10-06-2015 | مركز التأصيل للدراسات والبحوث
ومن بين هؤلاء العلماء الإمام سفيان الثوري، الذي شهد له أئمة عصره بالريادة والإمامة في الحديث الشريف حتى سمي "أمير المؤمنين في الحديث"، كما كانت له مدرسته الفقهية المستقلة التي تدل على سعة علمه وفقهه، ناهيك عن صفاته الخلقية والتعبدية التي تميز بها، وكتبه ومؤلفاته التي صنفها.


إذا كانت المذاهب الفقهية الأربعة – الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي - المنتشرة في العالم الإسلامي هي الأكثر شهرة من بين المذاهب الفقهية الإسلامية، فإن هذا لا يعني أن أصحابها هم الفقهاء المجتهدون الوحيدون في تاريخ الأمة الإسلامية، فهناك العديد من العلماء الثقات المجتهدين في عصر الفقهاء الأربعة، الذين كانت لهم مكانة عظيمة في الحديث والفقه، إلا أنه لم يقدر لمذهبهم الانتشار كما هو شأن المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة.
ومن بين هؤلاء العلماء الإمام سفيان الثوري، الذي شهد له أئمة عصره بالريادة والإمامة في الحديث الشريف حتى سمي "أمير المؤمنين في الحديث"، كما كانت له مدرسته الفقهية المستقلة التي تدل على سعة علمه وفقهه، ناهيك عن صفاته الخلقية والتعبدية التي تميز بها، وكتبه ومؤلفاته التي صنفها.
وفي هذا التقرير سأحاول تسليط الضوء على حياة هذا الإمام الفقيه المحدث، مشيرا إلى نبذة من حياته، وعقيدته التي كان يدين به، وأهم آرائه الفقهية التي تميز بها، وأبرز شيوخه وتلامذته، و محنته ومعاناته مع خلفاء بني العباس، والتي استمرت حتى وفاته رحمه الله.
اسمه ونسبه ومولده
هو شيخُ الإسلام، إمام الحفَّاظ، سيِّد العلماء العاملين في زمانه، أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثَّوريُّ الكوفي، وُلد سنة 97 هـ اتفاقا، في بيت علمٍ وورعٍ وديانة وصلاحٍ، فأبوه: سعيد بن مسروق الثَّوري، من ثقات المحدثين، ومعدودٌ في طبقة صغار التابعين، ومن تلاميذ الشَّعبيِّ، كما يعتبر سفيان من تابع التابعين. (1)
وأم سفيان كانت ذات ورع وزهد ، ذكرها ابن الجوزي والمناوي في الصالحات المتورعات من النساء، ونقلا عنها كلمة جديرة بأن تحفظها أمهات المسلمين في كل جيل، ويلقنها لأولادهن مرة بعد أخرى: "اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي، فإذا كتبت عدد أحاديث فانظر هل تجد في نفسك زيادة فاتبعه، وإلا فلا تتعن" (2)
وُلد سفيان في الكوفة في خلافة سليمان بن عبد الملك، وظلَّ بها معظم حياته، وقد خرج منها سنة 155 هـ أثناء محنته مع خلفاء بني العباس، ولم يعد إليها حتى وفاته كما يذكر المؤرخون . (3)
طلبه للعلم وأشهر شيوخه وتلامذته
بدأ الثوري طلب العلم منذ الصغر، وكيف لا وقد كان بيته بيت وجاهة ووثوق في الحديث، كما أن الكوفة – مسقط رأسه - كانت في تلك الأيام من أهم مراكز العلوم الشرعية: الحديث والفقه، وكشأن التابعين وتابعيهم فقد بدأ الثوري طلب العلم بسماع الحديث النبوي، ومن أهم شيوخه: أبو اسحق الهمداني، وحبيب بن ثابت، وعمر بن دينار، وابراهيم بن عبد الأعلى، وابراهيم بن عقبة، وغيرهم كثير من علماء الكوفة والبصرة والحجاز وغيرها. (4)
ولما انتشر صيته في بلاد الإسلام، رحل إليه طلبة الحديث والفقه، ولم ينقطع اجتماع طلبلة العلم عليه حتى في فترة اختفائه من بين مكة والبصرة وغيرها، وقد ذكر ابن أبي حاتم والخطيب أشهر تلامذته، فذكروا من بينهم: شعبة ومالك بن أنس ويحيى بن سعيد القطان، والأوزاعي وابن المبارك وسفيان بن عيينة وغيرهم. (5)
شهادة العلماء الثقات فيه
شهد كثير من العلماء والأئمة الثقات في سفيان الثوري، ومن أشهر هذه الشهادات والأقوال:
قال شعبة وابن عيينة وأبو عاصم وابن معين وغيرهم: "سفيان أمير المؤمنين في الحدث".
