة: «وتعرّف إلينا بهذه المعرفة على ألسنة السفراء فأوقفتنا السفراء على توحيده الذي تعرّف إلينا به في كلامه وخطابه، فالأصل منه ثم السفراء. ﴿لقد منّ الله على المؤمنين إذا بعث فيهم رسولا من أنفسهم﴾..»
    ولو كانت هذه المعرفة تقع للعباد ضرورةً لا يُحتَاج فيها إلى أمر ونهي لكان بعث الرسل وإنزال الكتب لذلك لا حاجة إليه إذ هو تحصيل ما هو حاصل ضرورة للعباد وتحصيل الحاصل محال..
    وفي هذا من الكفر ما لا يخفى على أحد تصوّر حقيقة قول الجهني وما يؤدي إليه!!!
    الوجه الثامن:
    قال جلّ ذكره:﴿وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون﴾.
    والمعنى: إذا أفرد الله بالذكر فدُعِي وحده وقيل: لا إله إلا الله نفرت قلوب المشركين من توحيد الله بالعبادة والتعظيم.
    فيها دليل على أنّ معرفة عبادة الله ليست ضرورية إذ لو كانت كذلك لما انقبضت قلوبُهم من ذكر الله وحده، بل كانوا يخالفون بألسنتهم على جهة المعاندة لا بقلوبهم، كما قال تعالى :﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوّا﴾.
    واستدل بالآية من قال بنظريّة معرفة الله ووحدانية الخالق وليس بظاهر لأنها ردّ على مشركي قريش وأمثالهم، وهم إنما خالفوا في الأصل في توحيد العبادة لا في وجود الله ووحدانية الخالق وكونه معبوداً...
    قال الإمام أبو محمد بن عبد البصري رحمه الله:
    «وإذا كان الله معروفا من طريق التوحيد بالعقل فما بال قريش - مع كونها ذوي عقول- يقول الله عنهم إخباراً :﴿أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب﴾؟ فإن كان لا عقل لها فلا حجة عليها، وإن كانت ذوي عقول فما أغنت عنهم عقولهم...
    فدلّ على أن كلّ معرفة لها حكم ومصدر، ومقام وحال، فللكل معرفة الوحدانية والربوبية، وليس للكل معرفة التوحيد... ألا ترى أنه لم يقع من الكفار التعجّب والإنكار من أنه سبحانه ربّ وإله؟ وإنما تعجّبت وأنكرت التوحيد بالإلهية فقالوا: ﴿أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب﴾ »
    وقال أيضا: «إنما جحدوا معرفة التوحيد الذي تعبّدهم بها على ألسنة السفراء، وهو قوله تعالى:﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾ وقول صاحب الشرع: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" لم يقل حتى يقولوا: أن لهم ربّا، إذ هم عارفون بذلك. وإنما أمرتهم الرسل أن يصلوا معرفة التوحيد بمعرفة الربوبية والوحدانية فأبوا، وقبل ذلك الموحّدون... فالسفراء لهم مدخل في معرفة التوحيد دون معرفة الوحدانية والربوبية إذ لكل معرفة مقام فليس للعقل والكسب والوسائط والنظر والاستدلال في هذه المعرفة حكم لكونها عامة موجودة ممن يصح منه النظر والاستدلال وممن لا يصح منه فلو كلّفهم كلهم النظر والاستدلال لكان مكلّفا لهم شططا، إذ لا يصح من الكل النظر والاستدلال، ويصح من الكل المعرفة بالاضطرار فحمّلهم من ذلك ما رفع به عنهم الشطط..» درء التعارض (8/512-513).
    الوجه التاسع:
    قرّر الله في الكتاب العزيز أن عبادة الله وحده لا شريك له نظريّة شرعية وليس ضرورة قاهرة للعباد كقوله تعالى:
    ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله﴾ ﴿وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم﴾
    ﴿إنني لا إله إلا الله فاعبدني﴾﴿وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون﴾
    ﴿قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب﴾
    ﴿قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي﴾
    ﴿قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البيّنات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين﴾ ونحوها من الآيات.
    ومعنى الآية الأخيرة: نهيتُ أن أعبد الذين تدعونهم آلهة، والنهي الشرعي مقارن للنبوات، ولا يلزم أن تكون البيّنات التي أنزلت عليه خاصة بل مطلق الوحي المنزل عليه وعلى غيره من الأنبياء في الأمم.
    والنهي لا يقتضي اتصاف المرء بالمنهي عنه بالفعل، ولا عدم اتصافه به، لكن يقتضي قبوله للاتصاف به وإمكانه في حقه.
    وهذا يقتضي أنّ حرمة عبادة غير الله ليس ضرورياً وإنما يعرف بالوحي المنزل على الأنبياء والرسل....
    وهذا دليل آخر على أنّ توحيد العبادة ليس ضرورياً، وإن كان قد يُعلم بالعقل امتناع الشرك بالله بعد تحقيق معرفة الله ووحدانيته بالخلق والملك والتدبير، وبعد تصوّر حقيقة الشرك كما مضى في المشاركات...
    قال الإمام ابن المنير المالكي رحمه الله:
    «معرفة الله ووحدانيته معلومتان بالعقل، وقد ترد الأدلة العقلية في مضمون السمعية، أما وجوب عبادة الله وتحريم عبادة الأصنام فحكم شرعيّ، فقوله: ﴿قل إني نهيت﴾ أي حرّم عليّ، وهذا إنما يتحقّق بعد البعثة خلافا للمعتزلة في الإيجاب قبل الشرع للتحسين والتقبيح» الانتصاف حاشية الكشاف (4/177).
    الوجه العاشر:
    قيل للنبيّ ﷺ بأيّ شيء أرسلك الله؟ قال ﷺ: «بأن يوّحد الله، ولا يشرك به شيء، وكسر الأوثان، وصلة الأرحام...».
    وقال له آخر: «يا رسول الله إلام تدعو؟ قال: أدعو إلى الله عز وجل وحده، مَنْ إذا كان بك ضرّ فدعوته كشفه عنك، ومن إذا أصابك عام سنّةٍ فدعوته أنبت لك، ومن إذا كنت في أرض قفرٍ فأضللتَ فدعوته ردّ عليك، فأسلم الرجل...»
    احتج عليه السلام بتوحيد الأفعال المسلّم على توحيد العبادة وهو الأسلوب القرآني المبثوث في آياته.
    ولو كان توحيد العبادة ضرورة لما احتاج إلى الاستدلال والإحالة على المسلَمّ عند المخالف بل قال له: أفي عبادة الله وحده شك؟ كما قالت الرسل لأقوامهم:﴿أفي الله شك فاطر السموات والأرض﴾.
    قال الإمام ابن عبد البصري رحمه الله: «ولولا إرسال الرسول - مع ما خاطبنا به ووفّقنا عليه، ووفّقنا له، ومنّ علينا به، وكتب في قلوبنا، واختصّنا ما عرفنا توحيدَه ولا كيف نطيعه..» درء تعارض النقل والعقل (8/527-528).
    وقال عليه السلام لمعاذ بن جبل رضي الله عنه في دعوة أهل الكتاب: «فادعهم إلى أن يوحّدوا الله، فإذا عرفوا الله...» وفي رواية: «فادعهم إلى عبادة الله فإذا عرفوا الله..»
    فالمراد بالعبادة التوحيد، والمراد بالتوحيد الإقرار بشهادة لا إله إلا الله، فالدعوة إلى هذه المعرفة رسالة الأنبياء والمرسلين، ولو كان ذلك ضرورة للعباد لا كسبا ولا نظراً ولا حاجة إلى أمر ونهي لكان هذا من النبي وإخوانه عليهم السلام تحصيل حاصل وهو محال!!
    فكيف إذا كانت دعوى الجهني مخالفة للواقع بالضرورة؟؟.
    قال تعالى:﴿وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون﴾
    وهل يسأل عن الضرورة الوجدانية التي يجدها المرء في نفسه وقلبه كما قال لك الجهني؟؟
    الوجه الحادي عشر:
    وجوب عبادة الله وتحريم الشرك لو كان ضروريا لما اختلف العقلاء في ذلك ولما ترك بعضهم عبادة الله ولما أشرك به أيضا فتعيّن أنها من قسم النظريات ودعوى الضرورة الوجدانية مع ما سلف من البليّات بل من الكفريّات في هذا الموطن.
    فثبت بهذه الوجوه أن أصل الجهني قاده إلى هذا الضلال بل استلزم الكفر وما لا يقوله أحد من أهل القبلة على هذا الوجه إلا أن يكون من البراهمة نفاة النبوات والرسل في الباطن.
    يتبع .........
    وأنتظر قليلا حتى يهضم الإخوة الكرام هذا الكلام إن شاء الله.

  9. #49

    افتراضي

    أخي الكريم!بارك الله فيك على هذا الجهد المضني الذي تجشمته،
    أما بعد:
    سؤالي لك أخي الكريم مؤداه ما يأتي ذكره:

    أليس في إطنابك هذا مستمسك لمن قال بأن المشرك قبل البعثة، وإرسال الرسل، وبلوغ الحجة الرسالية معذور عند الله يوم القيامة، فلا يؤاخذه حتى يمتحن يوم القيامة كما قال بعض آهل العلم؟

    وفقك الله ورعاك

  10. #50

    افتراضي

    الثانية والثلاثون:
    أخي أبو سيرين الوهراني سلّمك الله من سوء الدارين ورزقك الفهم والسداد..
    مسألة الشرك قبل الرسالة تقديرية فرضية وإلا فلم يخل زمان عن الرسالة لأنّ أوّل البشر آدم عليه السلام وكان نبياً وقد ثبت بشرعه إباحة ما أبيح وحظر ما حظر.
    على أنّه كان الناس بين آدم وبين نوح عليهما على التوحيد والإسلام لعشرة قرون كما جاء في الأخبار والآثار وإشارات الكتاب العزيز.
    وبعد ذلك لم يخل زمان عن رسول أو ممن يقوم مقامه، وأدلة العلماء كمعجزات الأنبياء من جهة حتى بعث الله محمدا رحمة للعالمين.
    ولهذا قال أبو الحسن ابن القصّار (397هـ) رحمه الله:
    «إن الكلام في هذه المسألة تكلّف لأنه لا يقعل الناسُ حالاً قبل الرسل والشرائع؛ لأن الرسل بعد آدم عليه السلام، فقد تقرّرت الشرائع في جميع الأشياء بالرسل عليهم السلام»المقدمة في الأصول (ص156).
    وقال الإمام أبو منصور الماتريدي:
    «التكلّم في هذه المسألة ضائع لأن زمانا لم يخل عن الشرع لأن أول البشر آدم عليه السلام وهو كان نبيا وقد ثبت بقوله إباحة ما أبيح وحظر ما حظر، وبعد لم يخل زمان عن نبي أو ممن يقوم مقامه.
    قال الإمام العالمي: إلا أنا نقول: هذه المسألة تقديرية. ومعناه: لو قدّر خلوّ زمان عن شرع ما قضية العقل فيها؟...»بذل النظر في الأصول (ص663).
    وقال العلامة سراج الدين البلقيني رحمه الله:
    «إن الخلاف المذكور في الأفعال الاختيارية قبل البعثة لا يتحقّق؛ إذ قبل آدم عليه السلام لم يتحقّق وجود قومٍ حتى يتحقق الخلاف، وبعد وجوده كان مكلّفا بما شرعه الله له، واستمرّت الشرائع، ولا يصحّ حمل الكلام على حالة الفترة لأن الكلام قبل ورود الشرع المستدلّ عليه بقوله:﴿وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا﴾» ترجمة سراج الدين البلقيني (ص277).
    قال الإمام ابن أبي موسى الشريف الحنبلي (428هـ)رحمه الله:
    «وكان كلّ نبي يعرّف أمّته معبودهم كقول نوح لقومه:﴿قال يا قوم إني لكم نذير مبين* إن اعبدوا الله﴾ وكقول شعيب:﴿يا قوم اعبدوا الله﴾ وكذلك في قصص غيرهم من الرسل، كلّ منهم يديم الدعوة لقومه، فإذا قبض كان حكم شريعته قائما في حال الفترة إلى أن ينسخها الله بإرسال نبي آخر، فيقوم الثاني لأمته في التعريف والدعوة قيام الماضي لأمته، فما أخلى الله الخلق من سمع يعرفونه به، ويستدلون به على ربوبيته ومعرفة أسمائه»درء تعارض النقل والعقل (9/6-7).
    ومن الأدلة على هذا الأصل قوله تعالى:﴿وإن من أمة إلا خلا فيها نذير﴾
    ﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا إن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت﴾
    ﴿إنما أنت منذر ولكلّ قوم هاد﴾
    ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا فاعبدون﴾
    ﴿وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن ءالهة يعبدون﴾
    ﴿فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود * إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله﴾
    فالدعوة إلى عبادة الله وحده والتحذير من الشرك دين الأنبياء والمرسلين أجمعين ولم تخلّ أمة من رسالة تدعو إلى إفراد الله بالعبادة فالمشرك محجوج بمخالفة دعوة الأنبياء والمرسلين؛ ولهذا قال عليه السلام لبعض أصحابه: «حيثما مررت بقبر مشرك فبشّره بالنار». وقال لآخر: «ما أتيتَ عليه من قبر عامري أو قرشي من مشرك، فقل: أرسلني إليك محمد ﷺ ([1]) فأبشر بما يسوؤك، تجرّ على وجهك وبطنك في النار» فقال: يا رسول الله، وما فَعل ذلك بهم! وكانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه، وكانوا يحسبون أنهم مصلحون؟ قال: «ذلك بأنّ الله تبارك وتعالى بعث في آخر كل سبع أمم نبيّا، فمن عصى نبيّه كان من الضالين، ومن أطاعه كان من المهتدين».
    وقال الإمام ابن القيم (751هـ) رحمه الله:
    «إن من مات مشركا فهو في النار، وإن مات قبل البعثة؛ لأن المشركين كانوا قد غيّروا الحنيفية دينَ إبراهيم، واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلوما من دين الرسل كلهم، من أولهم إلى آخرهم؛ فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها؛ فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل»([2]).
    فالشارع شدّد في قضية الشرك بالله أيّما تشديد فاختصّ من بين المعاصي عدم الغفران وعدم الدخول في الموازنات لأنه جريمة لا تعادله حسنة ولا تمحوه قربة غير الإيمان والتوحيد الطارئ عليه.
    ومن إشارات القرآن إلى هذا:﴿ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيماً﴾
    ﴿ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالا بعيدا﴾
    ﴿ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق﴾
    ﴿أنه من شرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار﴾
    ﴿ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم وكان الكافر على ربه ظهيراً﴾
    وقال فيهم في موضع آخر:﴿إن الله لا يهدي من هو كاذب كفّار﴾..
    فالأمر في هذه القضية محسوم مقطوع والحكم للعليّ الكبير وقد حاولنا أن نفهم وجه التشديد عقلا فتيّن أنه القدح في الله وتشبيهه بالمخلوقات.
    ألا ترى الصرامة وإحالة الأمر في عقوبة الجريمة إلى حكم العلي الكبير لما قال المشركون:﴿فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل * ذلكم بأنه إذا دعي الله كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العليّ الكبير﴾
    فلا نتدخّل في حكم العليّ الكبير في الشرك وعقوبته لأن أدلة تكفير المشرك والحكم بالخلود في النيران قطعية عندنا لا يعارضه دليل لا ظني ولا قطعي أما الأول فلا يكون دليلا إلا بانتفاء معارضة القطعي له، أما الثاني فالقواطع لا تتعارض.
    هذه خلاصة ما في الأمر، ولتفصيله موضع آخر.

