سُورَةُ النَّحْلِ مَكِّيَّةٌ، وَآيَاتُهَا ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1]
{أَتَى} فَقَرُبَ مِنْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَدَنَا..
{أَمْرُ اللَّهِ} وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِأَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ، أَخْبَرَهُمْ أَنَّ السَّاعَةَ قَدْ قُرُبَتْ، وَأَنَّ عَذَابَهُمْ قَدْ حَضَرَ أَجَلُهُ فَدَنَا..
{فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } فَلَا تَسْتَعْجِلُوا وقُوعَهُ..
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى} تَنْزِيهًا للَّهِ وَعُلُوًّا لَهُ ..
{عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النحل: 1] عَنِ الشِّرْكِ الَّذِي كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى مِثْلِ مَا هُمْ عَلَيْهِ يَدِينُ بِهِ.
{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}[النحل: 2]
{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} يُنَزِّلُ اللَّهُ مَلَائِكَتَهُ..
{بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} بِمَا يَحْيَا بِهِ الْحَقُّ وَيَضْمَحِلُّ بِهِ..
{عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ رُسُلِهِ، بِـ
{أَنْ أَنْذِرُوا} عِبَادِي سَطْوَتِي عَلَى كُفْرِهِمْ بِي وَإِشْرَاكِهِمْ فِي اتِّخَاذِهِمْ مَعِي الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ، فَـ..
{أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} لَا تَنْبَغِي الْأُلُوهَةُ إِلَّا لِي، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُعْبَدَ شَيْءٌ سِوَايَ..
{فَاتَّقُونِ}[النحل: 2] فَاحْذَرُونِي بِأَدَاءِ فَرَائِضِي، وَإِفْرَادِ الْعِبَادَةِ وَإِخْلَاصِ الرُّبُوبِيَّةِ لِي، فَإِنَّ ذَلِكَ نَجَاتُكُمْ مِنَ الْهَلَكَةِ.
{خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النحل: 3]
{خَلَقَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُعَرِّفًا خَلْقَهُ حُجَّتَهُ عَلَيْهِمْ فِي تَوْحِيدِهِ، وَأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْأُلُوهَةُ إِلَّا لَهُ: خَلَقَ رَبُّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ..
{السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} بِالْعَدْلِ، وَهُوَ الْحَقُّ، مُنْفَرِدًا بِخَلْقِهَا، لَمْ يُشْرِكْهُ فِي إِنْشَائِهَا وَإِحْدَاثِهَا شَرِيكٌ، وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَيْهِ مُعِينٌ، فَأَنَّى يَكُونُ لَهُ شَرِيكٌ..
{تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النحل: 3] عَلَا رَبُّكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ عَنْ شِرْكِكُمْ وَدَعْوَاكُمْ إِلَهًا دُونَهُ، فَارْتَفَعَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ شَرِيكٌ أَوْ ظَهِيرٌ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَهًا إِلَّا مَنْ يَخْلُقُ وَيُنْشِئُ بِقُدْرَتِهِ مِثْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَيَبْتَدِعُ الْأَجْسَامَ فَيُحْدِثُهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قُدْرَةِ أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، وَلَا تَصْلُحُ الْأُلُوهَةُ لِشَيْءٍ سِوَاهُ.
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}[النحل: 4]
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} وَمِنْ حُجَجِهِ عَلَيْكُمْ أَيْضًا أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ، فَأَحْدَثَ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ خَلْقًا عَجِيبًا، قَلَبَهُ تَارَاتٍ خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ إِلَى ضِيَاءِ الدُّنْيَا بَعْدَ مَا تَمَّ خَلْقُهُ، وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، فَغَذَّاهُ وَرَزَقَهُ الْقُوتَ وَنَمَّاهُ.. عَنَى بِالْإِنْسَانِ: جَمِيعَ النَّاسِ، أُخْرِجَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمِيعِ..
{فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} حَتَّى إِذَا اسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ كَفَرَ بِنِعْمَةِ رَبِّهِ، وَجَحَدَ مُدَبِّرَهُ، وَعَبَدَ مَنْ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَخَاصَمَ إِلَهَهُ، فَقَالَ «مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» [يس: 78]، وَنَسِيَ الَّذِي خَلْقَهُ فَسَوَّاهُ خَلْقًا سَوِيًّا مِنْ مَاءِ مِهِينٍ..
{مُبِينٌ}[النحل: 4] يُبِينُ عَنْ خُصُومَتِهِ بِمَنْطِقِهِ، وَيُجَادِلُ بِلِسَانِهِ، فَذَلِكَ إِبَانَتُهُ.
{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا، لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}[النحل: 5]
{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا}وَمِنْ حُجَجِهِ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، مَا خَلَقَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ، فَسَخَّرَهَا لَكُمْ..
{لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا مَلَابِسَ تَدْفَئُونَ بِهَا..
{وَمَنَافِعُ} مِنْ أَلْبَانِهَا، وَظُهُورِهَا تَرْكَبُونَهَا..
{وَمِنْهَا} وَمِنَ الْأَنْعَامِ مَا..
{تَأْكُلُونَ}[النحل: 5] لَحْمَهُ كَالْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَسَائِرِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَحُذِفَتْ «مَا» مِنَ الْكَلَامِ لِدَلَالَةِ مِنْ عَلَيْهَا.