وقال ابن المبارك: "كتبت عن ألف ومائة شيخ – ما كتبت عن أفضل من سفيان"
وقال ابن عيينة: لم يدرك مثل ابن عباس في زمانه، ولا مثل الشعبي في زمانه، ولا مثل الثوري في زمانه"
وقال الإمام أبو حنيفة: "لو كان سفيان الثوري في التابعين لكان فيهم له شأن"
وقال الأوزاعيُّ: "لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلاً، يقوم فيها بكتاب الله وسنة نبيه؛ لاخترت لهم سفيان الثَّوريَّ".
وقال الشَّافعيُّ: "ما رأيتُ بالكوفة رجلاً أتبع للسُّنَّة ، ولا أودُّ أني في مسلاخه من سفيانَ الثَّوريِّ".
وقال أحمد بن حنبل: "أتدري من الإمام؟ الإمام سفيانُ الثَّوري، لا يتقدَّمه أحد في قلبي". (6)
اهتمامه بعلم الحديث
يقول عبد الصمد بن حسان: سمعت سفيان يقول: "الإسناد سلاح المؤمن فمن لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل"، وقال أيضا: "أكثروا من الأحاديث فإنها سلاح"، وكان يقول: ليس شيء أنفع للناس من الحديث، وقيل له: إلى متى تطلب الحديث؟ فقال: "وأي خير أنا فيه خير من الحديث فأصير إليه؟ إن الحديث خير علوم الدنيا"، وما ذاك إلا لأن في الحديث تفصيل لمجمل كتاب الله تعالى وتبيين له. (7)
ورعه وزهده و بعده من البدع
إذا كان الورع هو ترك المشتبه من الأموال والأطعمة والأشربة والألبسة مهما تكثر الحاجة إليها، ناهيك عن ترك الحرام لأنه فرض، فإن الإمام الثوري كان من أكثر علماء عصره ورعا، فإذا أتيح له المال الحلال أنفق وأكل، وإن لم يأته الحلال الصرف أو أتاه ما فيه شبهة صبر وانتصر على نفسه ولو لبث أياما بدون طعام.
يقول قتيبة بن سعيد: لولا سفيان لمات الورع، ويقول شعبة: إن سفيان ساد الناس بالورع والعلم. ومن أبرز أمثلة ورعه أنه جاء إلى صيرفي بمكة يشتري منه دراهم بدينار، فأعطاه الدينار، وكان معه آخر فسقط من سفيان، فطلبه فإذا إلى جانبه دينار آخر، فقال له الصيرفي: خذ دينارك، قال: ما أعرفه، قال: خذ الناقص، قال: فلعله الزائد وتركه ومضى. (8)
وبالإضافة للورع كان الثوري زاهدا بالمفهوم الصحيح للزهد، وقد قيل له يوما: أيكون الرجل زاهدا ويكون المال؟ قال: نعم، إن ابتلي صبر وإذا أعطي شكر، وقد قال الثوري أيضا: ليس الزهد في الدنيا بأكل الجشب ولبس الخشن، وإنما الزهد قصر الأمل.
وكان الثوري يخشى من البدعة أن تدخل عليه وهو لا يشعر، وكان يقول: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. وكان يقول أيضا: من سمع بدعة فلا يحكها لجلسائه لا يلقها في قلوبهم.(9)
عقيدة الإمام الثوري
رغم ذكر بعض المؤرخين من أمثال ابن قتيبة والطبري أن الثوري كان في بداية أمره يميل إلى التشيع – الذي كان ينحصر بتفضيل علي بن أبي طالب على عثمان رضي الله عنهما – إلا أنه ثبت أنه ترك ذلك وسلك مسلك أهل السنة بعد أن لقي ابن عون وأيوب في البصرة، وقد تواتر النقل بهذا.