    وبعد هذا دعني أرجع إلى مواصلة المسيرة مع صاحبي الجهني...



    ([1]) قال ابن القيم: «إرسال تقريع وتوبيخ لا تبليغ أمر ونهي» زاد المعاد (3/599).


    ([2]) زاد المعاد (3/599).




  11. #51

    افتراضي

    الثانية والثلاثون


    سلف أن من تضوّر حقيقة الشرك علم امتناع تشريعه عقلا لأنه قدح في الله سبحانه وتعالى، وأن الشرائع اتفقت على التوحيد بالعبادة ودعوة الخلق إليه دعوة عامة لا تخصّ قوماً دون قومٍ، وأنّ الشرائع تختلف في الأفراد للمقوّمة للأصل وبالأحرى للأنواع.
    وبعد هذا لا ينفع التستر وراء عبارات لا تسمن ولا تغني من جوع مثل:
    مسائل الشرك من أصول الدين ولا يمكن أن يدخلها النسخ وأن الله لا يبيح الشرك في أي زمن من الأزمان..
    لأنك عجزتَ عن الرّد على القائلين بجواز إباحة الشرك عقلاً، وهم طوائف من أهل القبلة كما عجزتَ عن توجيه مقالتك:
    أنّ العبادات توقيفية والشرائع تختلف في أفراد العبادة كمّا وكيفية ومن صرف نوعاً منها إلى غير الله لا يكون مشركاً!!
    على أنه لا يُدرى ما تعني (بأصول الدين) فقد يكون أصول دينك غير أصول الدين عندنا!
    كما سلف في التعليقة التي قبل هذه.
    خصائص الألوهية هي أمور تختصّ بالله من حيث كونه إلهًا للعالمين.. وإلهنا وإله السابقين واحد سبحانه .. وما كان من خصائص مقام الألوهية لايمكن أن يبيحه لأحد في أي زمن من الأزمان .. فكيف يمكن أن تكون خصائص الألوهية متغيّرة ..
    ليس الكلام في كون إلهنا إله السابقين واللاحقين، وإنما في أصلك الفاسد - وهو إدراك عبادة الله وحرمة الشرك في العبادة معلوم للعباد بالضرورة ولا حاجة إلى رسول ولا نبي ولا أمر ولا نهي - وإذا كان الأمر كذلك فلا محلّ للجاهل المشرك والمعاند المشرك، ولا أنّ هذا يعذر وذاك لا يعذر، لأن الضرورات الوجدانية لا تحتمل النقيض ولا يوجد في الدنيا إلا مشرك مكابر، ولا تكون مكابرته إلا بالجوارح والأعمال الظاهرة إما في القلب فلا يمكن انقلاب الضرورة الوجدانية.
    هذه هي الدعوى على عادتك فما هو الدليل عليها؟
    وهل هذه الأمور العبادية اختصّت بالله لذاتها؟
    أم بوضع واضعٍ وبجعْلِ جاعلٍ لها كذلك؟
    وبعبارة أخرى: اختصاص هذه الأمور بالله ذاتي أم جعلي وضعي؟
    وعلى كلا التقديرين فما هو الدليل؟ وما هي رتبة هذا الدليل؟
    الجواب عن هذه الأسئلة يحتاج إلى شجاعة أدبية لكن فمن لي بها؟
    على أني على علمٍ بأنها أسئلة ضائعة، والجواب عنها أضيع؛ لأن العبادة الإيمانية والعبادة الشركية معلومة بالضرورة للبشرية ولا يكون واضع هذه الضرورة في قلوب العباد إلا الله سبحانه!!.

    بالنسبة لإنكار الخصائص العبادية الفردية فمصدره عدم التفريق بين المعارف ولا بين مراتبها ولا بين الأصول وبين الفروع وجعل الكل في سلة واحدة.
    نعم مضى الكشف عن هذه المغالطة في أكثر من مقامٍ ولا بأس بذكره في سياق آخر فأقول:
    قضايا العقول على ثلاث مراتب: واجب، وممتنع، وجائز الطرفين على سواء،
    1- فأمّا الواجب فكقولهم: العقل يدرك وجوب معرفة الله وأنه خالقه ورازقه ومدبّره..
    فإذا عرف العبد أنّ الله مالكه ومدبّره ضرورة أو نظراً عرف توقيفا أو استدلالا أن عليه الشكر لخالقه، والقيام بذلك لأن الله جبل العقول على شكر المنعم ومحبة المحسن فالله أوجده من العدم وهو أعلى النعم، والشكر إظهار النعمة بالاعتراف بها والقيام بحقها كما قال تعالى: ﴿واشكروا لله إن كنتم إيّاه تعبدون﴾ ﴿اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور﴾ ﴿واشكروا ولا تكفرون﴾ ﴿إنه كان عبدا شكورا﴾ وقال عليه السلام: «أفلا أكون عبدا شكورا».
    2- أما الممتنع فيدرك امتناع اجتماع الضدين أو جمع النقيضين كالجمع بين الجهل والعلم والقدم والحدوث والوجود والعدم وكوجود خالقين وإلهين ونحو ذلك كما سبق في شرح امتناع الشرك..
    3- أما الجائز، فالعقل يدرك أيضا ما يجوز أن يكون، ويجوز أن لا يكون..
    وإذا كان الأمر كذلك فاسأل عقلك أيها القارئ ودع أخاك الجهني في حيرته:
    هل يجوز، أو يمتنع، أو يجب عقلاً: أن يجعل اللهُ و رسوله ﷺ عملا مّا خاصّا به في زمن لجلب مصلحة أو درء مفسدة أو مجرّد الابتلاء والاختبار؟
    لا ريب أنّ عقلك لا يعطيك رتبةَ الامتناع ولا رتبةَ الوجوب لعدم الموجب والمانع؛ فتعيّن أن يكون تخصيص العمل بالله في رتبة الجائزات العقلية.
    وإذا كان التخصيص من الجائزات العقلية فالشرع لا يرد بإحالة الجائز، ولا بتجويز المحال كما تقرّر في مواضعه وفي المشاركات.
    هذا، وتقرّر في المباحث العقدية أن العبادة بأنواعها وأشكالها من شكر المنعم الخالق، والعقل يدرك استحقاق الخالق لذلك، لكن لا يهتدي إلى تعيين العمل الصالح للشكر، ولا كيفية الشكر، فهل يكون في حركة أو سكون؟ أو حركة دون حركة؟ أو سكون دون سكون؟ في حال دون حال؟
    فالباري سبحانه يسحق العبادة على أبلغ وجه، وليس في قدرة الخلق القدر الذي يستحقه، فكما لم يعرفوه حق معرفته ولا قدروه حق قدره لم يعبدوه حقّ عبادته... فاحتيج إلى أمر الله ونهيه وهو الشرع؛ إذ شكر العباد بأجمعهم ناقص بالإضافة إلى جلال الله وعظمته وكبريائه، فكلّ من أثنى فثناؤه قاصر، وقد مُنِع من إطلاق بعض كلمات المدح في الشاهد على الله كالشجاعة والعقل..
    وأسماؤه وكثير من صفاته توقيف، وقد يحسن من الله ما لا يحسن من الخلق لو فعلوه، وقد يكون ما يقوم به العبد شكرا غير لائق لعظمة الله، بل يكون كالاستهزاء بالنسبة إلى عظم نعم الله عليه كمن شكر لملك عظيم على لقمةٍ..
    ولهذا صحّ وحسن الامتنان من الله على عباده بالتخفيف عن التكليف والسؤال له بذلك كما قال تعالى:﴿يريد الله أن يخفّف عنكم﴾ ﴿الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً﴾..
    فكيف للعقل التهدّي إلى أن هذا العمل يرضي الرب أو يسخطه؟ وأنه يحبّ أن يتقرّب إليه؟ أو يعظّم به؟ وأن هذا إجلال وإعظام أو استهانة بالنسبة إلى ربّ الأرباب مالك الرقاب؟
    لا يُدرك هذا إلا من طريق السمع من الله بواسطة الرسل عليهم السلام.
    فاتضح بهذا التقرير:
    أن تخصيص عمل مّا بالله في زمن شكراً من الجائزات العقلية والواقعات الشرعية، فمن تركه فقد كفر النعمة، ومن صرفه لغير الله فقد أشرك لقيام وصف الإشراك به.
    فصور الشرك في العبادة تابع لأفراد العبادة الشرعية، وهي قابلة للتخصيص والاختلاف، وهو قابل في صوره للتجدّد والزيادة كما قال ابن القيم رحمه الله: «والشرك أنواع كثيرة لا يحصيها إلا الله...».
    والآن أيقن أنك تجادل بباطل، أو ارتب إن شئت!!

    أما القارئ فأظنّ أنه قد أدرك أنك تخوض في مسائل السكوت خير لك من الكلام فيها..

    وهذا وقد علّمتني التجارب: أنّ كلّ من خالف النجديين في الأصول فهو كذلك.

    بل، لولا مسألة واحدة لقلت: من خالف النجديين في الأصول فليس بمسلمٍ!!



    يتبع...................... .......................

  12. #52

    افتراضي

    جزاك الله خيرا، وعذرا على قطعي لحبل أفكارك.

    ولكن ما جوابنا على من يستدل بمثل قوله تعالى:”لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون” فجعل العلماء هؤلاء الذين ذكروا في هذه الآية من أهل الفترة الذين يمتحنون يوم القيامة ليستبين سبيلهم، إما إلى الجنة وإما إلى النار.قال الله تعالى:”وما ربك بظلام للعبيد”؟

  13. #53

    افتراضي

    http://www.dorar.net/enc/aqadia/3437

    وهذا الرابط المفيد يتناول قضية أهل الفترة وأقوال العلماء فيهم، وترجيح شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم لكونهم يمتحنون يوم القيامة، وأن هذا الرأي هو اختيار جمهور السلف،

    والله أعلم، وفقني الله وإياك

  14. #54

    افتراضي

    أخي الكريم أبو سيرين

    اختلف الناس في مفهوم أهل الفترة، وفي وجودهم، وأيما كان المعتمد فاتفقوا على أنهم أقسام ولم أر أحداً من أهل السنة صرّح قائلا: إن عبدة الأوثان منهم معذور بالجهل وإنما المشهور أن هذا من رأي بعض الأشعرية ومن تأثر بمذاهبهم وموقفهم عائد إلى رأيهم في حقيقة الكفر ..

