بسم الله الرحمن الرحيم اما بعد: ايها الغريب لاتحزن فان كنت من الناس بعيدا فانك من الله قريبا وان كنت مجهولا في الارض ومغمورا فانك في السماء معروفا ومشهورا وهل السعادة الا هذه لمن عرف السعادة قال ابن القيم رحمه الله فَالْغُرْبَةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: غُرْبَةُ أَهْلِ اللَّهِ وَأَهْلِ سُنَّةِ رَسُولِهِ بَيْنَ هَذَا الْخَلْقِ، وَهِيَ الْغُرْبَةُ الَّتِي مَدَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَهَا، وَأَخْبَرَ عَنِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ: أَنَّهُ بَدَأَ غَرِيبًا وَأَنَّهُ سَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَأَنَّ أَهْلَهُ يَصِيرُونَ غُرَبَاءَ.
وَهَذِهِ الْغُرْبَةُ قَدْ تَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَبَيْنَ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، وَلَكِنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْغُرْبَةِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ حَقًّا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَأْوُوا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْتَسِبُوا إِلَى غَيْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَدْعُوا إِلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ فَارَقُوا النَّاسَ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ، فَإِذَا انْطَلَقَ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ آلِهَتِهِمْ بَقُوا فِي مَكَانِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَا تَنْطَلِقُونَ حَيْثُ انْطَلَقَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَا النَّاسَ وَنَحْنُ أَحْوَجُ إِلَيْهِمْ مِنَّا الْيَوْمَ، وَإِنَّا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا الَّذِي كُنَّا نَعْبُدُهُ.
فَهَذِهِ الْغُرْبَةُ لَا وَحْشَةَ عَلَى صَاحِبِهَا، بَلْ وَآنَسُ مَا يَكُونُ إِذَا اسْتَوْحَشَ النَّاسُ، وَأَشَدُّ مَا تَكُونُ وَحْشَتُهُ إِذَا اسْتَأْنَسُوا، فَوَلِيُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَإِنْ عَادَاهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَجَفَوْهُ.
وَفِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عَنِ اللَّهِ تَعَالَى «إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي: لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِّ ذُو حَظٍّ مِنْ صَلَاتِهِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ غَامِضًا فِي النَّاسِ، لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ، ثُمَّ حَلَّتْ مَنِيَّتُهُ، وَقَلَّ تُرَاثُهُ، وَقَلَّتْ بَوَاكِيهِ» .
وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءِ: مَنْ ذَكَرَهُمْ أَنَسٌ فِي حَدِيثِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ مُلُوكِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: كُلُّ ضَعِيفٍ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْغَرِيبِ لَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا، وَلَا يُنَافِسُ فِي عَزْلِهَا، لِلنَّاسِ حَالٌ وَلَهُ حَالٌ، النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ فِي تَعَبٍ.
وَمِنْ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءِ الَّذِينَ غَبَطَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّمَسُّكُ بِالسُّنَّةِ، إِذَا رَغِبَ عَنْهَا النَّاسُ، وَتَرْكُ مَا أَحْدَثُوهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ وَتَجْرِيدُ التَّوْحِيدِ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَتَرْكُ الِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَا شَيْخَ وَلَا طَرِيقَةَ وَلَا مَذْهَبَ وَلَا طَائِفَةَ، بَلْ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءُ مُنْتَسِبُونَ إِلَى اللَّهِ بِالْعُبُودِيَّ ةِ لَهُ وَحْدَهُ، وَإِلَى رَسُولِهِ بِالِاتِّبَاعِ لِمَا جَاءَ بِهِ وَحْدَهُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْقَابِضُونَ عَلَى الْجَمْرِ حَقًّا، وَأَكْثَرُ النَّاسِ بَلْ كُلُّهُمْ لَائِمٌ لَهُمْ.
فَلِغُرْبَتِهِم ْ بَيْنَ هَذَا الْخَلْقِ: يَعُدُّونَهُمْ أَهْلَ شُذُوذٍ وَبِدْعَةٍ، وَمُفَارَقَةٍ لِلسَّوَادِ الْأَعْظَمِ.
وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمُ النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ» أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ رَسُولَهُ وَأَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى أَدْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَهُمْ بَيْنَ عُبَّادِ أَوْثَانٍ وَنِيرَانٍ، وَعُبَّادِ صُوَرٍ وَصُلْبَانٍ، وَيَهُودٍ وَصَابِئَةٍ وَفَلَاسِفَةٍ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ غَرِيبًا، وَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَاسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ غَرِيبًا فِي حَيِّهِ وَقَبِيلَتِهِ وَأَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ.
فَكَانَ الْمُسْتَجِيبُو نَ لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ نُزَّاعًا مِنَ الْقَبَائِلِ، بَلْ آحَادًا مِنْهُمْ تَغَرَّبُوا عَنْ قَبَائِلِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ ، وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانُوا هُمُ الْغُرَبَاءُ حَقًّا، حَتَّى ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَانْتَشَرَتْ دَعْوَتُهُ وَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ أَفْوَاجًا، فَزَالَتْ تِلْكَ الْغُرْبَةُ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَخَذَ فِي الِاغْتِرَابِ وَالتَّرَحُّلِ، حَتَّى عَادَ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، بَلِ الْإِسْلَامُ الْحَقُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ هُوَ الْيَوْمَ أَشَدُّ غُرْبَةً مِنْهُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْلَامُهُ وَرُسُومُهُ الظَّاهِرَةُ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ، فَالْإِسْلَامُ الْحَقِيقِيُّ غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَهْلُهُ غُرَبَاءُ أَشَدُّ الْغُرْبَةِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَكَيْفَ لَا تَكُونُ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا غَرِيبَةً بَيْنَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، ذَاتَ أَتْبَاعٍ وَرِئَاسَاتٍ وَمَنَاصِبَ وَوِلَايَاتٍ، وَلَا يَقُومُ لَهَا سُوقٌ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَإِنَّ نَفْسَ مَا جَاءَ بِهِ يُضَادُّ أَهْوَاءَهُمْ وَلَذَّاتِهِمْ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبْهَاتِ وَالْبِدَعِ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى فَضِيلَتِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي هِيَ غَايَاتُ مَقَاصِدِهِمْ وَإِرَادَاتِهِم ْ؟
فَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ السَّائِرُ إِلَى اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ غَرِيبًا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدِ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَأَطَاعُوا شُحَّهُمْ، وَأُعْجِبَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِرَأْيِهِ؟ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا يَدَ لَكَ بِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهُمْ، فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ أَيَّامًا صَبْرُ الصَّابِرِ فِيهِنَّ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ» .