أنقل لك تحقيق هذا الحديث من محققو تفسير سعيد بن منصور: (3/ 831 - 836): (361- حدثنا سعيد، قال: نا أبو معشر، عن محمد بن كعب قال: جاءه رجل، فقال: إنا نجد في بعض الكتب: أن لله عز وجل عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس مسوك (4) الضأن من اللين، ويختلون الدنيا بالدين، قال الله: ((علي يجترئون؟ وبي يغترون؟ بعزتي، لأتيحن لهم فتنة تدع الحليم (حيران)) .
فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام} فقال الرجل: قد علمنا فيمن أنزلت. فقال له محمد: ((إن الأمر ينزل في الرجل، ثم يكون عاما)) .
سنده ضعيف لضعف أبي معشر، وما ذكره سعيد المقبري لا يعدو عن كونه نقلًا عن كتب أهل الكتاب التي لا يصدق ما فيها ولا يكذب مما هذا سبيله، وسيأتي بإسناد صحيح إلى محمد بن كعب ونوف البكالي بدلا من سعيد المقبري، وقد روي الحديث مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصح كما سيأتي.
وذكر السيوطي في "الدر" (1 / 572) هذا الحديث، وعزاه للمصنف وابن جرير والبيهقي في "شعب الإيمان".
وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" (4 / 231 رقم 3964) من طريق محمد بن أبي معشر، عن أبي معشر، قال: سمعت سعيدا المقبري يذاكر محمد بن كعب، فقال سعيد: إن في بعض الكتب أن لله عبادا ... ، فذكره بنحوه.
وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (1 / ل 141 / أ) من طريق أبيه، عن حمزة بن أبي جميل الربذي، ثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، لبسوا للعبادة مسوك الضأن في اللين، يختلون الدنيا بالدين، فيقول الله تعالى: أعلي يجترئون؛ وبي يغترون؛ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تدع الحليم فيهم حيران)) . قلنا: يا أبا حمزة، هل لهؤلاء في كتاب الله وصف؟ قال: نعم؛ قول الله عز وجل: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ... } ، إلى قوله: {والله لا يحب الفساد} .
وهذا حديث منكر؛ تفرد برفعه حمزة هذا، وخالفه سعيد بن منصور ومحمد بن أبي معشر كما سبق، فروياه من قول سعيد المقبري ومحمد بن كعب القرظي.
وقد تصحف اسم حمزة هذا في مخطوط تفسير ابن أبي حاتم إلى: ((حمزة بن جميل الزينبي)) ، والصواب ما أثبته، وهو حمزة بن أبي جميل الربذي، أبو العباس، وأقل أحواله أنه مجهول الحال، فقد ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (3 / 209 رقم 915) ، وذكر أنه يروي عن أبي معشر، وأن أباه روى عنه، وقال ((سأل أبي عنه، فقال: شيخ)) .
وأخرجه ابن جرير (4 / 232 رقم 3965) فقال: حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرني الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن القرظي، عن نوف - وكان يقرأ الكتب - قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل: ((قوم يجتالون الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس لباس مسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب، فعلي يجترئون؟ وبي يغترون، حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيهم حيران)) . قال القرظي: تدبرتها في القرآن، فإذا هم المنافقون، فوجدتها: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام} ، {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به} .
وسنده إلى محمد بن كعب ونوف البكالي صحيح.
فالليث بن سعد، وعبد الله بن وهب، ويونس بن عبد الأعلى كلهم ثقات تقدمت تراجمهم.
وخالد بن يزيد الجمحي، مولاهم، ويقال: السكسكي، أبو عبد الرحيم المصري، يروي عن سعيد بن أبي هلال وعطاء بن أبي رباح والزهري وغيرهم، روى عنه سعيد بن أبي أيوب وحيوة بن شريح والليث بن سعد وغيرهم، وهو ثقة فقيه، روى له الجماعة، ووثقه العجلي ويعقوب بن سفيان وأبو زرعة والنسائي، وقال ابن يونس: ((كان فقيها مفتيا)) ، وكانت وفاته سنة تسع وثلاثين ومائة. اهـ. من "الجرح والتعديل" (3 / 358 رقم 1619) ، و "التهذيب" (3 / 129 رقم 235) ، و "التقريب" (ص191 رقم 1691).