    وآمل أن تقرأ كتاب ( تحرير المقال في موازنة الأعمال وحكم غير المكلفين في العقبى والمآل) للقاضي أبي طالب الطرطوشي فإنه أحسن من تكلّم في أهل الفترة وفي أقسامهم وحكمهم في الشرع بناء على الأدلة من الكتاب والسنة حسب اطلاعي..

    وبعدها إن بقي لكم ملحوظات فاطرحوها للمناقشة بارك الله فيكم.

    ولكي لا يخلو المقام من تنبيه أقول:

    حكم من خالف دعوة الأنبياء إلى إخلاص الدين والعبادة لله فأشرك في العبادة فهو كافر مشرك مبشّر بالنار في شرائع الأنبياء والرسل في كل زمان ومكان.

    أما أن الله سبحانه وتعالى كفّرهم وسمّاهم مشركين وأوجب لهم النار قبل الرسالة وشهد عليهم الرسول ﷺ بذلك وأثبت لهم اسم المشركين واستحقاق الوعيد، فالبراهين على القاعدة كثيرة، منها:

    الدليل الأول:

    اسم الشرك والكفر يثبت قبل الرسالة؛ لأننا وجدنا الشرع قد سمّى العرب قبل البعثة بالمشركين، وأطلق عليهم لفظ الكفر، كما قال: ﴿وما أكثر الناس ولو حرصت بالمؤمنين. وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين. وكأين من آية يمرون عليها وهم عنها معرضون. وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون﴾.

    والآية نزلت على أحد القولين فيما كانوا يفعلونه في طوافهم حول البيت وعند التلبية؛ فكانوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك([1]).

    ومن إيمانهم إذا قيل لهم:من خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله وهم مشركون؛ فإيمانهم قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا كما قال ابن عباس ومجاهد.

    فأخبر أنهم يشركون في عبادته مع إقرارهم له بالملك والخلق والتدبير. ولا شكّ أنّ من لم تبلغه الدعوة إلى التوحيد من العرب داخل في الحكم بالشرك.

    وجه الدليل: أن الآية مكية، والدعوة إلى التوحيد في العهد المكي لم تصل على حقيقتها إلا بعض العرب، ومع ذلك سجّل عليهم على أكثرهم بالشرك. وهذا يدلّ على أنّ اسم الشرك لا يختلف في جاهلية ولا إسلام.

    الدليل الثاني:

    أن الله أطلق عليهم اسم المشركين على كثير من العرب قبل البعثة كما في قوله:﴿وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون﴾.

    فأخبر سبحانه أن قتل الأولاد وهو وأد البنات أحياء خيفة العيلة أو العار زُيّن لكثير من المشركين وأطلق عليهم بأنهم مشركون وهؤلاء منتشرون في قبائل العرب وكان الوأد نادراً في قريش، بل قد قيل إنه لم يكن فيهم.

    وقوله:﴿شركاؤهم يعني شركاءهم من الشياطين؛ لأنهم كانوا يعبدونهم في الجاهلية كما في قوله: ﴿إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا﴾. ﴿ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون﴾.

    وجه الدليل: أن المراد بالمشركين في الآية هم غير قريش أو هم وقبائل العرب الأخرى الذين لم تصل إليهم الدعوة على حقيقتها في العهد المكي؛ فالآية تنسحب عليهم قبل البعثة وبعدها.

    الدليل الثالث:

    قوله تعالى:﴿سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء﴾ ﴿وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين﴾.

    أُطلق الإشراك وعبادة غير الله على آباء المشركين وأجدادهم، الذين لم ينذروا بدليل قوله:﴿لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون﴾ وماتوا قبل الإسلام، فإن كانوا من قريش فقد أقرّوا على آبائهم وأجدادهم بالإشراك والكفر، وإن كانوا من سائر العرب فكذلك، والقاعدة :« أنّ كل ما لم يردّه القرآن من الحكايات فهو ثابت» وكيفما كان فقد أطلق اسم الشرك على من لم يرسل إليهم نذير قبل محمد عليه السلام.

    الدليل الرابع:

    قوله تعالى:﴿ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، ولكنّ الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون﴾.

    فإن الله نفى عن نفسه أن يكون قد جعل شيئا من ذلك محرما أو صيّره دينا يتدين به، وأخبر أن الذين كفروا يفترون على الله الكذب في نسبتهم تلك الأحكام إليه.

    ولا ريب أن عمرو بن لحي المخترعَ له داخل فيهم، وكذلك من بعده من العرب المتبعين له على ذلك، وقد أطلق الله عليهم اسم الكفر قبل التكذيب بمحمد عليه السلام بقوله: ﴿ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون﴾.

    الدليل الخامس:

    قوله تعالى: ﴿إنما النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرم الله زين لهم سواء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين﴾.

    والاستدلال بهذه الآية قوي؛ فإن النسيء كان من أعمالهم، وقد أخبر أنه زيادة في الكفر، فجمعت الآية لهم بين أصل الكفر وبين زيادته، واختراع الأحكام، وأن ذلك ليس قاصراً على المشرّعين، بل يندرج في الحكم المنقادون لهم، وهم الذين يدينون به، ويعملون به في التحليل والتحريم للأشهر، من أوّل من فعل إلى أن جاء الله بالإسلام؛ فاستوى في ذلك جميع المشركين من العرب قبل البعثة وبعدها.

    الدليل السادس:

    قوله تعالى ﴿ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين﴾.

    وهذه الآية من أصرح الأدلة على تكفير المشركين في كل زمان ومكان ومنه تكفير أهل الجاهلية الأولى لأن المستفتحين هم اليهود والمستفتح عليهم المكفّرون بقوله:﴿ على الذين كفروا﴾ هم أهل يثرب كفّرهم المولى وما ذاك إلا لعبادتهم الأوثان في الجاهلية كعادة العرب، ولم يكن فيهم نبي يلزمهم الكفر به إذا لم يؤمنوا به ولم يجيبوه، والقاعدة: كل دليل شرعي يمكن أخذه كليا باعتبار المعنى، وإن كان باعتبار اللفظ خاصا.

    وإذا كانوا كفرة قبل محمد عليه السلام مع انتفاء النذارة فماتوا على ذلك لكانوا من أهل الوعيد والخلود في النار.

    والدليل قوله: ﴿واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها﴾.

    قال السدي رحمه الله: «يقول: كنتم على طرف النار، من مات منكم أوبق في النار فبعث الله محمدا ﷺ فاسنتقذكم به من تلك الحفرة».

    وقال مقاتل بن حيان رحمه الله: «أنقذكم الله من الشرك إلى الإيمان».

    وقال الإمام الشافعي (204هـ)رحمه الله: «فكانوا قبل إنقاذه إيّاهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم أهلَ كفرٍ في تفرّقهم واجتماعهم، يجمعهم أعظم الأمور: الكفر بالله، وابتداع ما لم يأذن به الله، تعالى عما يقولون علوا كبيرا لا إله غيره وسبحانه وبحمده، رب كل شيء وخالقه. من حيّ منهم فكما وصف حاله حيا: عاملا قائلا بسخط ربه مزداداً من معصيته.

    ومن مات فكما وصف قوله وعمله: صار إلى عذابه»

    والآية دليل على أنّ أهل يثرب لو هلكوا قبل الرسول لكانوا من أصحاب النار بسبب شركهم وفجورهم.

    الدليل السابع:

    إذا كانوا مشركين كافرين قبل الرسالة فعقوبة المشرك معلومة وهي الخلود في النار كما قال: ﴿وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون﴾.

    والآية في غير قريش أظهر، لأنّهم لم يكونوا أهل حرث وزرع؛ ولهذا قال إبراهيم عليه السلام:﴿ربنا أني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ﴾.

    أخبر أنه يجزيهم بافترائهم عليه، ولا معنى للمجازاة إلا العقوبة، وهذه الافتراء على الله في التحليل والتحريم بيّن الله عقوبته بقوله:﴿وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة﴾ وفيقوله:﴿إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم﴾ وفي قوله:﴿ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عمّا كنتم تفترون﴾.

    فأخبر أنه لا بدّ من السؤال عن ذلك الافتراء في الآخرة، وإذا كانت المسائلة لازمة ولا بدّ منها ترتّب عليه العقاب، وقد نصّ عليه بقوله: ﴿ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون﴾.

    فهذه الآيات وغيرها قد أطلق الله على أهل الأوثان بأنهم مشركون، يفعلون الفواحش زاعمين أن الله أمرهم بها، وأنهم يفترون على الله الكذب في التشريع، وبيّن أن ذلك كله كفر منهم وشرك، وإذا كانوا كفارا فحكم الكفار معلوم وهو المجازاة على ذلك بالنار والتخليد فيها أبدا، وقد صُرِّح به في قوله:﴿لا جرم أن لهم النار ﴾ ﴿سيجزيهم بما كانوا يفترون﴾ ﴿متاع قليل ولهم عذاب أليم﴾.

    وحكم الآيات ينسحب على جميع العرب لأنها مكية والدعوة التوحيدية لم تصل إلى جميع العرب كما ينبغي وإن بلغت على حقيقتها قريشاً ومن جاورها، وإذا انسحبت عليهم؛ فيؤخذ منها أنهم كفار مشركون في جاهليتهم على ظاهر الكتاب.

    الدليل الثامن:

    عمرو بن لحي أبو خزاعة كان أول من سيّب السوائب وجعل البحيرة والوصيلة والحام ونصب الأوثان حول الكعبة وغير الحنيفية دين إبراهيم. فقال عنه عليه السلام: «لقد رأيت يجر قصبه في النار يؤذي بريحه أهل النار».

    وفي حديث آخر:« يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه. فقال أكثم: عسى أن يضرّني شبهه يا رسول الله؟ قال: لا إنك مؤمن، وهو كافر؛ إنه كان أوّل من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي» وفي رواية: «لا إنك مسلم وإنه كافر».

    فدلّت السنة النبوية على ما دلّ عليه الكتاب من تكفيرهم وتعذيبهم قبل الرسالة! ألا ترى كيف نصّ ﷺ على تكفير عمرو وتعذيبه بالنار بهذه الأفعال، ولم يعذر مع كونه في جاهلية لم يأتها نذير قبل محمد عليه السلام؛ فلم ينجه شيء من دخول النار المعدّة للكفار ﴿واتقوا النار التي أعدت للكافرين﴾.

    وإذ صرّحت السنة بأن عمراً كافر مشرك؛ فكلّ من اقتدى به وسلك سبيله أيضا كافر معذّب؛ للعلة المنصوصة في الخبر «غيّر دين إسماعيل فنصب الأوثان» فالعلة تغيير الدين التوحيدي جهلاً؛ والقاعدة في الأصول: «كلّ دليلٍ شرعيّ يمكن أخذه كلِّيا باعتبار المعنى» وهذا التغيير هو الوصف الجامع بين عباد الأصنام وبين عباد المقابر.

    وبهذا يتضح أن جميع من اتبعه على الإشراك من زمانه إلى أن جاء الله بالإسلام كلهم في النار كما كان هو في النار.


    (
    [1]) رواه مسلم وغيره من حديث ابن عباس (1185).

    ([2]) كتاب الرسالة (ص8-12).

