النقطة الخامسة: الحروف المقطعة واللغة الآرامية
في تفسيرات أصحاب المدخل الآراميّ للحروف المقطعةِ بالمعاني الآرامية أمور يجب التنبيه عليها:
1ـ الخلطُ بين الآرامية والعبرية! فلايصلح أن يكون منطلقنا في الحديث أن الآرامية هي المدخل لتفسير القرآن، ثم عندما نجيء للتطبيقات نستخدم الحروف العبرية واللغة العبرية! وبين اللغتين فروق: هجاءً ورسماً ودلالاتٍ وتراكيب.
2ـ عند تفسير (طه) آرامياً قرئت الكلمة من اليسار إلى اليمين، (الطاء) بمعنى الطين وتطلق على الرجل، والهاء أداة نداء، والمعنى : يارجل. هكذا فُسِّرتْ. وفي بقية الحروف كانت القراءة من اليمين إلى اليسار! وهذا تناقضٌ عجيبٌ، وتلاعبٌ باللغةِ.
والمعروفُ أن السامياتِ تقرأ من اليمين إلى اليسار.
3ـ ليس هناك اطرادٌ فيما يذكرونه، فمرةً يتناولون الحروف المقطعة باعتبار كل حرف على حدة، له معنى، كما في (طه)، وأحياناً يتعاملون مع الحروف المقطعة باعتبارها كلمةً واحدةً كما في (الر) حيث ذكروا أنها بمعنى (تبصَّر) أو (تأملّ) وكذلك (ألم) بمعنى (صمتاً). وأحيانا باعتبارها كلمتين مثل (كهيعص) حيث اعتبروها بمعنى (هكذا يعظُ). فما القانون إذن؟ هل الحروف المقطعة هي كلماتٌ بالآرامية؟ أم هي جمل؟ أم هي تقرأ باعتبار كل حرف على حدةٍ، ونبحث عن المعنى المعجمي للحرف؟ لايليق في السياق العلمي مثل هذا التناقض.
4ـ المسافة المفترضة بين النطق العربي والنطق الآرامي ماذا نصنع بها؟ أعني كيف يمكن أن أقرأ (ألف لام ميم ) ثم أفسِّرُ كلمة ( أَلِيمْ)-بالإمالة-؟ وكيف أقرأ (ألف لام را ) ثم أفسِّرُ (أَلِيْر)-بالإمالة-؟ هذا البون الشاسع بين المنطوق وبين المقابل المفترض أنه مفسِّرٌ له ماتفسيره؟ لو كنا أمام نص مكتوب أو كلام شفاهي عادي لقلنا إنه تصحيف عبر الزمن، وتغييرات طبيعية تطرأ على الكلمات والألفاظ، أما القرآن الكريم فقد وصلنا حرفياً كما نزل به جبريل وكما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم أول مرة .. إذنْ! هذه المسافة الصوتية وهذا التصحيف في النطق متى كان؟ وأين؟ وكيف؟ وإذا كانتْ هذه الحروف بهذا اللفظ لم تجر على ألسنة العرب فيما نعلم فمن الذي صحفها من (ألير) إلى (ألف لام را)؟ ولماذا نزل القرآن بهذا (المغيَّر) –زعموا- وليس بالأصل؟ نعم لو كانت الكلمة معروفة عند العرب لقلنا حرفها العرب وغيروها كما تتغير الكلمات ثم جاء القرآن بما يوافق نطقهم، أما أن ينزل القرآن بنطق (محرفٍ) لكلمة آرامية، وعلى شكل لايعرفه أحد ولا يألفه المخاطبون، فهذا مالا يستقيم في منطق!!
5ـ جوز بعضهم أن يكون (كهيعص) اسم نبيٍّ، ولم يجوّز أن يكون طه اسم نبيّ، بل عد ذلك سوءَ فهم كبيراً رهيباً! فلماذا؟! مع ترجيحنا ألا يكون (طه) اسماً للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكنه القول باسميته أهون كثيراً وأقرب من القول باسمية (كهيعص)!
6بالنسبة لما نُقِلَ في التفاسير عن بعض السلف من تفسير (طه) بـ ( يارجل) وأنَّ أصلها نبطيّ وقيل: سريانيّ، وقيل: حبشيٌّ، ليس فيه حجةٌ لهذا المدخل الآراميّ لاعتبارين الاثنين:
أولهما: أنّ جمهرةً من المفسرين على أنّ (طه) ليست من الحروف المقطعة، وإنما هي كلمةٌ أعجمية الأصل كسائر الكلمات التي سبق الحديثُ عنها. وقد نُقل القول بأنها من الحروف المقطعةِ عن مجاهدٍ، رُوِيَ عنه بإسنادٍ لم يثبتْ.