ولعل من أبرز الأدلة على ذلك ما روى الذهبي بإسناده عن شعيب بن حرب قال: قلت لسفيان الثوري: حدِّث بحديث في السنة ينفعني الله به، فإذا وقفت بين يديه، وسألني عنه، قلت: يارب، حدَّثني بهذا سفيان؛ فأنجو أنا، وتؤخذ.
فقال: اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم، القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعو د .... والإيمانُ قول وعمل ونيَّة، ويزيد وينقص، وتقدمه الشيخين إلى أن قال: يا شعيب، لا ينفعك ما كتبت، حتى ترى "المسح على الخفين"، وحتى ترى أنَّ إخفاء "بسم الله الرحمن الرحيم" أفضلُ من الجهر به، وحتى تؤمنَ بالقدر، وحتى ترى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر، والجهادُ ماض إلى يوم القيامة، والصبرُ تحت لواء السلطان، جارَ أو عدل.
فقلت: يا أبا عبدالله، الصلاةُ كلها ؟ قال: لا، ولكن صلاة الجمعة والعيدين، صلِّ خلف من أدركت، وأمَّا سائر ذلك فأنت مخير؛ لا تُصلي إلا خلف من تَثِقُ به، وتعلم أنَّه من أهل السنة، فإذا وقفتَ بين يدي الله وسألك عن هذا، فقل: يارب، حدَّثني بهذا سفيان بن سعيد، ثم خلِّ بيني وبين ربي –عزَّ وجلَّ-. (10)
فيظهر من هذا الكتاب أن الثوري كان كسائر أهل السنة، وكان يقدم الشيخين، أما عثمان وعلي رضي الله عنهما، فلعله كان يسكت عن تقديم أحدهما على الآخر ويحب كليهما، وقد ورد عنه أنه قال: "لا يستقيم حب علي وعثمان رضي الله عنهما إلا في قلب نبلاء الرجال، وإن الخلفاء الراشدين خمسة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو متجاوز للحد".
وكان يخالف المرجئة في العقيدة ويبغضهم ويحذر منهم، وقد سئل مرة أن يصل على مرجئ مات فأبى، وقد ورد أنه قال: خالفتنا المرجئة في ثلاث: نحن نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل، ونحن نقول: ويزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص، ونحن نقول: نحن مؤمنون بالاقرار، وهم يقوقون: نحن مؤمنون عند الله. (11)
بعض آرائه الفقهية
كان الإمام الثوري مجتهدا فقيها، بل ويعتبر من كبار الأئمة المجتهدين في عصره، وله مدرسة فقهية خاصة به، ويعتبر فقهه أقرب إلى الفقه الكوفي المستمد أكثره من الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، الذي أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الكوفة معلما وفقيها وقاضيا.
وقد شهد بفقه سفيان الثوري كبار العلماء في عصره، قال سفيان بن عيينة: ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري. وقال عبد الله بن داود: ما رأيت أحدا أفقه من سفيان. ويقول عبد الله بن المبارك: كنت إذا أعياني الشيء أتيت سفيان أسأله، فكأنما اغتمسه من بحر. (12)
ومن آرائه الفقهية:
1- في التيمم: يجوز أن يصلي بتيمم واحد ما شاء من الفرائض وبه قال أبو حنيفة والمزني.
2- في النية: لا تجب النية في الطهارة – الوضوء والغسل – وهو قول أبي حنيفة، وعند غيرهما تجب النية للتفريق بين لاعادة والعبادة.
3- تأخير التيمم والصلاة عند فقد الماء: ينبغي تأخير التيمم والصلاة إلى آخر الوقت إذا لم يكن على ثقة من وجود الماء ولا على يأس، وبهذا قال الإمام أحمد بن حنبل.
4- قدم المرأة ليست بعورة: وهو قول أبي حنيفة، وعند مالك والشافعي: جميع بدن المرأة عورة إلا الوجه والكفين، وعند أحمد: إلا عينيها.
