إن يوم الفصل كان ميقاتا
بدايةُ الإنسان تحمل نهايتَه، بل إن النهاية سابقةٌ للبداية، هذه حقيقة لا بد للإنسان أن يعترف بها؛ لأنها حقيقة مقرَّرة نصًّا وواقعًا، ويظهر ذلك جليًّا في النصوص القرآنية والنبوية، يقول ربُّنا - سبحانه وتعالى -: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]، فهنا قدَّم مالكُ الملك الموتَ على الحياة؛ لتذكير الناس برجوعهم إليه في يوم الفصل، الذي أقِّت بميعاد لا يعلمه إلا هو، ضمن أمور غيبية حدَّدها في خواتيم سورة لقمان: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
وتتقرَّر حقيقةُ أن النهاية سابقةٌ للبداية كذلك في قوله - تعالى -: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11].
وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: «إن أحدكم يُجمَع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون عَلَقة مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يَبعَث الله ملكًا، فيؤمر بأربع كلماتٍ، ويقال له: اكتب عملَه، ورزقَه، وأجلَه، وشقيٌّ أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح...»؛ (رواه البخاري).
وفي رواية أخرى - واللفظ لمسلم -: «إن الله - عز وجل - قد وكَّل بالرحم ملكًا، فيقول: أيْ ربِّ نُطفَة، أي ربِّ عَلَقة، أي ربِّ مُضْغَة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقًا، قال: قال الملك: أي ربِّ، ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيُكتَب كذلك في بطن أمه».
فالإنسان المسكين الذي يظن نفسه شيئًا - بين بدايته، وهي: «يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون عَلَقة مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة»، ونهايته ومصيره، وهي: (وأجله، وشقي أم سعيد)).
وبعد انتهاء الأجل يأتي يوم الفصل؛ ليفصل الله بين عباده، بعد امتحان زمني طويل، منذ آدم - عليه السلام - إلى آخر إنسان يموت على هذه الأرض، فترة زمنية عتيقة جدًّا، ضاربة في عمق التاريخ والأزمان، ولكنها تساوي صفرًا على الشمال بالنسبة ليوم الفصل، الذي مقداره: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4].
إن يوم الفصل هو يوم القضاء والحكم بين الناس، وهو ميعادهم الذي يحضرون فيه أجمعين، قال - تعالى -: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان: 40].
يومٌ يُفصَل فيه في الدماء، قال - صلى الله عليه وسلم -: «أول ما يُقضَى بين الناس في الدماء»؛ (متفق عليه).
ويُفصَل فيه في الأعراض التي اتُّخذت غرضًا؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون ما المفلس»؟، قالوا: المفلس فينا مَن ليس له درهم ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكَل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيت حسناته قبل أن يُقضَى ما عليه، أُخِذ من خطاياهم، فطُرِحت عليه، ثم طُرِح في النار»؛ (متفق عليه).
ويُفصَل - في يوم الفصل - في كل صغيرة وكبيرة، حتى إنه لَيفصلُ بين الحيوانات، فيأخذ الحيوان الذي اعتُدِي عليه حقَّه من المعتدي؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتؤدُّنَّ الحقوقَ إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقَاد للشاة الجَلْحَاء من الشاة القَرْنَاء»؛ (متفق عليه).
وهنا ترى كلَّ أمة جاثيةً؛ مما ترى من هول الموقف، ترى الحفاةَ العراةَ من حولك، ولا تستطيع أن تسأله: أين مُلكك وسلطانك؟ أين مالُك وجَاهُك؟ أين عشيرتك وجيرانك؟ لماذا لا تستطيع أن تواري سوءتك؟
ترى الأطفال يَشِيبون بجوارك، وترى ذواتِ الأحمال يَضَعْن حملهن، وترى الناس من حولك وكأنهم قد أصابهم السُّكْر، ووسط هذا الفزع تسمع صوت الزلزلة، قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1، 2].
والناس في يوم الفصل ثلاثة أزواج؛ أي: أصناف ثلاثة:
1- {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة: 8].
2- {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة: 9].
3- وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10].
أما أصحاب الميمنة، فهم أصحاب اليمين، كما أوضحه - تعالى - بقوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة: 27 - 28].
وأصحاب المشأمة هم أصحاب الشمال، كما أوضحه - تعالى - بقوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة: 41 - 42].
قال بعض العلماء:
• قيل لهم: أصحاب اليمين؛ لأنهم يؤتَون كتبهم بأيمانهم.
• وقيل: لأنهم يُذهب بهم ذات اليمين إلى الجنة.
• وقيل: لأنهم عن يمين أبيهم آدم، كما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك ليلةَ الإسراء.
• وقيل: سموا أصحاب اليمين، وأصحاب الميمنة؛ لأنهم ميامين؛ أي: مباركون على أنفسهم؛ لأنهم أطاعوا ربهم فدخلوا الجنة، واليُمنُ البركة.
• وسمي الآخرون: أصحاب الشمال.
• قيل: لأنهم يؤتَون كتبهم بشمائلهم.
• وقيل: لأنهم يذهب بهم ذات الشمال إلى النار، والعرب تسمي الشمال: شؤمًا، كما تسمي اليمين: يمنًا، ومن هنا قيل لهم: أصحاب المَشْأَمة، أو لأنهم مشائيم على أنفسهم، فعصوا الله فأدخلهم النار.
وبيَّن - جل وعلا - أن السابقين هم المقرَّبون، وذلك في قوله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } [الواقعة: 10، 11]؛ (انظر: أضواء البيان، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي 7/513).
هذا هو يوم الفصل، والناس - كما مرَّ - ثلاثة أصناف: (مقرَّب - وصاحب اليمين - وصاحب الشمال)؛ فهل تخيَّل كل منا من أي صنف سيكون؟
______________________________ ____________________
الكاتب: د. خالد راتب