وثانيهما: أنّ (طه) بمعنى (يارجل) قد استعملتْها العربُ في كلامها قبل الإسلام، ولابن جرير كلامٌ نفيسٌ في هذا، فقه نبّه رحمه الله أن استعمال (طه) بمعنى يارجل: "كلمة معروفة في عُكّ"[16/137]، ونقل الشوكاني عن الكلبيّ: "لو قلت لرجل من عُكّ يا رجل لم يجب حتى تقول طه" [فتح القدير 3/355]. وقد أنشد الطبريُّ وغيره قول متمّم بن نويرةَ:
هتفتُ بطه في القتال فلم يجبْ ... فخفتُ عليه أن يكون مُوائلا
وقولَ غيره:
إنَّ السفاهة طه من خلائقكم ... لابارك الله في القوم الملاعينِ
وانظرْ تأكيداً ما ذكره الزبيدي في تاج العروس.
وبيت متمم في التعريض بأحدهم، يريد أنه نادى في موضع القتال (يارجل) فلم يجبْهُ هذا المقصود بالكلامِ، فخاف أن يكون موائلاً، أي: جباناً طالباً للنجاةِ، مأخوذٌ من (الموئل). وبيتُ متمم موجودٌ في ديوانه الذي جمعته د.ابتسام الصفار ص: 131.
إذنْ لاحجة لاعتماد المدخل الآراميّ في تفسير الحروف المقطعة فيما نقل عن السلف في تفسير (طه) بأنها: (يارجل)، لأنها -كما بيّنا- عند من قال بهذا التفسير كلمةٌ برأسها، وأما من قال من السلف بأنها حروفٌ مقطعةٌ، فقد ذهب في تفسيرها المذاهبَ التي سبقَ شرحها والترجيح بينها، والتلفيقُ بين القولين غيرُ حسنٍ.
7ـ القولُ بأنَّ المفسِّرين لم يعرفوا لهذه الأحرف وجهاً ولا معنى، غيرُ صحيحٍ؛ والقول بأنها مما استأثر الله بعلمِهِ هو قولٌ واحدٌ من واحدٍ وعشرين قولاً [انظر : التحرير والتنوير 1/207 ففيه تقسيمٌ بديعٌ لهذه الأقوال ونقاشٌ لطيفٌ لها]. ومن هذه الأقوال ماهو واضحٌ بيِّنٌ حسنٌ، كالقولِ بأنَّ هذه الحروف سيقتْ على هذا الوجه تذكيراً للمشركين بأنَّ هذا الكتابَ المعجِزَ الذي عجَزوا عن مثله وعن بعضه إنما هو مؤلفٌ من هاته الحروف التي هي حروفهم المستخدمة في كلامهم. ويؤيد هذا القول أن التهجّي ظاهرٌ في هذا المقصدِ. ويعضد هذا الوجه تعقيبُ هاته الحروف في غالبِ المواضعِ بذكر القرآن وتنزيله، إلا في ثلاثة مواضع.
وقد بيَّنَ الزمخشريُّ في كشافِهِ أن الحروف المقطعةَ في أوائل السورِ يبلغُ عددُها 14 حرفاً أي: نصفُ عددِ حروف العربيةِ، وقد وردتْ في 29 سورةً بعدد حروفِ العربية. ثمَّ شرحَ تفصيلاً أنَّ هذه الحروف المقطعة المذكورةَ تشتمل على أنصاف أجناسِ صفاتِ الحروفِ، ففيها من الحروف المهموسة نصفُها، ومن المجهورة نصفُها، ومن الشديدة نصفها، ومن الرخوة نصفها، ومن المطبقةِ نصفُها، ومن المنفتحةِ نصفها، ومن المستعلية نصفها، ومن المستفلةِ نصفها، ومن حروف القلقلة نصفُها. [انظر الكشاف 1/39 ففيه بيانٌ لطيفٌ عجيبٌ لهذا المعنى].
وإذا زدتَ على هذا ما يذكرُهُ أهل الإعجاز العدديِّ من تناسبِ أعدادِ هذه الحروف المقطعة مع أعداد أمثالها في السورةِ نفسها وقفتَ على حكمةٍ بالغةٍ لهذه الحروف المقطعة.
وإذا زدتَ عليه ماذكره ابن القيمِ في بدائعِ الفوائد [173-174] من تحليلٍ لطيفٍ لانعكاسِ كلِّ حرفٍ من الحروف المقطعةِ على السورةِ ومعانيها، وجدتَ حكمةً بالغةً، وآيةً عجيبةً في هذه الحروف المقطعة.
فمثلا: سورة (ق) مبنيَّةٌ على حرف القاف، ففيها ذكر القرآن، والخلق، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين، والرقيب، والسائق، والقرين والإلقاء، والتقدم بالوعيد، والمتقين، والقلب، والقرون، والتنقيب في البلاد، وتشقق الأرض، والرزق، إضافة إلى مناسبةِ كل معاني هذه السورة لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلوّ والانفتاح.