وسعيد بن أبي هلال الليثي، مولاهم، أبو العلاء المصري، يروي عن زيد بن أسلم وأبي الزناد وقتادة والزهري وغيرهم، روى عنه خالد بن يزيد المصري وعمرو بن الحارث والليث بن سعد وغيرهم، وهو ثقة، روى له الجماعة، ووثقه ابن سعد والعجلي وابن خزيمة والدارقطني والبيهقي والخطيب وابن عبد البر وغيرهم، وقال أبو حاتم: ((لا بأس به)) ، وقال الساجي: ((صدوق، كان أحمد يقول: ما أدري أي شيء يخلط في الأحاديث)) ، وكانت ولادته بمصر سنة سبعين للهجرة، ونشأ بالمدينة، ثم رجع إلى مصر إلى أن توفي سنة خمس وثلاثين ومائة، وقيل غير ذلك في سنة وفاته. اهـ. من "الجرح والتعديل" (4 / 71 رقم 301) ، و "التهذيب" (2 / 94 - 95 رقم 159) .
وعبارة الإمام أحمد التي حكاها عنه الساجي لا تحط سعيد بن أبي هلال إلى درجة الجرح، بل مفادها أنه أخطأ وخلط في بعض الأحاديث، وهذا أمر لا يسلم منه راو من الرواة، وقد يكثر من الراوي فيعد جرحا، ولا أظن سعيدا كذلك، وإلا لذكر عنه، فيقال إذن: إنه ليس في الثقة كشعبة وسفيان، ولا ينزل إلى درجة محمد بن إسحاق وأضرابه، وقد اعتمد ابن حزم - فيما يظهر - على عبارة الإمام أحمد هذه، فقال عن سعيد هذا: ((ليس بالقوي)) ، وهذا جرح لم يسبقه إليه أحد؛ قال الذهبي في "الميزان" (2 / 162 رقم 3290) : ((سعيد بن أبي هلال، ثقة معروف، حديثه في الكتب الستة ... ، قال ابن حزم وحده: ليس بالقوي)) ، وقال في "سير أعلام النبلاء" (6 / 303) : ((الإمام الحافظ الفقيه ... ، أحد الثقات)) ، وقال ابن حجر في "التقريب" (ص242 رقم 2410) : ((صدوق، لم أر لابن حزم في تضعيفه سلفا، إلا أن الساجي حكى عن أحمد أنه اختلط)) . اهـ. ولم يقل ذلك الإمام أحمد، وإنما قال: ((يخلط في الأحاديث)) ، وفرق بين العبارتين.
ولم أجد من نص على أن سعيد بن أبي هلال روى عن محمد بن كعب القرظي، لكن سماعه منه محتمل جدا، محمد بن كعب مدني، وسعيد نشأ بالمدينة، وقد تعاصرا فترة طويلة، فوفاة محمد بن كعب كانت سنة عشرين ومائة كما في ترجمته في الحديث، وسعيد ولد سنة سبعين للهجرة.
وذكر الحافظ ابن كثير هذا الحديث في "تفسيره" (1 / 246) من كلا الطريقين نقلا عن ابن جرير، ثم قال: ((وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح)) .
قلت: الذي يظهر أن ابن كثير يعني بالحسن رواية أبي معشر عن محمد بن كعب، وبالصحيح رواية سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن كعب أيضًا.
وقد روي الحديث مرفوعًا؛ من حديث أبي هريرة، وابن عمر، وأبي الدرداء - رضي الله عنهم -، ولا يصح رفعه.
أما حديث أبي هريرة يرفعه، فلفظه: ((يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله تعالى: أفبي تغترون، أم علي تجترئون، فبي حلفت: لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيران)) .
أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (ص17 رقم 50) فقال: أخبرنا يحيى بن عبيد الله، قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - ... ، فذكره.
ومن طريق ابن المبارك أخرجه الترمذي في "سننه" (7 / 84 - 85 رقم 2515) في الزهد، باب ما جاء في ذهاب البصر.
وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1 / 232) .
والبغوي في "شرح السنة" (14 / 394 رقم 4199) ، وقال: ((هذا الحديث لا يعرف إلا من هذا الوجه، ويحيى بن عبيد الله تكلم فيه شعبة)) .
وأخرجه هناد في "الزهد" (2 / 437 رقم 860) من طريق يعلى بن عبيد، عن يحيى بن عبيد الله، به مثله.