  15. #55

    افتراضي

    الدليل التاسع:
    مما يدلّ على تكفير أهل الجاهلية الذين كانوا على هذه الوتيرة قصة صاحب المحجن الذي كان يسرق الحجيج قال ﷺ: «ورأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه، فإذا فطن له قال: إنما تعلّق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به»([1]).
    وهذا لا يكون إلا من أهل الفترة ومن العرب أو أشياعهم؛ فإنّ الحج إنما كان فيهم مشهوراً، وتعذيبه بالنار ليس لسرقته فقط بل لكفره؛ فإنه لا يكون إلا على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان، وإنما ذكر سرقته لوصفه الخاص به حتى يمتاز عن غيره من أهل الشرك؛ ولأن من عذّب في فرعٍ فعذابه بالأصل أولى وأظهر، ولا ينساغ النزاع في هذا.
    الدليل العاشر:
    عبد الله بن جدعان الجاهلي، قالت عائشة رضي الله عنها: «قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إن عبد الله بن جدعان كان في الجاهلية يقري الضيف ويصل الرحم ويفك العاني ويحسن الجوار - فأثنيت عليه هل نفعه ذلك؟ فقال: لا ينفعه يا عائشة إنه لم يقل يوما: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين»([2]).
    قال الإمام القرطبي (656هـ) رحمه الله: «معناه: هل ذلك مخلّصه من عذاب الله المستحق بالكفر؟ فأجابها بنفي ذلك، وعلّله بأنه لم يؤمن، وعبّر عن الإيمان ببعض ما يدلّ عليه وهو قوله: «إنّه لم يقل يوما ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدّين»([3]).
    قلت: ولعله كان من منكري البعث والحساب في يوم الجزاء.
    وجه الحديث: أن ما كان يفعله من الصلة والإطعام ووجوه المكارم لا ينفعه في الآخرة؛ لكونه كافراً مشركاً هلك في الجاهلية فلم تنفع ابن جدعان أخلاقه الكريمة وصلة الأرحام وإطعام المساكين ونصر المظلوم الذي اشتهر به فقد عقد في داره حلف الفضول لسنه وشرفه وشهده النبي ﷺ قبل المبعث فقال في حلف الثاني لنصر المظلوم سواء كان من أهل مكة أو من غيرها: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت».
    وإذا ثبت عقوبة ابن جدعان الذي هلك في الجاهلية بالكفر فغيره من المشركين كذلك لعموم العلة وهو ظاهر جدا، ولا ينازع في هذا بالتحديد إلا من لم يتأمّل جيدا.
    وقال الألباني رحمه الله: «وفيه دليل أيضا على أن أهل الجاهلية الذين ماتوا قبل البعثة المحمدية ليسوا من أهل الفترة الذين لم تبلغهم دعوة الرسل إذ لو كانوا كذلك لم يستحق ابن جدعان العذاب ولما حبط عمله الصالح وفي هذا أحاديث أخرى كثيرة».
    وفيه نظر؛ لأن الله أخبر في كتابه أن الناس كانوا على فترة من الرسل قبل محمد عليه السلام ﴿يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل﴾ وقد جاء في الكتاب العزيز أن الله لم يرسل إلى العرب رسولا قبل محمد ﷺ، وقد علم أن رسالة الأنبياء في غير التوحيد كانت خاصة بأقوامهم فكيف تلزم العرب الذين لم يأتهم نذير قبل النبي ﷺ بنص الكتاب؟
    والصواب أن من تمسك بالتوحيد ولم يشرك بالله نجا في كل وقت كزيد بن عمرو بن نفيل العدوي، ومن أشرك بالله ومات عليه كان من أهل النّار كمشركي العرب قبل الرسالة المحمدية.
    على أن الناس اختلفوا في مفهوم أهل الفترة وفي وجودهم، والذي يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع العلماء قبل بدعة أهل الكلام فيهم أن من أشرك وعبد غير الله كافر معذب مخلد في النار في كلّ زمان ومكان.
    الدليل الحادي عشر:
    حديث أنس رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: «في النار» فلما قفّى دعاه فقال: «إن أبي وأباك في النار»([4]).
    قال الإمام البيهقي (458هـ) رحمه الله: «وكيف لا يكون أبواه وجدّه بهذه الصفة في الآخرة، وكانوا يعبدون الوثن حتى ما توا، ولم يدينوا دين عيسى بن مريم عليه السلام»([5]).
    وقال الإمام ابن هبيرة (560هـ) رحمه الله:
    «إنّ هذا الرجل سأله وهو مؤمن عن أبيه المشرك سؤالا لم يكن فيما أرى في موضعه؛ لأن المؤمن لا يشكّ في أنّ المشرك في النار، ولا يحتاج أن يسأل عن ذلك؛ لأن الله تعالى:﴿إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنّم خالدين فيها أولئك هم شرّ البرية﴾، إلا أنّ رسول الله ﷺ لما سأله هذا السائل أجابه بمرّ الحقّ في ذلك، فلما ولّى عنه أراد ﷺ أن يلقنه أن يتأسّى به في الرّضا بأمر الله سبحانه عنه في أقضيته؛ فقال له: وأبي أنا أيضا في النار، فيكون هذا الجواب كافيا لكلّ من يختلج من ذلك في صدره أمر بعده، فإنه لو كان ولدٌ ينفع والداً مشركاً لكان الأولى بذلك رسول ﷺ فلما صرّح بأن أباه في النار قطع بهذه الكلمة ظنون الظانين إلى يوم القيامة»([6]).
    وترجم له القاضي عياض(544هـ) والنووي (676هـ): «باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين» وأبو القرطبي (656هـ):«باب من لم يؤمن لم ينفعه عمل صالح ولا قربة في الآخرة» .
    ثم قال النووي في الشرح: «فيه أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين، وفيه أنّ من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار. وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة؛ فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء»([7]).
    وقال العلامة القاري في شرح المشكاة: «وهذا يدل على أن النووي يكتفي في وجوب الإيمان على كل أحد ببلوغه دعوة من قبله من الرسل، وإن لم يكن مرسلاً إليه، وإلى ذلك ذهب الحليمي، كما صرح به في منهاجه».
    وفي قوله «إن أبي وأباك في النار»: جبر للرجل مما أصابه، وأحاله على التأسِّي، حتى تهون عليه مصيبته بأبيه، وذلك لمّا حفظ الحرمة، ولم يقل: أين أبوك؟ بخلاف من قال ذلك للنبيﷺ، فقال له: «حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار» فكان الرّجل يفعل ذلك، فشقّ عليه حتّى قال: لقد كلّفني رسول الله ﷺ شططا([8]).
    وقال القاضي عياض والنووي: من أعظم حسن الخلق والمعاشرة والتسلية؛ لأنّه لما أخبره بما أخبره ورآه عظم عليه أخبره أنّ مصيبته تذلك كمصيبته ليتأسى به([9]) لأنه إذا كان أبو النبي ﷺ في النار، كان أبو السائل أولى به.
    لكن فما ذنب ابن عبد المطلب يا ترى رغم موته في الشبيبة؟
    إنه كان على ملّة قومه من عبادة الأوثان، فعُلِم أنّ الحكم ليس مقصوراً على والد المختار ﷺ، ووالد السّائل لأن الحكم يعم بعموم علته.
    الدليل الثاني عشر:
    حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «زار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يأذن لي». وفي رواية: «إني استأذنت ربي في استغفاري لأمي فلم يأذن لي فبكيت لها رحمة لها من النار». وفي أخرى: «إني استأذنت ربي في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي فدمعت عيناي رحمه لها من النار»([10]).
    لأنّ المرء إذا مات على الشرك لم يجز الاستغفار له إذ لا يغفر له أصلا لأنه قد سدّ على نفسه باب الرحمة والمغفرة. قال جلّ ذكره:﴿إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله ثمّ ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم﴾ وقال في من يسرّ الكفر:﴿سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم﴾.
    وهل ذنب آمنة والدة النبي ﷺ إلا ذنب غيرها من العرب عبدة الأوثان؟
    الدليل الثالث عشر:
    أم سلمة بن يزيد الجعفي كانت قد هلكت في الجاهلية وكذا أخت سلمة فجاء في الأخبار أنهما في النار على ما جاء في حديث ابن مسعود وسلمة بن يزيد رضي الله عنهما قال: ابنا مليكة الجعفيان: أتينا رسول الله ﷺ فقلنا يا رسول الله أخبرنا عن أمّ لنا ماتت في الجاهلية كانت تصل الرحم وتصدق وتفعل وتفعل هل ينفعها ذلك شيئا؟ قال: «لا».
    قال: فإنها وأدت أختاً لنا في الجاهلية فهل ينفع ذلك أختنا؟ قال: «لا، الوائدة والموؤدة في النار إلا أنّ تدرك الوائدة الإسلام فتسلم» فلما رأى ما دخل عليهما قال: «وأمي مع أمكما».
    وفي رواية: سألت النبي ﷺ قلت: إن أمي ماتت وكانت تقري الضيف وتطعم الجار واليتيم، وكانت وأدت وأدا في الجاهلية ولي سعة من مالٍ أفينفعها إن تصدّقت عنها؟
    فقال رسول الله ﷺ: «لا ينفع الإسلام إلا من أدركه إنها وما وأدت في النار». قال: فرأى ذلك قد شقّ عليّ، فقال: «وأمّ محمد معهما، ما فيهما من خير»([11]).
    قال الإمام البيهقي (458هـ) رحمه الله: «وهذا أيضا يصرح بحكمها في الآخرة ، وأنها لم تولد على الإسلام».
    الشاهد منه ما يوافق الأخبار في تعذيب المشركين بقبائحهم الشركية، وفيه وفي حديث جابر دلالة على تعذيبهم بالفروع، ولا إشكال في تعذيب الموءودة إن كانت عاقلة بالغة بالاتفاق، أو عاقلة على مذهب الجمهور، وإلا فالإشكال ظاهر، ولا يعدم الناظر وجها دافعا إن شاء الله.
    الدليل الرابع عشر:
    عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إن أبي كان يصل الرّحم وكان وكان فأين هو؟ قال: «في النار» قال فكأنه وجد من ذلك، فقال يا رسول الله فأين أبوك؟ فقال رسول الله: «حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار» قال فأسلم الأعرابي بعد، وقال: لقد كلفني رسول الله ﷺ تعبا: ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار».
    وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال: يا نبي الله، إن أبي كان يكفل الأيتام، ويصل الأرحام، ويفعل كذا، فأين مدخله؟
    قال: «هلك أبوك في الجاهلية؟» قال: نعم، قال: «فمدخله النار» قال: فغضب الأعرابي، وقال: فأين مدخل أبيك؟ فقال له النبي ﷺ: «حيث ما مررت بقبر كافر فبشره بالنار». ثمّ إنّ الأعرابي أسلم قال: لقد كلفني رسول الله ﷺ تعبا: ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار([12]).
    والحديث دليل صريح في تكفير المشركين في كلّ زمان ومكان حيث أصّل تلك القاعدة «حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار» وهو نصّ في أن علة التعذيب والتبشير بالنار: الشرك، سواء كان قبل الرسالة وهو موضوع الحديث أو بعدها...
    وفيه: إثبات اسم المشرك قبل الرسالة الخاصة لقيام وصف الشرك بالفاعل.
    وفيه: استحقاق المشرك التعذيب بالنار بسب شركه سواء كان قبل البعثة أو بعدها.
    وفيه: استحباب البشارة بالنار لمن علم أنه مات على الشرك في أي زمان.
    وفيه: أن النادر يلحق بالغالب في الحكم إلا إذا علم بدليل خاص أنه مخالف للأكثرية لأن الحنيفي كان نادرا في العرب لذلك أطلق عليهم التكفير والشهادة بالنار.
    وفيه: أن من عرف بالشرك ثم مات ينسحب عليه حكم الشرك والكفر والتبشير بالنار والشهادة عليه ولا يقال: لعله تاب عند موته لأنه يقال: لعله لم يتب ومن عرف بشيء فهو عليه حتى تقوم بينة بخلافه كما قال الإمام الشافعي.
    وللعلامة ابن القيم (751هـ) رحمه الله تعليق نفيس عليه قال: «فيه دليل على أن من مات مشركا فهو في النار، وإن مات قبل البعثة؛ لأن المشركين كانوا قد غيّروا الحنيفية دينَ إبراهيم، واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلوما من دين الرسل كلهم، من أولهم إلى آخرهم؛ فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها؛ فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل».
    وهذا أشدّ وأغلظ من مذهب النجديين، وفيه إثبات اسم المشرك والجزم بالتعذيب بالنار قبل الرسالة الخاصة من ابن القيم.
    الدليل الخامس عشر:
    قال ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله ﷺ: «لا تفتخروا بآبائكم الذين ماتوا في الجاهلية، فو الذي نفسي بيده لما يُدَهدِهُ الجُعَل بمنخريه خير من آبائكم الَّذين ماتوا في الجاهلية»([13]).
    وهذا حكم عامّ في أهل الشرك من أنهم أحقر من المستقذرات لأن الشرك نجاسة معنوية وما يدهده الجعل حسيّة، والمعنوية أخبث وأشدّ لما يلحقها من الأحكام في المال والنفس والعرض والخلود في النيران.
    الدليل السادس عشر:
    عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إن عمي هشام بن المغيرة كان يطعم الطعام، ويصل الرحم، ويفعل ويفعل، فلو أدركك أسلم.
    فقال رسول اللهﷺ: «كان يعطي للدنيا وحمدها وذكرها وما قال يوما قطّ: اللهم اغفر لي يوم الدين»([14]).
    وفي رواية عنها: أنّ الحارث بن هشام أتى النبي ﷺ يوم حجة الوداع فقال: يا رسول الله، إنّك تحثّ على صلة الرّحم، والإحسان إلى الجار، وإيواء اليتيم، وإطعام الضيف، وإطعام المسكين، وكلّ هذا كان يفعله هشام بن المغيرة، فما ظنك به يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ:«كلّ قبر، لا يشهد صاحبه أن لا إله إلا الله، فهو جذوة من النار..»([15]).
    وهو كحديث عائشة في ابن جدعان في المعنى، وفيه قاعدة عامة في أهل الشرك كحديث الأعرابي «حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار» وهنا «فهو جذوة من النار» ويشهد أحدهما للآخر.
    الدليل السابع عشر:
    عن أبي رزين العقيلي قلت: يا رسول الله، إنّ أمي كانت تصل الرحم وتفعل وتفعل، وماتت مشركة، فأين هي؟ قال: «هي في النار».
    قلت: يا رسول الله، فأين من مضى من أهلك؟ قال: «أما ترضى أن تكون أمك مع أمي»([16]).
    وفي رواية: قلت يا رسول الله هل لأحدٍ ممن قد مضى من خير في جاهليّتهم؟ فقال رجل من عرض قريش: والله إن أباك المنتفق لفي النار. قال: فكأنه وقع نار بين جلد وجهي ولحمه مما قال لأبي على رؤوس الناس، فهممت أن أقول: وأبوك يا رسول الله! ثم نظرت فإذا الأخرى أجمل، فقلت: وأهلك يا رسول الله؟ قال: «وأهلي، ما أتيت عليه من قبر عامري أو قرشي من مشرك، فقل: أرسلني إليك محمد ﷺ ([17]) فأبشر بما يسوؤك، تجرّ على وجهك وبطنك في النار».
    قلت: يا رسول الله، وما فَعل ذلك بهم! وكانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه، وكانوا يحسبون أنهم مصلحون؟ قال: «ذلك بأنّ الله تبارك وتعالى بعث في آخر كل سبع أمم نبيّا، فمن عصى نبيّه كان من الضالين، ومن أطاعه كان من المهتدين».
    وهذا دليل على أنّهم كانوا جهلة يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً مع ذلك أخبر ﷺ بأنهم من أهل النار وأنّهم يبشّرون بها ومنهم من مضى من أهل النبي ﷺ.
    الدليل الثامن عشر:
    قال عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أنّ رسول الله ﷺ قال ذات يوم في خطبته: «ألا إنّ ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا. كل مال نحلته عبدا حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب..»([18]).
    وفيه دليل صريح على أنّ جاهل التوحيد المتلبِّس بالشرك لا يعذر بالجهالة، وأنّه ممقوت عند الله، مغضوب عليه بسبب شركه وخبث اعتقاده..
    وإلا فقل لي بربك كيف يكون المعذور في الفترة مغضوبا عليه مممقوتا؟
    وقال العلماء في شرح الحديث:
    معنى قوله: «أني خلقت عبادي حنفاء» أي مستعدين لقبول الحق والميل عن الضلال إلى الاستقامة.
    والشياطين التي اجتالتهم عن الدين شياطين الإنس من الآباء والمعلّمين بتعليمهم وتدريبهم، وشياطين الجن بوساوسهم.
    والاجتيال: صرفهم عن مقتضى الفطرة الأصلية كما في قوله^: «فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» يعني بما يلقي إليه الشيطان من الباطل والفساد المناقض لفطرة الإسلام.
    وقوله: «وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» يعني أمرتهم بالشرك بالله بعبادة ما لم يأمر الله بعبادته ولم ينصب دليلا على استحقاقه للعبادة، ولما لم تكن الحجج الباهرة والبراهين القاطعة متلقاة إلا من قبل الله ردّ عليهم بقوله: «ما لم أنزل به سلطانا» أن يكون لأحد منهم في الإشراك بالله تعلّة. ويراد به الأصنام وسائر ما عبد من دون الله. قالوا: في هذا السياق تهكم إذ لا يجوز على الله أن ينزل برهاناً بأن يشرك به غيره.
    وقوله: «ثم نظر إلى أهل الأرض» رآهم ووجدهم متّفقين على الشّرك منهمكين في الضلالة. والمقت أشدّ البغض والغضب والمراد بهذا المقت والنظر: ما قبل بعثة رسول الله ﷺ؛ لأن العرب كانت حينئذ ضُلّالا والعجم.
    والمراد ببقايا من أهل الكتاب هم الباقون على الملة القويمة من الفرقة الناجية من النصارى لأن اليهود بعد المسيح عليه السلام كفروا به فلا بدّ من دخولهم في الذم والمقت ([19]).