وسورة مبنية على (الخصومات) المتعددة، فأولها خصومة الكفار مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم اختصام الخصمين عند داود عليه السلام، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم، ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم، ثم خصامه ثانياً في شأن بنيه وحلفه ليغوينّهم.
وساقَ ابنُ القيِّمِ أيضاً أمثلةً أخرَ.
فها أنتَ ترى وجهاً عربياً فصيحاً صحيحاً وجيهاً بديعاً لهذه الحروفِ المقطعةِ، لانحتاج معه إلى التماسٍ معانٍ من لغاتٍ أُخَرَ.
وها أنت ترى أنَّ أهلَ التفسير لم يُطبقوا على أنّها (رموزٌ الله أعلمُ بها)، بل إنَّ هذا القولَ ليس أرجَحَ الأقوالِ والله أعلمُ. ومع ذلك فهو قولٌ له حظٌّ من النظرِ؛ مردُّه إلى الورعِ الذي جُبِل عليه أولئك الأعلامُ، فلمّا لما يظهرْ لهم شيءٌ يقطعُ به الدليلُ خافوا أن يقولوا في كتابِ الله مالابرهانَ لهم عليه، فمالوا إلى ردِّ علمِهِ إلى الله، والله يقول: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)) .
8ـ أفاد الأستاذ الدكتور عبدالرحمن السليمان المختصُّ بالسامياتِ ودراسة الكُتب الدينية القديمةِ أنَّ الآرامية القديمة التي كانت على زمان الأنبياء عليهم صلواتُ الله وسلامُهُ لغة ميتة ولايتحدث بها اليوم مخلوقٌ، واللهجاتُ الآرامية التي يتحدث بها بعض نصارى العراق والشام من السريانِ لهجاتٌ هجينةٌ مركبةٌ من العربية والكردية والتركية والبهلوية، والمتكلمُ في شأن آرامية القرآن يتحدث بالعبرية الحديث وليس بالآرامية. ومن ثمّ فنحن أمام إشكالين كبيرين: أولهما: ادّعاءُ المدخل الآرامي وتوظيف اللغة العبرية لا الآرامية، وثانيهما: أن الآرامية القديمة التي يُدّعى أنها أصلُ القرآنِ لغةٌ ميتةٌ لايتكلمُ بها اليوم أحد!
ومن المهم أن نعرف أن العبرية التوراتية، والآرامية الإنجيلية - وهما لغتا وَحْيٍ- أصولُ الأسفارة الموحاة بهما مفقودةٌ كلياً، ولم يحفظ من الآرامية إلا جملة واحدةٌ جاءتْ في إنجيل متّى.
ومثلُ ذلك يصدقُ على العبريةِ، فالعبرية الأولى التي نزلَ بها الوحيُ بادتْ بعد السبي البابليّ، وترجمتِ الكتب المقدسة إلى الآرامية لأنها أسيرُ في الناسِ، ثمَّ أعيدَ بعثُ العبريةِ، وجاءتِ العبرية الحديثة متأثرةً بعدةِ لغاتٍ، وقد تأثرتْ بالعربية كثيراً إبانَ الحضارة الإسلامية، وظهور طبقة من المترجمين اليهود، ومن ثمّ فالعبرية التي يتكلم بها الناس اليوم، والتي حاكم إليها بعضهم كتابَ الله عز وجل، هي عبرية متأخرةٌ، استقرتْ بعد العربية بقرونٍ، فالأجدرُ والأقربُ أن يكونَ التشابه ناشئاً من أخذها هي من العربية.
ومع ذلك - كما أسلفت - ما من سبيل للقطعِ، ولكن استحضار هذه الحقيقة يُعيدُ هندسةَ النظر إلى هذه القضيةِ برمّتها.
9ـ نعمْ كثرتِ الأقوالُ في معاني الحروف المقطعة، ومازال أهل العلم يقولون فيها، ولكنّ أحداً منهم لم يجرؤ على ادّعاء توقُّفِ فهمها على غير العربية، كما أنّ الجرأة على القول فيها مع كثرة الخلاف حولها لايكون إلا لمن استوعب الأقوال كلها وفهمها وعرف كيف يمحصها، وزاد على ذلك معرفة بأساليب العربِ في الكلام، وبقواعد التفسير، وبغير ذلك من أمور العلم، ثم ليضمّ إلى كل ذلك ورعاً وتقوى وخوفاً من الاجتراء على كتاب الله .. وليقل بعد ذلك، فإن القرآن لايخلقُ عن كثرة الردّ، ولاتنقضي عجائبُهُ، ولكنّ هذه العجائبَ يتبيّنها أهلها.
10ـ كل وجهٍ من النظر أو التفسير أو التحليل يفضي إلى انتقاصِ القرآنِ الكريم أو التقليل من شأنه أو الطعنِ فيه يجبُ اطراحُهُ ورفضُهُ مهما بدا لصاحبِهِ طريفاً وجميلاً.