وسنده ضعيف جدًا؛ مداره على يحيى بن عبيد الله بن عبد الله بن موهب - بفتح الميم والهاء بينهما واو ساكنة -، التيمي، المدني، يروي عن أبيه، روى عنه أبو حنيفة وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض ويحيى القطان ويعلى بن عبيد وغيرهم، وهو متروك، قال شعبة: ((رأيته يصلي صلاة لا يقيمها فتركت حديثه)) ، وتركه يحيى بن سعيد القطان وقال: ((هو ضعيف الحديث)) ، وضعفه ابن عيينة، وقال الإمام أحمد: ((منكر الحديث ليس بثقة)) ، وقال ابن معين: ((ليس بشيء)) ، وقال ابن أبي شيبة: ((كان غير ثقة في الحديث)) ، وقال مسلم بن الحجاج: ((ساقط متروك الحديث)) ، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن يحيى بن عبيد الله فقال: ((ضعيف الحديث، منكر الحديث جدا)) ، ونهاني أن أكتب عن المنذر بن شاذان، عن يعلى، عن يحيى هذا، وقال: ((لا تشتغل به)) ، وقال النسائي: ((متروك الحديث)) . اهـ. من "الجرح والتعديل" (9 / 167 - 168 رقم 692) ، و "التهذيب" (11 / 252 - 254 رقم 406) ، و "التقريب" (ص594 رقم 7599) .
وأما حديث عبد الله بن عمر، فأخرجه الترمذي في الموضع السابق (7 / 86 - 87 رقم 2516) من طريق حاتم بن إسماعيل عن حمزة بن أبي محمد، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله تعالى قال: لقد خلقت خلقا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، فبي حلفت: لأتيحنهم فتنة تدع الحليم منهم حيران [في الأصل: حيرانا] ، فبي يغترون؟ أم علي يجترئون؟)) .
قال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عمر، لا نعرفه إلا من هذا الوجه)) .
قلت: بل هو ضعيف لضعف حمزة بن أبي محمد المدني، يروي عن عبد الله بن دينار وموسى بن عبد الله الخطمي وغيرهما، روى عنه حاتم بن إسماعيل، فقد قال عنه أبو حاتم الرازي: ((ضعيف الحديث، منكر الحديث، لم يرو عنه غير حاتم)) ، وقال أبو زرعة: ((مديني لين)) ، وذكره بن البرقي في "الطبقات"، في باب من كان الأغلب عليه الضعف، ونقل ابن خلفون عن العجلي توثيقه. اهـ. من "الجرح والتعديل" (3 / 215 رقم 947) ، و"التهذيب" (3 / 32 - 33 رقم 50) ، و "التقريب" (ص180 رقم 1532) .
وأما حديث أبا الدرداء يرفعه، فلفظه: ((أنزل الله عز وجل في بعض كتبه، أو أوحى إلى بعض أنبيائه: قل للذين يتفقهون لغير الدين، ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، يلبسون للناس مسوك الكباش، قلوبهم كقلوب الذئاب، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر: إياي يخدعون، أو بي يستهزئون، فبي حلفت: لأتيحن لهم فتنة تدع الحليم حيران)) .
أخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2 / 162) .
وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1 / 231 - 232) .
وابن عساكر في "ذم من لا يعمل بعلمه" (ص48 - 49 رقم 9) .
وابن النجار في "ذيل تاريخ بغداد" (2 / 37) .
أما الخطيب وابن عساكر وابن النجار فمن طريق أبي خبيب العباس بن أحمد بن محمد بن عيسى البرتي، وأما ابن عبد البر فمن طريق عبد الله بن أحمد بن موسى، كلاهما عن أبي سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي، عن أخيه محمد بن المغيرة، عن أبيه، عن عثمان بن عبد الرحمن، عن ابن شهاب، عن عائذ الله بن عبد الله، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، به.
والحديث بهذا الإسناد موضوع، آفته عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص، الزهري، الوقاصي، أبو عمر المدني، يروي عن أن أبي مليكة والزهري وعطاء وغيرهم، روى عنه يونس بن بكير وحجاج بن نصير وإسماعيل بن أبان وغيرهم، وهو كذاب؛ قال ابن معين: ((لا يكتب حديثه، كان يكذب)) ، وقال أبو حاتم الرازي: ((متروك الحديث، ذاهب الحديث، كذاب)) ، وقال ابن المديني: ((ضعيف جدا)) ، وقال البخاري: ((تركوه)) ، وقال النسائي: ((متروك)) ، وفي رواية: ((ليس بثقة، ولا يكتب حديثه)) . اهـ. من "الجرح والتعديل" (6 / 157 رقم 865) ، و "التهذيب" (7 / 133 - 134 رقم 279) .
ومن خلال ما سبق يتضح أن الحديث لا يصح رفعه، وإنما هو صحيح عن محمد بن كعب القرظي ونوف البكالي على أنه مما أخذه نوف عن كتب أهل الكتاب، وانظر الحديث الآتي).