الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
إن تطلب المصلحة أمر مشروع لأن الشريعة مصلحة كلها, قال ابن القيم رحمه الله : "إن الشريعة مبناها وأساسها العدل، وتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمه كلها، ومصالح وحكمة كلها". غيرأن المصلحة تبقى مسألة نسبية، وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان وباختلاف الاحوال أيضا, وقل ما تجد مصلحة تخلو من مضرة .قال تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) . فلزم الرجوع إلى الشرع المنزه تحريا للمصلحة الراجحة والبعد عما فيه مضرة ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالاتها على الأحكام"(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ص 33) ويقول أيضا في المصدرنفسه : ص33): "وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد ...، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر. لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته."
فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح وذلك استنادا إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (يا عائشة لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس وباب يخرجون) قال الحافظ ابن حجر: "ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه صلاحهم، ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرماً" فتح الباري1/225.
وقال النووي في شرح الحديث: "وفي الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدأ بالأهم؛ لأن نقْضَ الكعبة وردَّها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدون من فضل الكعبة فيرون تغييرها فتركها صلى الله عليه وسلم" شرح النووي على صحيح مسلم9/89.
وعلى هذا فالضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه، وإذا لزم الامر فيرتكب أخف الضررين وأهون الشرين، ويحتمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأكبر، ويحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
وكذلك تقدم المصلحة الكبيرة على المصلحة الصغيرة، وتقدم مصلحة الأمة على مصلحة الفرد، وتقدم المصلحة المتيقنة على المصلحة المظنونة أو المتوهمة، وتقدم المصلحة الدائمة على المصلحة العارضة أو المنقطعة، وكذلك فإن المفسدة الصغيرة تغتفر تحقيقا لمصلحة كبيرة، ولا تترك مصلحة متحققة من أجل مفسدة متوهمة.
قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالاً لأمر الله تعالى فيهما لقوله سبحانه وتعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(ا لتغابن:16)، وإن تعذر الدرء والتحصيل، فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة, قال الله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)(الب قرة:219)، حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما... وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة، وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يتخير بينهما وقد يتوقف فيهما وقد يقع الاختلاف في تفاوت المفاسد".(قواعد الاحكام في مصالح الانام للعز بن عبد السلام ص:74-75)