ما فتئ من لا يرضى تحكيم الشريعة في هذا العصر يتحايل على أحكام الدين، فيثبت منها ما لا يتعارض مع مقومات المدنية الحديثة، ويرفض منها ما يتنافى بزعمه مع مقتضيات المعاصَرة، ولقد تأملت حال من هذا صنيعه في رمضان فألفيتُ من هؤلاء العلمانيين والليبراليين من يريد أن يحدث تغييرا في شريعة الصيام حتى تساير بزعمه التطور والحياة المعاصرة، فيذهب يجتهد في أن يُنقص من عدد أيام الصيام من شهر إلى نصف شهر، ويبرر ذلك بأن المردودية تقل في هذا الشهر الكريم، والاقتصاد يتضرر، لقلة ساعات العمل، وقلة النشاط، ونضوب الحركة!!!
إن الصوم لم يفرض من أجل التواكل والتكاسل، ولا من أجل قتل روح الجد و المنافسة، بل إنه إنما فرض على المسلمين من أجل التخفف من أعباء الطعام مداواة للروح، وشفاء لأسقام الجسد، وإذا حصل هذا وهذا قويت العزائم، وزاد النشاط، وارتفعت الفرص، فأثر ذلك في الاقتصاد إيجابا لاسلبا، وقوة لا ضعفا، فهل لكثرة أو قلة أيام الصيام دخل في النشاط الاقتصادي، والتقدم المادي للأمة؟؟!!
إن غاية هذه الأصوات التي ترتفع من حين إلى آخر منادية بإعادة النظر في شعيرة الصيام نقصا و مسخا، وتحويرا وتبديلا- إنقاص مهابة رمضان من القلوب، والنيل من منزلة الصيام من الأفئدة، وإضعاف مكانة الصبر على الجوع والعطش عند المسلم، والظن يقوى أن أصحابها ممن ماتت الغيرة الدينية في قلوبهم، وانطفأت جذوة الإيمان من أفئدتهم، فأفطروا في رمضان سرا، وانتهكوا حرمة الشهر الفضيل عنادا وكفرا، مُصريِّن على المحاربة، ماضين في المكابرة، وهم في صنيعهم هذا يضُرُّون أنفسهم ولا يضرُّون أحدا، ويميتون مهجهم قبل أن يموتوا ، فهم هلكى في صورة أحياء، وموتى على قيد الحياة، فلا الصيام غيروا، ولا لفكرهم روَّجوا، وسيبقَوْن كذلك يعيشون بفكر مستعار، وروح مستلبة، ورِجل عرجاء، وذاتٍ مُقعدة، وفي ذلك عبرة لأولي الأبصار.