قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (159) مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) ﴾ (الأنعام 159-161)
(159) إن الذين فرقوا دينهم بعد ما كانوا مجتمعين على توحيد الله والعمل بشرعه، فأصبحوا فرقا وأحزابا، إنك -أيها الرسول- بريء منهم، إنما حكمهم إلى الله تعالى، ثم يخبرهم بأعمالهم، فيجازي من تاب منهم وأحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته. ( 160 ) من لقي ربه يوم القيامة بحسنة من الأعمال الصالحة فله عشر حسنات أمثالها، ومن لقي ربه بسيئة فلا يعاقب إلا بمثلها، وهم لا يظلمون مثقال ذرة. ( 161 ) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم الموصل إلى جنته، وهو دين الإسلام القائم بأمر الدنيا والآخرة، وهو دين التوحيد دين إبراهيم عليه السلام، وما كان إبراهيم عليه السلام من المشركين مع الله غيره. في تفسير ابن كثير رحمه الله : {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا }: وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه: { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ } الآية، وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عمر السكوني، حدثنا بقية بن الوليد، كتب إلي عباد بن كثير، حدثنا ليث عن طاوس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ } وليسوا منك، هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة. لكن هذا إسناد لا يصح؛ فإن عباد بن كثير متروك الحديث، ولم يختلق هذا الحديث، ولكنه وهم في رفعه؛ فإنه رواه سفيان الثوري عن ليث، وهو ابن أبي سليم، عن طاوس عن أبي هريرة في الآية أنه قال: نزلت في هذه الأمة. وقال أبو غالب عن أبي أمامة في قوله: { وَكَانُواْ شِيَعًا } قال: هم الخوارج، وروي عنه مرفوعاً، ولا يصح. وقال شعبة عن مجالد، عن الشعبي، عن شريح، عن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: " { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا } - قال: -هم أصحاب البدع " وهذا رواه ابن مردويه، وهو غريب أيضاً، ولا يصح رفعه، والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله، وكان مخالفاً له؛ فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه، { وَكَانُواْ شِيَعًا } أي: فرقاً؛ كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، فإن الله تعالى قد برأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى:
{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلِدِينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِىۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا }
[الشورى: 13] الآية. وفي الحديث: " نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد " فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل؛ من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك، فضلالات وجهالات وآراء وأهواء، والرسل برآء منها؛ كما قال الله تعالى: { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ }. وقوله تعالى: { إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } كقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّـٰبِئِين َ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ } [الحج: 17] الآية. ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة فقال تعالى: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } وهذه الآية الكريمة مفصلة لما أجمل في الآية الأخرى، وهي قوله: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } وقد وردت الأحاديث مطابقة لهذه الآية؛ كما قال الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله: حدثنا عفان، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا الجعد أبو عثمان، عن أبي رجاء العطاردي، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: " إن ربكم عز وجل رحيم، من هم بحسنة فلم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها، كتبت له واحدة، أو يمحوها الله عز وجل، ولا يهلك على الله إلا هالك " ورواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث الجعد أبي عثمان به. وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله عز جل: من عمل حسنة، فله عشر أمثالها وأزيد، ومن عمل سيئة، فجزاؤها مثلها أو أغفر، ومن عمل قراب الأرض خطيئة، ثم لقيني لا يشرك بي شيئاً، جعلت له مثلها مغفرة، ومن اقترب إلي شبراً، اقتربت إليه ذراعاً، ومن اقترب إلي ذراعاً، اقتربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي، أتيته هرولة " ورواه مسلم عن أبي كريب عن أبي معاوية به، وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش به، ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد الطنافسي عن وكيع به، وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا شيبان حدثنا حماد، حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من هم بحسنة فلم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها، كتبت له عشراً، ومن هم بسيئة فلم يعملها، لم يكتب عليه شيء، فإن عملها، كتبت عليه سيئة واحدة " واعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام: تارة يتركها لله، فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى، وهذا عمل ونية، ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة؛ كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح: " فإنما تركها من جرائي " أي: من أجلي، وتارة يتركها نسياناً وذهولاً عنها، فهذا لا له ولا عليه؛ لأنه لم ينو خيراً، ولا فعل شراً، وتارة يتركها عجزاً وكسلاً عنها بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها، فهذا بمنزلة فاعلها؛ كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار " قالوا: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " وقال الإمام أبو يعلى الموصلي: حدثنا مجاهد بن موسى، حدثنا علي، وحدثنا الحسن بن الصباح وابن خيثمة، قالا: حدثنا إسحاق بن سليمان، كلاهما عن موسى بن عبيدة، عن أبي بكر بن عبيد الله بن أنس، عن جده أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من هم بحسنة، كتب الله له حسنة، فإن عملها، كتبت له عشراً، ومن هم بسيئة، لم تكتب عليه حتى يعملها، فإن عملها، كتبت عليه سيئة، فإن تركها، كتبت له حسنة، يقول الله تعالى: إنما تركها من مخافتي " ، هذا لفظ حديث مجاهد، يعني: ابن موسى، وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن، عن الركين بن الربيع عن أبيه عن عمه فلان بن عميلة، عن خريم بن فاتك الأسدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الناس أربعة، والأعمال ستة، فالناس موسع له في الدنيا والآخرة، وموسع له في الدنيا مقتور عليه في الآخرة، ومقتور عليه في الدنيا موسع له في الآخرة، وشقي في الدنيا والآخرة، والأعمال موجبتان، ومثل بمثل، وعشرة أضعاف، وسبعمائة ضعف، فالموجبتان، من مات مسلماً مؤمناً لا يشرك بالله شيئاً وجبت له الجنة، ومن مات كافراً وجبت له النار، ومن هم بحسنة فلم يعملها، فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه، وحرص عليها، كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة، لم تكتب عليه، ومن عملها، كتبت واحدة، ولم تضاعف عليه، ومن عمل حسنة، كانت عليه بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقة في سبيل الله عز وجل، كانت بسبعمائة ضعف " ورواه الترمذي والنسائي من حديث الركين بن الربيع عن أبيه عن بشير بن عميلة عن خريم بن فاتك به ببعضه، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حبيب بن المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يحضر الجمعة ثلاثة نفر: رجل حضرها بلغو، فهو حظه منها، ورجل حضرها بدعاء، فهو رجل دعا الله، فإن شاء أعطاه، وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكون، ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحداً، فهي كفارة له إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام " ، وذلك لأن الله عز وجل يقول: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هاشم بن مرثد، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني أبي، حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك لأن الله تعالى قال: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } " وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صام ثلاثة أيام من كل شهر، فقد صام الدهر كله " رواه الإمام أحمد، وهذا لفظه، والنسائي وابن ماجه والترمذي، وزاد: " فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } اليوم بعشرة أيام " ثم قال: هذا حديث حسن. وقال ابن مسعود: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }: من جاء بلا إله إلا الله، { وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ } ، يقول: بالشرك، وهكذا جاء عن جماعة من السلف رضي الله عنهم أجمعين، وقد ورد فيه حديث مرفوع الله أعلم بصحته، لكني لم أروه من وجه يثبت، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جداً وفيما ذكر كفاية إن شاء الله، وبه الثقة.