    ([1]) رواه مسلم (904) وأحمد (14470) وأبو داود (1178) والنسائي في الكبرى (1869)وغيرهم من حديث جاير وفيه طول.


    ([2]) مسلم رقم (214) وأحمد (6/93،120).انظر الصحيحة (249).


    ([3]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/459).


    ([4]) رواه مسلم وأبو داود وأحمد وابن حبان وأبو عوانة وأبو يعلى والبيهقي.


    ([5]) دلائل النبوة (1/192- 193).


    ([6]) الإفصاح عن معاني الصحاح (5/359-360).


    ([7]) شرح صحيح مسلم (2/82).


    ([8]) المفهم شرح مسلم (1/460).


    ([9]) انظر: إكمال المعلم (1/591) وشرح القرطبي (1/460) وشرح النووي (2/82).


    ([10]) رواه مسلم والإمام أحمد والطحاوي والطبراني وابن حبان والحاكم والبيهقي وغيرهم.


    ([11]) أخرجه الطيالسي (1402) وأحمد (3/478) وأبو داود (4717) والنسائي في الكبرى (11649) والبزار (1596) والطبراني (6319،6320،10059) والبخاري في التاريخ (4/72-73) والحاكم والبيهقي في القضاء والقدر (558-562) وغيرهم.

    وهو حديث صحيح على اختلاف في إسناده كما في علل الدارقطني (794). قال البيهقي: «ويحتمل أن يكون سمعه علقمة من عبد الله، ومن غيره».
    قال الحافظ ابن كثير في التفسير: «إسناده حسن» والهيثمي: «رجال أحمد رجال الصحيح» .
    وصححه الألباني في الجامع الصغير (7020)، وصحح إسناده الطرهوني في السيرة الذهبية (1/133-134).

    ([12]) أخرجه عبد الرزاق (19687) وابن ماجه (1573) والبزار (1089) والطبراني في الكبير (1/رقم 326) وعنه أبو نعيم في الصحابة (540) وابن السني في عمل اليوم والليلة (595) والبيهقي في الدلائل (1/191-192) والقاضي المارستان في المشيخة الكبرى (254) والضياء المقدسي في المختارة (1005).

    صحّحه الضياء المقدسي، والألباني في الصحيحة (18) والطرهوني في السيرة النبوية (462) وقال البوصيري في الزوائد (529): «إسناد صحيح، محمد بن إسماعيل شيخ ابن ماجه ذكره ابن حبان في الثقات، وثقه الدارقطني والذهبي، وباقي رجال الإسناد على شرط الشيخين فقد احتجا بجميع رواته».
    وقال الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح» مجمع الزوائد (1/117-118).
    وقال السيوطي في «الحاوي للفتاوى» (2/273): «إسناده على شرط الشيخين».
    وانظر: علل ابن أبي حاتم (2263) وعلل الدارقطني (607) وأطراف الغرائب والأفراد (492).
    مدار الحديث على الزهري واختلف عنه وله طريقان:
    الأولى: إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبي قاص رضي الله عنه.
    رواه على هذا الوجه عن إبراهيم بن سعد جماعة، منهم: محمد بن موسى بن أبي نعيم الواسطي، وأبو نعيم الفضل بن دكين، والوليد بن عطاء بن الأغر، ويزيد بن هارون الواسطي.
    لكن اختلف على يزيد؛ فقال: زيدُ بن أخزم ، ومحمد بن عثمان بن مخلد عنه ما سبق.
    خالفهما محمد بن إسماعيل شيخ ابن ماجه فقال: يزيد بن هارون عن إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه به وهي رواية شاذة لمخالفة ابن سماعيل للجماعة في طبقتين.
    الثاني: معمر عن الزهري عن النبي مرسلا. ومعمر من أثبت الناس في الزهري لكن الموصول لا يعلّ بالمرسل؛ لأنّ من عادة معمر إرسال الحديث تارة وإسناده تارة أخرى لاسيما عن الزهري، وكل ذلك صحيح عنه كما قال الإمام عبد الرزاق: «إن معمراً كان يحدّثهم بالحديث مرة مرسلا، فيكتبونه، ويحدّثهم مرة به فيسنده، فيكتبونه، وكلّ صحيح عندنا. قال عبد الرزاق: فلما قدم ابن المبارك على معمر أسند له معمر أحاديث كان يوقفها» سنن أبي داود (4513).
    ولهذا فأنا إلى تصحيح الحديث الذي اختاره الضياء أميل، ولا أري ترجيح الرازي والدارقطني لرواية الإرسال لأمرين:
    الأول: ما ذكرته من منهج معمر في الإرسال والإيصال وأنّ الكلّ صحيح لا يعلّ أحدهما بالآخر. والظاهر أن هذا الخبر من ذاك الباب.
    الثاني: أن ما ذكراه من الرواية المرسلة عن إبراهيم بن سعد لم أعثر له على أثر.
    قال الدارقطني: «وغيره يرويه عن إبراهيم بن سعد عن الزهري مرسلا. وهو الصواب».
    ولم أجد هذا، على أنه فاته حديث يزيد بن هارون الواسطي، ولعل أبا الحسن تابع الرازي في قوله:
    «كذا رواه يزيد، وابن أبي نعيم، ولا أعلم أحداً يجاوز به الزهري غيرهما إنما يروونه عن الزهري قال: جاء أعرابي إلى النبي ﷺ، والمرسل أشبه».
    وفاته حديث الوليد بن عطاء بن الأغر، وأبو نعيم الفضل بن كين، ومع هذا الفوات عليهما وظهور وجه الإرسال في وراية معمر؛ فالحديث صحيح بلا ريب.
    أما تصحيح البوصيري وبشار عواد معروف إسناد ابن ماجه فليس بجيّد.

    ([13]) رواه الطيالسي (2682) وأحمد (2739) وابن حبان (5775) والطبراني في الكبير (11861، 11862) والأوسط (2578، 7107) والبيهقي في الشعب (5129) من طرق ثلاثة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس به.

    قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح. وصحّح أحمد شاكر في تحقيق المسند، والطرهوني إسناده في السيرة النبوية (834) وهو كما قالوا.
    أما إرسال معمر في جامعه (20941) عن أيوب عن عكرمة به فليس بشذوذ ولا بعلة في الموصول بل من منهجه المعروف عند أهل الحديث في إرسال الحديث المسند.

    ([14]) رواه أبو يعلى (12/401) والطبراني في الكبير (23/391) بإسناد صحيح.


    ([15]) رواه الطبراني في الكبير (23/405) والأوسط (7/241) بإسناد ضعيف


    ([16]) رواه الطيالسي (1186) وأحمد (16290) وابن أبي عاصم في السنة(650) والطبراني (19/رقم 471) من طريق شعبة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين به.

    وهذا إسناد صحيح فإن وكيع بن حدس صحح له الترمذي حديث (2279) وحسّن له (3109) وصحح له ابن حبان (14/8) ووثقه في الثقات (5/496) وقال في مشاهير علماء الأمصار (ص124):«من الأثبات» وقال الجوزقاني في الصحاح والمشاهير (1/232):«صدوق صالح الحديث» ولم يجرّح مع روايته عن عمّه أبي رزين العقيلي.

    ([17]) قال ابن القيم: «إرسال تقريع وتوبيخ لا تبليغ أمر ونهي» زاد المعاد (3/599).


    ([18]) رواه مسلم (2864) وأحمد في مواضع (17519، 18366،18364) والنسائي في الكبرى (8070-8071) وابن ماجه (4179) والطيالسي (1175) وابن حبان (653- 654) والبخاري في خلق الأفعال (48) والطبراني (992، 993، 996، 997) وغيرهم


    ([19]) ينظر: المعلم بفوائد مسلم (3/205) الميسَّر في شرح المصابيح (3/1126) تحفة الأبرار في شرح المصابيح(3/230) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/712) شرح مسلم للنووي (9/202 203) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح (10/38-39).

