[الشباب والهرم]
قال لي القلم: إني أريد أن أكتب؟ قلت: عن أي شيء تريد أن تكتب؟
قال: عن الشباب والهرم، عن الحداثة والكبر، فحدّثني عنهما بعدما بترتَ عقدك الثالث من عمرك.
قلت له: ائتِ بالصحيفة وإني مُمْليكَ فاكتبْ وأحسن الإملاء. قال: أفعلُ إن قدر الله.
قلت: أما الشباب فهو رأس ممتلئة بالآمال والأحلام، وقلبٌ ينبض فيه الصفاء فتجري فيه الدماء الحمراء فلا يعكر نعمانَها (حمارها) سؤرُ بغضاء ولا آجِنَةُ حسداء.
هو الذي يستنطق بقلمه وحسّه ما تراه عينه وما لا تراه (خياله).
يعيش في رأسه القرون ويبيت عنده العبر والدهور فيحادث الأعلام، ويشافه الآنام وقد بليتْ عظامهم وبقيت آثارهم، لكنه يستحضر منهم ما يريد ويجالسهم فيستفيد.
فمن كان كذلك فهو الشاب اليافع ولو أَمْأَى عمرَه ولو جاءه النذير واكتسى كساء المقت ولو ذرأت مجاليه واحدودب ظهره وتأبط يدَه غيرُه ولو جعل العصا تُكأةً له.
أما الشائخ يا خليلي: هو الذي لا يعرف غده من أمسه، هو الذي لا يعرف الصفاء فكلامُه مكدَّر، ولسانُه محجَّر، وقلبُه منكَّت.
الشائخ: هو الذي لا يروي شجرةً أظلته. وشجرتُه ذاتُه، وظلُّه عمرُه، ورويُه عقلُه.
الشائخ: هو الذي لا يجالس ويشافه قرونًا وحقبًا قد مضت وانصهرت.
ولو لمع سواد شعره ولو كان أسيل الخدين، أحمر الديباجة مُعتدِل القَناةِ، سَوِيّ العصا، يتأبط غيرَه.
لا تكثر بثجِّ (الصب الكثير) مدادِ غيرك فيما تكتب، فحبرك أولى وأغلى من حبره.
لا تكثر من النقل إذا نقلتَ، وحاول تعلق عليه بكلام لك، وتكلم حتى نعرف من أنت فالصواب تُحمد عليه والخطأ تُقوّم فيه.
إذا نقلتَ فاكتبْ الجزء والصفحة مع الناشر.
ولو نقلت بالمعنى قلْ بتصرف أو بتصريف مني، ولو نقلت نقلا حرفيا ضعْ علامة التنصيص «».
درِّبْ نفسَك على الإنشاء والكتابة فيما أنت مشغولٌ به.
اجعلْ معك مفكّرة صغيرة أو عدة أوراق وقلمًا واكتب ما يعنّ لك من خواطر في طريقك، واستيقظ لو كنت نائما واكتب ما خطر لك لا تدري متى تأتي الإغارة على الجهل.
فبعض الناس يريدون منا أن لا نستخدم من المعجم العربي إلا مادة (قول) قال يقولون، حتى الزعم إياك أن تستعمله فيما تكتب إلا إذا كان المقصود به القول كما في لغة بعض العرب، إياك أن تتيمم به التشكيك أو التخطئة.
أما أن تسند القول إلا تاء الفاعل (قلتُ) فقولك مطلولٌ عليك. غير مقبول منك !
تريدون أن تقتلوا فينا القول بعلم وعدل وإنصاف
اطمئنوا سوف نستخدم كل مواد المعجم العربي وتقاليبها بتاء الفاعلية وغيرها، ما أتى علينا تباشير صبح بعد سبات بليل.
[حالي مع الكتب الجديدة في مكتبتي]
ومن لوازمي قبل أن يأتيني النوم أصفف مجموعة كبيرة من الكتب الحديثة والتي لم أتصفحها بعد على أريكة نومي، فلا يزال تناول أطراف الحديث بيننا حتى يحضرنا السبات والوسن معا فيعانق كلانا الآخر ونذهب في نومة قليلة لأن كتابي لا ينام إلا غِرارًا، وفي حضوره لا أمضمض عيني بنوم إلا لماما، وهو مع ذلك لا يفارقني حلم نومي فلا يزال يعارضني وأعارضه ويجادلني وأجادله حتى أؤب من موتتي الصغرى وأنا أحمله على يدي كما تحمل الأم طفلها الرضيع التي لا ترى في الدنيا أحسن منه منظرًا ولا أبهى منه صورةً، إلى أن أنزله من يدي منزلاً محفوفًا بأبهة الملك والأمراء؛ لأسطر ما دار بيننا من تناول الأحاديث والقصص وأنا أمين كل الإمانة في نسبة كلامي إلى كلامه فأعزو في كراريسي ما له عما هو لي، صريح مع قلمي إذا كانت غلبة سجال الحديث له فأنصفه في ذلك كل الإنصاف إلى أن تأتيه نوبة غلبتي له فأذكره بها وأقول له: هذه بتلك، فيضحك كلانا قائلين قالة أبي سفيان بن حرب: الحرب سجال، يوم لك ويوم عليك.
[الحمار المنفوج الذي لا يكف عن النهيق]
«لقد أغرب حمارك وأشرق أتانك». هو مثل لي.
ومن الناس من تحتاج إلى أن تقول له: لقد أغرب حمارك، وأشرق أتانك حتى يعضّ أضراسه ويشحذ عقله وينصب ظهره؛ ليوقظ راكبه (شيطانه) والحمار الذي بداخلة إزاره، ويلبسه إكافه وسرجه، وهو مع حماره المغرّب وأتانه المشرّق لا يفرغ من نهقٍ، ألبتة؛ لأنه بصحبة شيطان وحماره إلى أن يشهد أذانَ صلاةٍ قد حضر وقتها، فيكف عن النهق قليلا، وحين يفرغ المؤذن من أذانه يعود مرة أخرى إلى نهقه وهكذا دواليك، فيألّب الساهرة كلها عليك ويذيع في الناس اعوجاج فكرك وطراوة نضجك حتى تصير أنت عمله الدارب. فإن قلت له: بلَّ ريقك، اخفض صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير فلا يلتفت ويعلي أجراس النهيق، وكأنّه في مسابقة: (أفضل ناهق لا يفرغ من نهقه)! فلا تقع عينه إلا على أقذار الناس وما غفلت أعينهم عنه ولا يستنشق وحماره إلا دَفَر (نتن) الناس، ولو نظر إلى خروق ثوبه ورفأها وأحسن التئامها لكان خيرا له وأصلح، ولكنَّ الحمارَ المغرّب والأتان المشرّق لا يكف عن النهيق إذا حضره شيطانه.