5- لا يرفع المصلي يديه إلا عند تكبيرة الإحرام: بينما رفع اليدين عن الركوع وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول أحاديثها ثابتة في البخاري ومسلم.
أهم كتب ومؤلفات الثوري
صرح المؤرخون أن للثوري أكثر من كتاب ومؤلف في التفسير والحديث والفقه والاختلاف والزهد، وعده ابن الجوزي من المصنفين من العلماء المتقدمين.
ومن أهم هذه المؤلفات:
1- الجامع الكبير في الفقه والاختلاف: ذكره ابن نديم وأبو بكر ابن خليفة في فهرست مروياته، ويعتبر هذا الكتاب من أطول كتبه.
2- الجامع الصغير وكتاب الفرائض: ذكرهما ابن نديم في الفهرست.
3- آداب سفيان الثوري.
4- كتاب التفسير: ذكره الحاج خليفة باسم "تفسير الثوري"، كما رواه العلامة السندي أيضا بإسناده.
محنته ووفاته
عاصر الإمام الثوري عهد الدولة الأموية والدولة العباسية، وكانت محنته في بداية عهد الدولة العباسية مع الخليفة أبي جعفر المنصور، فقد لقيه الثوري بمنى في الحج سنة 140 - أو 144 في إحدى الروايات – فقال له الثوري: اتق الله فإنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعا، وقد حج عمر بن الخطاب فما أنفق إلا خمسة عشر دينارا، وكان ينزل تحت الشجر.
وكان الثوري يأخذ على أبي جعفر ما يفعل بالمسلمين من الجور والقهر، ناهيك عن رفضه تولي القضاء في عهده، فصبر عليه أبو جعفر مدة ثم أمر بأخذه، فخرج الثوري من الكوفة سنة 155 هاربا، ولم يعد إليها حتى مات رحمه الله. (13)
خرج الثوري من الكوفة إلى مكة، فلما وصل إليه طلبه المنصور، وجعل لمن يأتي بالثوري عشرة آلاف، فخرج الثوري من مكة إلى البصرة، ولكنه لم يمكث طويلا حتى انكشف أمره فخرج منها إلى اليمن، وهناك وقع في قبضة واليها معن بن زائدة، الذي عرف أنه بغية المنصور ولكنه قال له: ما شئت فأقم وما شئت فارحل فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها.
تنقل الثوري بين البلاد في أثناء تخفيه عن المنصور ليستقر بمكة حاجا، وكان المنصور قد عزم على الحج أيضا عام 158هجري، وقد طلب من والي مكة والخشابين أن ينصبوا الأخشاب لصلب الثوري، فلما علم الثوري بذلك تعلق بأستار الكعبة، ودعا الله عز وجل أن لا يدخل المنصور مكة، وبالغ في الدعاء، فاستجاب الله له ومرض المنصور بقدرة الله في الطريق ومات قبل أن يدخل مكة.
لم تنته محنة الثوري بعد موت أبي جعفر كما ظن، بل استدعاء ولده المهدي وأعطاه عهده بقضاء الكوفة على أن لا يعترض عليه في حكم، ولكن الثوري رمى بعهد المهدي في نهر دجلة وفر هاربا ومتخفيا من جديد، وبقي على ذلك حتى مات في البصرة سنة 161 هجري وهو ابن 64 سنة. (14)
ـــــــــــــــ ـــــــ
الفهرس
(1) سير أعلام النبلاء 7/230
(2) صفة الصفوة 3/116
(3) التاريخ الكبير للبخاري 2/93
(4) التهذيب 4/111
(5) تاريخ بغداد 9/152
(6) سير أعلام النبلاء 7/240
(7) سير أعلام النبلاء 7/273 وحلية الأولياء 6/364
(8) وفيات الأعيان 2/387
(9) حلية الأولياء 6/386-387 و 7/28-34
(10) التذكرة 1/193
(11) سير أعلام النبلاء 7/273 وحلية الأولياء 7/29
(12) الجرح والتعديل 1/57 تهذيب التهذيب 4/114 وفيات الأعيان 2/389
(13) الجرح والتعديل 3/165
(14) تاريخ بغداد 9/160