  16. #56

    افتراضي

    الدليل التاسع عشر:
    الإجماع على تكفير أهل الأوثان وعدم إعذارهم بالجهل فقد حكى جماعة من العلماء الإجماع على تكفير المشركين وأنهم من أهل النار وأنه لا يعذر أحد في عبادة غير الله.
    1- قال الإمام أبو زيد الدبوسي (430هـ) رحمه الله:
    «ألا ترى أنّ العبادات، كما سقطت بعذر الصِّبا، سقطت بعذر الجهل، عمن أسلم في دار الحرب ولم يعلم بالعبادات. فأما إذا اعتقد إلها آخر، أو ما يكون كفراً من وصْفه ربَّه بما لا يليق به فلا يكون معذورا فيه».
    وقال في حقّ من لم تبلغه الرسالة: «فكيف ينكر هذا، والله تعالى يحكي عن الكفرة:﴿ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله﴾ وكذلك لا نرى أحدا من الكفار إلا ويخبر عن الصانع، وإنما كفرهم كان بوصفهم الله تعالى بما لا يليق به، من الولد والشريك، وغلّ الأيدي، ونحوها مما حكى الله عز وجل عنهم، والعذر بلا خلاف منقطع عن مثله. أو كان الكفر بإنكارهم البعثَ للجزاء»([1]).
    فتأمل نفي الخلاف في عدم العذر بالجهل في الشرك ووصف الله بما لا يليق من الولد وغلّ الأيدي أو إنكار البعث ونحوها من المسائل قبل الرسالة.
    2-الإمام الغزالي (505هـ) رحمه الله: «وعبادة المخلوق كفر، وعبادة الصنم كانت كفراً؛ لأنه مخلوق، وكان مخلوقا لأنه جسم؛ فمن عبد جسما فهو كافر بإجماع الأئمة السلف منهم والخلف، سواء كان ذلك الجسم كثيفا، كالجبال الصمّ الصلاب، أو لطيفا كالهواء والماء، وسواء كان مظلما كالأرض، أو مشرقا كالشمس والقمر والكواكب، أو مشفّا لا لون له كالهواء، أو عظيما كالعرش والكرسي والسماء، أو صغيرا كالذرة والهباء، أو جمادا كالحجارة أو حيوانا كالإنسان»([2]).
    وجه الاستشهاد الإطلاق وعدم التفصيل في القضية.
    3- الإمام القرافي (684هـ) رحمه الله:
    «إن قواعد العقائد كان الناس في الجاهلية مكلفين بها إجماعا؛ ولذلك انعقد الإجماع على أن موتاهم في النار يعذّبون على كفرهم ولولا التكليف لما عذّبوا»([3]).
    وقال رحمه الله أيضا: «إنّ أصول الدّيانات مهمّة عظيمة فلذلك شرع الله تعالى فيها الإكراه دون غيره؛ فيكره على الإسلام بالسيف والقتال والقتل وأخذ الأموال والذراري وذلك أعظم الإكراه.
    وإذا حصل الإيمان في هذه الحالة اعتبر في ظاهر الشرع، وغيره لو وقع بهذه الأسباب لم يعتبر؛ ولذلك لم يعذر الله بالجهل في أصول الدين إجماعا...
    وظواهر النصوص تقتضي أنه من لم يؤمن بالله ورسوله ويعمل صالحا فإنّ له نار جهنّم خالداً فيها. وقياس الخصم الأصولَ على الفروع غلط لعظم التفاوت بينهما»([4]).
    وفي موضوع آخر: «إجماع الأمة على أنّ المعاصرين لرسول الله كانوا مكلفين بالإيمان بالشرائع المتقدّمة، وكذلك انعقد الإجماع على أنّ كفّارهم في النار، ولولا التكليف لم يؤاخذوا بالكفر؛ فيكون أهل ذلك العصر بجملتهم مكلفين بشرع من قبلهم..»([5]).
    وقال أيضا رحمه الله: «لم يكن للجاهلية زمان فترة لإجماع الأمة على أن من لم يسلم منهم ومات قبل النبوة فإنه في النار، وأهل الفترة لا يجزم بأنهم في النار لقوله تعالى: ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾»([6]).
    4- الإمام الرازي (606هـ) رحمه الله: «أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقرّبهم إلى الله تعالى»([7]).
    5- الإمام أبو حيان الأندلسي (745هـ) رحمه الله: «وقد حكي عن عباد الأوثان قولهم: ﴿ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى﴾.
    وأجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله كفر، سواء اعتقد كونه إلها للعالم، أو أنّ عبادته تقرّب إلى الله»([8]).
    6- العلامة أبو عبد الله السنوسي (895هـ):
    «قد أطبقت رسل المولى تبارك وتعالى وأجمعوا كلهم من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى خاتم النبيين وسيد المرسلين نبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم على أن الله كلف عبيده بتوحيده وحرّم عليهم الشرك في ألوهيته وعبادته، وبلّغوا عن المولى تبارك وتعالى أن من ابتلي بهذا المحرّم - وهو الشرك في الألوهية والعبادة- ومات على ذلك فهو محروم من جميع نعم الآخرة مخلد في العذاب العظيم إلى غير نهاية»([9]).
    وقال في شرك المجوس والنصارى والجاهلية الأولى والجاهلية المتأخرة:
    «وحكم الأربعةِ الأُوَلِ الكفر بإجماع -مراده بالأربعة الأول: كفر الاستقلال، وكفر التبعيض، وكفر التقريب، وكفر التقليد- ولم يجعل الشرع التأويل ولا التقليد في الكفر الصريح عذراً لصاحبه لإمكان معرفة الخطأ فيه بأدنى نظر، وإنما اختلفوا فيمن قال قولا يلزم عنه النقص أو الكفر لزوما خفيا لم يشعر به قائله..»([10]).
    7- شيخ الإسلام (728هـ) رحمه الله:
    «من استغاث بميت، أو غائب من البشر، بحيث يدعوه في الشدائد والكربات، ويطلب منه فضاء الحوائج، فيقول: يا سيّدي الشيخ فلان! أنا في حسبك وجوارك، أو يقول: عند هجوم العدوّ عليه: يا سيدي فلان! يستوحيه ويستغيث به، أو يقول ذلك عند مرضه وفقره وغير ذلك من حاجاته-: فإن هذا ضال جاهل مشرك عاص لله باتفاق المسلمين؛ فإنهم متفقون على أن الميت لا يدعى ولا يطلب منه شيء سواء كان نبيا أو شيخا أو غير ذلك»([11]).
    8- العلامة الفقيه الموزعي الشافعي (825هـ) رحمه الله:
    «قد أحاط العلم بأن الله سبحانه كلّف قومه قريشا الإيمانَ واتباعَ ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم ولهذا أجمعت الأمة على تعذيب من مات منهم كافرا قبل البعثة»([12]).

    نصوص وإجماع في أن من عبد غير الله وأشرك به أنه كافر مشرك مخلد في النار في أي زمن كان وأيا كان المخلوق المعبود وأن ذلك ليس فيه خلاف بين سلف الأمة.
    ولنختم الفصل بكلام بعض الأئمة في الموضوع.
    1- قال الإمام الشافعي (204هـ)رحمه الله في حكم الجاهلية قبل البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم: «..وأن محمدا عبده ورسوله، بعثه والناس صنفان:
    أحدهما: أهل كتاب بدّلوا من أحكامه وكفروا بالله فافتعلوا كذبا صاغوه بألسنتهم فخلطوه بحق الله الذي أنزل إليهم...
    وصنف كفروا بالله فابتدعوا ما لم يأذن به الله ونصبوا بأيدهم حجارة وخشبا وصورا استحسنوها ونبزوا أسماءً افتعلوها ودعوها آلهة عبدوها، فإذا استحسنوا غير ما عبدوا منها ألقوه ونصبوا بأيديهم غيره فعبدوه، فأولئك العرب.
    وسلكت طائفة من العجم سبيلهم في هذا وفي عبادة ما استحسنوا من حوت ودابة ونجم وغيره... وقال في جماعتهم يذكّرهم من نعمه ويخبرهم ضلالتهم عامة، ومنّه على من آمن منهم ﴿واذكروا نعمه الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حرفة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون﴾.
    فكانوا قبل إنقاذه إيّاهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم أهلَ كفرٍ في تفرّقهم واجتماعهم، يجمعهم أعظم الأمور: الكفر بالله، وابتداع ما لم يأذن به الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا لا إله غيره وسبحانه وبحمده، رب كل شيء وخالقه.
    من حيّ منهم فكما وصف حاله حيا: عاملا قائلا بسخط ربه مزداداً من معصيته.
    ومن مات فكما وصف قوله وعمله: صار إلى عذابه.
    فلما بلغ الكتاب أجله فحقّ قضاءُ الله بإظهار دينه الذي اصطفى بعد استعلاء معصيته التي لم يرض: فتح أبواب سماواته برحمته، كما لم يزل يجري في سابق علمه عند نزول قضائه في القرون الخالية: قضاؤه؛ فإنه تبارك وتعالى يقول:﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين﴾»([13]).
    فهذا الحكم من الإمام في أهل الجاهلية في مقدمة كتاب «الرسالة» التي انتشر في علماء الأمة وأئمة الإسلام هل رأيت سنيّا أنكره وانتقده؟
    2- وقال العلامة ابن القيم (751هـ) رحمه الله:
    «إن من مات مشركا فهو في النار، وإن مات قبل البعثة؛ لأن المشركين كانوا قد غيّروا الحنيفية دينَ إبراهيم واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه وليس معهم حجة من الله به وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلوما من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل»([14]).
    3- قال القاضي أبو طالب (608هـ)رحمه الله في خلاصة البحث في أهل الفترة ومن لم تبلغهم الدعوة: «إنا قد أعطينا قاعدتين يرجع إليهما حال جميعهم قبل الإسلام وبعده.
    فالقاعدة التي قبل الإسلام هي قضية أهل الفترة وانقسامهم إلى مشرك وغير مشرك فالمشرك لم يعذره الله بسبب إشراكه، وغير المشرك عذره فلم يعذبه، ولا فرق في هذا بين العرب وبين كافة الخلق كلهم، فكما انقسم العرب إلى هذين القسمين فكذلك ينقسم سائر الخلق بعينهما لا محالة..»([15]).
    4- الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله قسّمهم أيضا إلى ذلك: «وقسم لابس ما عليه أهل عصره من عبادة غير الله والتحريم والتحليل بالرأي ووافقهم في اعتقاد ما اعتقدوه من الباطل؛ فهؤلاء قد نصّ العلماء على أنهم غير معذورين وأنهم مشاركون لأهل عصرهم في المؤاخذة، لأنهم وافقوهم في العمل والموالاة والمعاداة على تلك الشرعة فصاروا من أهلها...»([16]).

    هذا آخر ما أمكن إيراده بحمد الله.



    ([1]) تقويم أصول الفقه وتحديد أدلة الشرع (3/528؛ 532).


    ([2]) إلجام العوام عن علم الكلام (صـ29).


    ([3]) شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول(ص276).


    ([4]) شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول (415).


    ([5]) نفائس الأصول شرح المحصول (6/2362).


    ([6]) نفائس الأصول (6/2363).


    ([7]) التفسير الكبير (14/232).


    ([8]) البحر المحيط (4/377).


    ([9]) شرح المقدمات (ص96).


    ([10]) شرح المقدمات للسنوسي(ص100).


    ([11]) جامع المسائل(3/144-145).


    ([12]) الاستعداد لرتبة الاجتهاد (2/833).


    ([13]) الرسالة للشافعي (ص8-12).


    ([14]) زاد المعاد في هدي خير العباد (3/599).


    ([15]) تحرير المقال في موازنة الأعمال (2/610-).


    ([16]) الاعتصام (1/272-273).

  17. #57

    افتراضي

    الثالثة والثلاثون:

    من عَبَد الله بما لم يشرع فليس بعابد لله لعدم الأمر به، ولا بمشرك لعدم الإشراك، ولعدم ملاحظة غير الله فيه.

    قال شيخ الإسلام رحمه الله:

    «باستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبّها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع... وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لا بدّ أن تكون مأمورا بها، فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه عبادة...» مجموع الفتاوى (29/16-18).

    ومن أتى بما هو قربة في الأصل من غير نية فليس بعابد لله ولا عمله عبادة لانتفاء الشرط (الإخلاص) وانتفاء الشرط يوجب انتفاء المشروط ﴿وما أمروا إلا ليعدوا الله مخلصين له الدين﴾﴿فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص﴾ وقد مرّت معنا قاعدة الفرق بين المأمور به وبين المنهي عنه.

    والقول بأن من خضع لغير الله بالخضوع الخاصّ بما لم يشرع فهو مشرك..
    من البطلان بمكان، أما الخضوع الخاصّ فإن كان اضطرارياً فلا يتعلّق به تكليف لأن القاعدة: أن التكليف لا يكون إلا بمكتسب مقدور. وإن كان الخضوع اختيارياً فلا يكون خاصّا بالله إلا بمخصّص من الشارع لأنّ الخضوع جنس تحته أنواع. وقد منعتَ أن يكون اختيارياً، وأن يكون شرعيّا، وأن يكون غير الخضوع الخاص القلبي عبادةً؛ فبطل كلامك على كل تقدير.
    ومن العجائب: الحكم بكونه مشركا كافراً بهذا الخضوع الذي لا يقع تحت سلطة الأمر والنهي؛ لأنّ التكفير شرعيّ يحتاج إلى دليل شرعيّ إجماعاً، ولا عبرة بمن قال بالمأخذ العقلي في التكفير؛ فلا يكون هذا مشركاً شرعاً حتى يكون العمل الظاهر من خصائص الله، أو يستدلّ بالظاهر على مناط كفريّ آخر يقتضي الكفر لأنه تقرّر في قضايا التكفير أن الأعمال التي هي كفر بذاتها تستلزم الكفر الباطن، والأعمال التي ليست بكفرٍ لذاتها قد تستدلّ على الكفر بالباطن كما يستدل الفقهاء ببعض الأعمال الظاهرة على الاستحلال والاستخفاف والتكذيب ...

    عبادة الله وحده أصل لا يختلف ولا يتغيّر من زمن لآخر، والعبادة الشرعية: الخضوع لله بالجوارح والقلوب بما أمر به في شرائع أنبيائه، وأنواعها وأفرادها قد تختلف من شريعة لأخرى كما سبق ولا حاجة إلى التكرار أكثر من اللازم.
    ولا نطيل الكلام في هذه القضية مع من لا يفهم الفرق بين جنس الظلم أو حقيقة الظلم الذي هو وضع الشيء في غير موضعه وبين أنواع الظلم في حقوق الله وحقوق العباد، وفي الدماء والأبضاع والأموال، وبين هذا الظلم المعيّن...ولا يفرّق بين جنس الإحسان وبين أنواع الإحسان وبين هذا الإحسان المعيّن المشخّص.. وبين جنس الشكر وبين أنواع وأفراد الشكر..

    فأَرِنِيْ بربك - ظلماً أو إحسانا أو شكراً قائما بذاته في الخارج لا يتقوّم في أنواعه وأشخاصه! وقل للقرّاء: أن حقيقة الظلم والإحسان والشكر ليست بشيء بل عنوان لا حقيقة له! وليس هناك إلا مجموع أفراد وأشخاص من الظلم والإحسان والشكر..

    فما أحوجك إلى مراجعة الأصول ومراتب الحقائق في الفرق بين الكليات الطبيعية والحقيقية والعقلية، لأن التكليف بالمطلقات جائز بالإجماع لإمكان وجودها في ضمن المقيّدات ولأن تحريم المشترك تحريم الكلّ، وإذا وجب لم تجب جميع جزئياته، وجميع الأحكام إنما تتعلق بأمور كلية.
    حقيقة عبادة الله هو الخضوع له بما أمر به، وهذه كلية مشتركة بين الشرائع وفي الشريعة بين أنواع وأفراد العبادة وهي تتعيّن في الأنواع ثم في الأفراد فكلّ نوع أو فرد منها عائد إلى هذه الحقيقة لأن متعلّق التكليف أبدا أعمّ من متعلق الحكم في حق المطيع ونقيضه في حق العاصي..
    وكذلك الشرك (إثبات شريك لله في الخصائص) حقيقة كلية تشترك الشرائع في المنع منه ولا تتغيّر هذه الحقيقة، وتتعيّن في الأنواع كالشرك في الأسماء والصفات والشرك في الأفعال والشرك في العبادة، وتتشخّص في الأفراد والصور، وتستجدّ صور وأفراد من الحقيقة تعود إلى أنواع الشرك من شرك الاستقلال وشرك التبعيض وشرك التقريب وشرك الأسباب وشرك الأغراض..
    فمن سجد لغير الله أو ذبح له فشركه من شرك التقريب والوسائط، ومن أثبت صفة أو اسما من أسماء الله الخاصة لغير الله فشركه من شرك الأسماء والصفات، ومن أثبت فاعلا مستقلا أو تأثيرا مستقلا فشركه من شرك الاستقلال....

    ولا أدري علاقة شرب الخمر بغير اسمها بهذا البحث الذي لا يخفى على طلبة العلم.

    ومن الهفوات الظاهرة: خلط مسائل البدع بمسائل الشرك بالله؛ لأمن خضع لله بما لم يشرعه، أو تعبد لله بما لم يشرعه على اصطلاحك فليس بعابد لله ولا فعله بداخل في تعريف العبادة الشرعية (غاية الخضوع للمستحقّ بأمره) لأنّ المبتدع والمتبع يشتركان في الخضوع، وفي كونه للمستحقّ (الله) لكن قيد (بأمره) فصلٌ سحب وصف العبادة الشرعية عنه، فلما لم يكن هذا الخضوع المعين بأمر الله خرج عن العبادة المعتبرة وعن التعريف بلا شك.

    أما يتعلق بالفرق بين الطاعة وبين العبادة فقد سبق الكلام فيه ولا معنى للإعادة.

    وكذلك مسألة السجود فقد أثبتُّ بالدليل القاهر: أن السجود من الخصائص في شرعنا، وبه نصّ علماؤنا رحمهم الله كما قال ابن القيم رحمه الله: «من خصائص الإلهية: السجود، فمن سجد لغيره فقد شبّه المخلوق به».

    وقال العلامة الصنعاني رحمه الله: «والسجود قد صار شرعا يختصّ بالله تعالى..».

    ولو كانت هناك بقية من شجاعة واحترام للقرّاء لبيّنت بالدليل على أنّ السجود كان من الخصائص في شرع يوسف وإخوته وعند الأمر بالسجود لآدم، ومع تقرّر الخصوصية أبيح السجود لغير الله، وعندها يمكن أن تذكر هذه كصورة نقض لمن أصّل مثل أصلنا في الشرائع السالفة... أما التعلّق بمطلق السجود للغير مع انتفاء الخصوصية لله فلا محلّ من الأعراب عند أولى النهى.
    وباختصار:

    1- السجود لغير الله في شرائع من قبلنا منسوخ بشرعنا ولا متعلّق فيه كما سلف..
    والدليل النقلي يشترط له أربعة شروط:
    الأول: أن يكون ثابتا.
    الثاني: وضوح الدلالة أو ظهورها وإلا فلا يكون دليلا.
    الثالث: أن يكون غير منسوخ.
    الرابع: السلامة من معارض مقاوم.
    فسأل نفسك عن توفّر هذه الشروط كلها في شبهتك هذه!!

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وقصة آدم ويعقوب منسوخة بشرعنا».
    2- إن سأل القارئ: كيف أمكن أن يكون السجود عبادة تارة ولا يكون عبادة تارة أخرى في شرع من قبلنا؟
    قلت: لو أخذتَ أقرب مختصر في الفقه علمتَ أنّ الفعل إذا لم يتمحّض لجهةٍ مُيِّزَ بين أفراده بالنية المميّزة بين العادات وبين العبادات ليتميّز ما لله عما ليس له. وهذه هي النية المميّزة بين العادات والعبادات، وبين العبادات في أنفسها وبين مراتبها.
    فالأول: كالغسل يكون تبرّداً وعبادة، ودفع الأموال يكون صدقة شرعية ومواصلة عرفية، والإمساك عن المفطرات يكون عبادة ويكون تطبّباً وحاجةً، وحضور المساجد يكون مقصودا للصلاة وتفرّجا يجري مجرى اللذات.
    ومن الثاني: الصلاة تنقسم إلى فرض ومندوب، والفرض ينقسم إلى أداء وقضاء، والمندوب إلى راتب وغير راتب... وهلمّ جرّا.
    وهذا الأصل هو الذي تهرّب منه صاحبنا إذ قلتُ له: أثبتْ بالدليل أنّ السجود كان من الأفعال المختصّة بالله في شرع من قبلنا.. إذ يمكن أن يكون السجود عندهم فعلاً ملتبسا غير متحّضٍ لجهةٍ فيقع عادةً مباحة، ويقع تارة عبادةً، والمميّز بينهما النّيّة كالأمثال في القسم الأوّل.. وهذا من حكمة إيجاب النية.

    أما وقد ثبت في شرعنا أنه من خصائص الله فيجب صرفه لله وحده ومن صرفه لغيره فهو مشرك.
    ولا تنس أخي القارئ الأصلَ المفرّق بين أفراد الجنس المنقسم إلى مأمور به ومنهي عنه، ولا أنّ الأفعال والأقوال إذا كانت نصوصا في شيء غير مترددة لم تحتج إلى نية لانصرافها بصراحتها أو بظهورها لمدلولاتها، ولا أنّ التصرّفات إذا كانت دائرة بين جهات شتى لا تنصرف لجهةٍ إلا بنيةٍ.



    هذه مسائل أبي البراء الجهني

    - الاعتماد على الظاهر لا يجوز لأنه ليس ببينة شرعية ؟

    - الساجد للصنم لمصلحة دنياه ليس بمشرك؟

    - المشرك لا يكون مشركا حتى يعلم شركه ضرورة؟

    - ولا يكون عابدا لغير الله حتى يعلم أنه عابد لغيره ضرورة؟

    - لكنه متى خضع لغير الله الخضوع الخاصّ فهو كافر مشرك وإن كان جاهلا؟

    - لا يكون مشركا ولا عابدا لغير الله حتى يعتقد في معبوده الربوبية؟

    - لا حاجة إلى الرسل في عبادة الله ولا في تحريم الشرك، لأن معرفة هذا ضروري في قلوب العباد؟؟

    وهذه مسائل المأربي

    1- لا يعبد إلا الله، ولا يُعبَد إلا بما شرع في الدين.

    2- تحريم الشرك الأكبر وقبحه معلوم عقلا وشرعا بعد التصوّر التام..

    3- الشرك إثبات شريك مع الله في الخصائص وهي حقيقة لا تتغير، وأفراده وصوره لا تحصى، ومن صرف بعض الخصائص لغير الله فهو مشرك شاء أم أبى.

    4- لا عذر لأحدٍ في ذلك قبل الرّسالة المحمدية وبعدها.

    5- معرفة ذات الله بالصفات الذاتية وتوحيده بالأفعال لا يثبت بها إيمان ينفي الكفر والشرك عن صاحبه.

    6- أئمة الدعوة النجدية على صراط مستقيم متبعون لا مبتدعون.

  18. #58

    افتراضي

    تكملة حوار العبادة (2)

    المأربي: طالبتك أكثر من مرّة وسألتك عن السبيل إلى أن هذا الخضوع لا يليق إلا بالله وأنه لا يستحقه إلا الله سبحانه؟ لكنّك تتهرّب .

    الجهني:
    أخي العزيز: ما الفائدة من التهرّب ؟ هل يليق بطالب العلم إذا رأى الحجة متوجهةٌ أن يصدّ عنها ؟ هل مثل هذا يُعدُّ طالب علم وطالب حق يبحث عن الصواب والدليل ؟ لا يمكن أن أتصوّر طالب علم حقيقيّ يُعرض عمّا فيه إشكالات على قوله .. إذا كان طالب العلم يتهرّب مما فيه إشكالٌ على رأيه الذي اختاره فعليه أن يُراجع نفسه من البداية وأن يُخلص نيته في طلب الحق وليس في التعصّب لرأيه الذي يرجّحه .
    أمّا بالنسبة للجواب : الخضوع الخاص لا يُعلم إلا من خلال تصريحه بأن يقول : أنا اعتقد أنّ هذا المقبور يستحق العبادة أو له شيء من خصائص الربوبية أو يصرّح بأنّه يخضع له كما يخضع لله ، وممّا يقوم مقام التصريح: أن يعلم أن هذا الفعل على هذا الوجه لا يستحقه إلا الله ثمّ يصرفه لغير الله .

    المأربي: أنت تقول بأن العلم باختصاص الله بهذا العمل ضروري لا يتوقّف على سببٍ، والعلم بالشرك في صرفه إلى غيره ضروريّ، فالناس موحّدون ضرورة، ومشركون ضرورة في آن واحد، والرجل عالم عارف، وجاهل غافل في آن واحد في عمل واحدٍ...
    بيان خطئك هذا من وجوهٍ مختصرة:
    الوجه الأول .. الوجه الحادي عشر..


    الجهني: خلاصة ما تريد أن تقوله هنا هو أنّنا إذا قلنا بأنّ التعبّد أمر ضروري غير متوقّف على الأمر والنهي فإنّه يلزم من ذلك لوازم باطلة وهذا كلّه لأنّك تتصوّر أنّ الضروري لا يمكن أن يخالف فيه أحد، وهذا غير صحيح ..
    وإنّما يصحّ كلامك لو قلنا بأنّ العبادة لله ضرورية الوقوع كالتنفّس للكائن الحيّ .. وهنا يسوغ بعض ما شغّبتَ به من كون التكليف لا يقع بأمر ضروري ..
    أمّا ما نقوله فإنّ التوحيد ليس ضروري الوقوع فهناك أناسٌ مشركون ظاهرًا وباطنًا .. وما دام أنّ للإنسان أن يختار الشرك أو التوحيد فهذا يعني أنّ التوحيد يقع التكليف به ..
    الأمر الضروري هو دليل وجوب العبادة لله وحده دون غيره، وهذا متعلّق بالفطرة وهو أمر ضروري عند كلّ شخص وإنّما جاءت الأوامر والنواهي للتذكير بهذه الفطرة وتأييدها .. وهناك من اجتالتهم الشياطين عن فطرة التوحيد وزيّنت لهم الشرك .. ومع ذلك فإنّ هؤلاء المخدوعين يعود إليهم علمهم وفطرتهم إذا ادلهمّت الأمور وشارفوا على الهلاك (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين).
    يقول الشيخ ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (3/ 136): ((ومعلوم أن السؤال، والحب، والذل، والخوف، والرجاء، والتعظيم، والاعتراف بالحاجة، والافتقار، ونحو ذلك، مشروط بالشعور بالمسؤول المحبوب المرجو، المخوف، المعبود، المعظم، الذي تعترف النفوس بالحاجة إليه والافتقار، الذي تواضع كل شيء لعظمته، واستسلم كل شيء لقدرته، وذل كل شيء لعزته. فإذا كانت هذه الأمور مما تحتاج النفوس إليها ولا بد لها منها، بل هي ضرورية فيها كان شرطها ولازمها، وهو الاعتراف بالصانع به، أولى أن يكون في النفوس.
    وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «كل مولود يولد على الفطرة» يروي عن ربه: «خلقت عبادي حنفاء» ونحو ذلك، لا يتضمن مجرد الإقرار بالصانع فقط، بل إقراراً يتبعه عبودية لله بالحب والتعظيم وإخلاص الدين له ن وهذا هو الحنيفية.
    وأصل الإيمان قول القلب وعمله، أي علمه بالخالق وعبوديته للخالق، والقلب مفطور على هذا وهذا. وإذا كان بعض الناس قد خرج عن الفطرة بما عرض له من المرض، إما بجهله، وإما بظلمه، فجحد بآيات الله واستيقنتها نفسه ظلماً وعلواً، لم يمتنع أن يكون الخلق ولدوا على الفطرة))


    المأربي: أصلك الفاسد - وهو إدراك عبادة الله وحرمة الشرك في العبادة معلوم للعباد بالضرورة ولا حاجة إلى رسول ولا نبي ولا أمر ولا نهي - وإذا كان الأمر كذلك فلا محلّ للجاهل المشرك والمعاند المشرك، ولا أنّ هذا يعذر وذاك لا يعذر، لأن الضرورات الوجدانية لا تحتمل النقيض ولا يوجد في الدنيا إلا مشرك مكابر، ولا تكون مكابرته إلا بالجوارح والأعمال الظاهرة إما في القلب فلا يمكن انقلاب الضرورة الوجدانية.

    الجهني: عبادة الله والتوجّه إليه بالخضوع الخاص أمرٌ فطري قد جُبل عليه الخلق والأحاديث صريحة في هذا .. أمّا إلزاماتك على هذا القول فليست في محلها فلا يمنع أن تتشوّه فطرة الناس وتتغيّر فتميل إلى محبة الإشراك بالله وصرف الخضوع العبادي لغيره، وقد وصف الله الإشراك والمشركين بالجهل وعدم العلم والله أحسن الحاكمين ..

    المأربي : اختصاص هذه الأمور بالله ذاتي أم جعلي وضعي؟

    الجهني: كلُّ من آمن بوجود الله الذي خلقه وأنعم عليه بالنعم العظيمة فلابد أن يخضع له خضوعًا يليق به لا يُشاركه فيه أحد ..

    المأربي: كيف للعقل التهدّي إلى أن هذا العمل يرضي الرب أو يسخطه؟ وأنه يحبّ أن يتقرّب إليه؟ أو يعظّم به؟ وأن هذا إجلال وإعظام أو استهانة بالنسبة إلى ربّ الأرباب مالك الرقاب؟ لا يُدرك هذا إلا من طريق السمع من الله بواسطة الرسل عليهم السلام.
    فتخصيص عمل مّا بالله في زمن شكراً من الجائزات العقلية والواقعات الشرعية، فمن تركه فقد كفر النعمة، ومن صرفه لغير الله فقد أشرك لقيام وصف الإشراك به.

    الجهني: أنت تخلط بين مفهوم العبادة والخضوع الخاص الذي لا يليق إلا بالله ولا يتوقف على الأمر والنهي وبين أنواع ما يُتعبّد به، ولاشك أنّ أنواع ما يتعبّد به الله وطريقة شكر الله على نعمه هو من الأمور التوقيفية .

    المأربي: هذا وقد علّمتني التجارب: أنّ كلّ من خالف النجديين في الأصول فهو كذلك. بل، لولا مسألة واحدة لقلت: من خالف النجديين في الأصول فليس بمسلمٍ!!

    الجهني: هذا هو الغلو بعينه .. ولا عجب ممّن تعصّب لقولٍ ألا يُبصر الحقّ في خلافه .. وكأنّك بكلامك هذا تريد أن تضيف أصلًا خامسًا من أصول التشريع وهو ما توافق عليه النجديّون في الأصول !!

  19. #59

    افتراضي

    يا أيها الجهني:هل من دعا الصنم أو الحجر أو الملك أو الجن أو القبر أو الشمس أو القمر أو استغاث بهم أو استعان بهم أو استعاذ بهم يكون عابدا لله أم لغيره؟

  20. #60

    افتراضي

    التعليقة الرابعة والثلاثون :

    أخي الجهني لا يؤدي الهروب إلى الأمام إلا الاضطراب الفكري والتناقض لكنه خير من تقرير الكفر، ومحاولة الجدال خير من التصريح بالمعاندة والمكابرة، وإن ظهرت للقارئ في أكثر من صعيد.. لأنه يرى ما وصلت إليه المفاوضة وما أدّت إليه قناعتك في شرك العبادة التي زعمت أنك بنيتها على الأدلة الباهرة والحجج القاهرة!

    وهذا تذكير للقارئ بمجمل عقيدتك.

    المسألة الأولى: العبادة هي الخضوع الخاص الذي لا يستحقه إلا الله ولا تليق لغيره.

    المسألة الثانية: معرفة هذه العبادة ضرورية للإنسان لا يحتاج في معرفتها إلى رسالة وكتاب ولا إلى أمر ونهي (الشرع).

    المسألة الثالثة: المشرك هو من صرف هذه العبادة الخاصة إلى غير الله، والموحِّد من صرفها لله وحده.

    المسألة الرابعة:الشعائر التعبدية الفعلية والقولية لا تستلزم تلك العبادة الضرورية الخاصة؛ فالأفعال والأقوال ليست عبادة في حقيقة الأمر . هذا من جانب التوحيد.
    ومن جانب الشرك فالشعائر الشركية (القولية والفعلية) لا تستلزم الشرك الأكبر (صرف الخضوع الخاص بالله إلى غيره).
    فروع القناعة الفاسدة في شرك العبادة
    1- جميع الأعمال الظاهرة من صلاة وصوم وزكاة وحج وذبح وطواف... ليست عبادة بل العبادة شيء آخر لا تستلزمه الأفعال والأقوال!!.
    2- لو صلّى أحد أو صام أو حج وطاف وذبح وسجد للصنم...لا يجوز الحكم عليه بالشرك حتى يُعلم أنّه صرف حقيقة العبادة للصنم لأن العبادة الظاهرة لا تستلزم مناط الشرك والكفر(الخضوع الخاص الذي لا يليق إلا لله)!.

    3- عبادة الله وعبادة غيره ليس مطلق الخضوع والتذلل اللغوي أو العرفي، ولا هي معلومة عن طريق الأنبياء لأنه خضوع خاص معلوم بالضرورة لا يتوقّف على سببٍ فالدعوة إلى معرفة هذه العبادة تحصيل حاصل وهو ممتنع؛ فبعثة الرسل وإنزال الكتب إلى تعريف الناس بها ممتنع!
    4- إذا كان استحقاق الله لهذه العبادة معلوما بالضرورة فلا يمكن صرفها إلى غيره إلا عناداً أو تظاهراً بالشرك من غير ارتباط بالباطن واعتقاد في القلب كمعاندة فرعون لآيات الله!
    5- إذا تقرّر أنّ الظاهر لا يكون شركاً حقيقةً فلا يوجد في الدنيا مشرك على الحقيقة! لأن توحيد العبادة والشرك فيها معلوم للعابد علما ضروريا كما قال لك الجهني!!
    وحدّ العلم الضروري: «هو الذي يلزم نفس العبد لزوما لا يمكنه معه دفعه عن نفسه» درء تعارض العقل والنقل (6 /106).
    6- يصرف المشرك العبادة إلى غير الله وهو جاهل فيكون مشركا جاهلاً!
    لكنه غير معذور بالجهل فاجتمع تكفير المشرك الجاهل مع أنّه لا يعبد الله أو غيره إلا وهو عالم؟ لأن معرفة العبادة ضرورية لا تتوقف على سبب؟

    الخلاصة المأساوية: أنّه يعبد غير الله جاهلا وعالماً أن هذه العبادة لا يستحقها إلا الله؛ فالمشرك عالم أنّه يعبد غير الله وجاهل أنه يعبد غيره فهو مشرك جاهل وعالم معاند في آن واحد بالضرورة!! هذا ما قرّرته وإن حاولت الآن الكفر به.
    قال تعالى: ﱡﭐﲿﳀﳁﳈﳉ.
    7- معرفة العبادة الخاصة غير مكتسبة إذ هي ضرورية، ومن ثمّ فالناس غير مكلّفين بمعرفتها؛ إذ التكليف يعتمد الاختيار؛ فصارت معرفة العبادة الشرعية والشركية ضرورية لا تتوقّف على سبب، ومكتسبة متعلقة باختيار المكلّف في آن واحد؟
    8- مفاد هذه الأصول الفاسدة: أن معرفة أن لا معبود بحقٍّ إلا الله ضروري لا يحتاج إلى بعثة الرسل؛ فدعوة الأنبياء إلى العلم بهذا، بل أمر الله بمعرفتها لا معنى له!! إذ لا يتعلق التكليف بالضروريات التي يجدها الإنسان في نفسه، والحجة قائمة على العباد ضرورة في توحيد العبادة والشرك فيه فلا وجه لقوله تعالى: ﱡﭐﱸﱹ النساء: ١٦٥
    وكذلك قوله تعالى في سياق الإخبار عن الحقائق والامتنان على الرسول:ﱡﭐﱐﱑﱗﱘ سبأ: ٥٠
    لا معنى له لأنّ الاهتداء إلى معرفة عبادة الله وامتناع عبادة غيره أعظم أنواع الهداية، فإذا كانت معلومة للناس بالضرورة فلا وجه لحصر الاهتداء إليها في وحي الرّبّ إلى النبي الكريم.
    وكذلك قوله تعالى:ﲷ ﲸ ﲹﲺﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃتحصيل حاصل لا حاجة إليه لأنه لا يُعلَم مجدّدا ما هو معلوم للناس ضرورة.
    وكذلك قوله تعالى:فإن لّم ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱡﱢ ﱣ ﱤ ﱥلأنه إذا كانت معرفة اختصاص الله بالعبادة وعدم استحقاق غيره لها ضروريا، فمعنى هذا: أن معرفة أن لّا إله إلا الله ضرورية فتمتنع الدعوة إليها والعلم بها؛ لأن تحصيل الحاصل محال!
    وكذلك قوله تعالى لنبيّه عليه السلام:ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠﳡ ﳢﳣ ﳤ ﳥ ﳦ ﳧفهو أيضا مما لا حاجة إليه لأن علم أن لا إله إلا الله ضروري للرسول ولغيره بل لأبي جهل وأبي لهب وعاص بن وائل وصناديد قريش وأوباشهم...
    ومما لا معنى له أيضاً قوله في سياق الامتنان على المصطفى عليه السلام:ﱡﭐﱆﱇﱗﱘلأنّ ما بُعِثَ به من توحيد الله بالعبادة علما وعملاً معلوم له ولغيره بالضرورة!!
    ومن هذا الباب قوله في الأنعام:ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ*قل إنِّي عَلَى بيّنةٍ من رّبّي وكذّبتم به.
    وقوله تعالى في سورة مؤمن: ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄلأن عبادة اللهومعرفة اختصاصه بها ضروريّة، وكذلك معرفة الشرك ضرورية؛ لأن معرفة أحد الضدين يستلزم معرفة الآخر، فمن عبد غير الله فهو عالم ضرورة أنّه ظالم ومتعدٍّ حيث صرف الحقّ الخاصّ بالله إلى من لا يستحقّه من الخلائق فإن قبح الظلم معلوم في الفطر والعقول.
    فلا حاجة لقوله تعالى:﴿قل إني على بيّنة من ربي وكذّبتم﴾فالناس جميعا على هذه البيّنة بالضرورة، وكذلك لا معنى لقوله:﴿لما جاءني البيّنات من ربي﴾إذ هي معرفة وعلم ضروري مشترك بين الخلائق.
    وكذلك قوله تعالى:ﱡﭐﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦإذ لا حاجة إلى تخصيص الشهادة بأولى العلم لأنّها مشتركة بين البشر بل مضمونها معلوم للنّاس بالضرورة.


    يتبع...............

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •