الهيمنة على الحياة العامة طبيعة الإسلام والعلمانية

إن العلمانية تجعل بعض الدين لله وبعضه لغير الله، وقد أمر الله بقتالهم حتى يكون الدين كله لله، فهذا الجهاد -وإن كنا أبعد ما نكون عنه- فإنه باقٍ إلى قيام الساعة، كما أن الهجرة باقية، ودار الإسلام ودار الكفر باقيتان أو إحداهما .
يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو) [رواه البخاري في "التاريخ" والنسائي وسنده حسن ورجاله ثقاة وأحمد والطبراني وسنده حسن والبيهقي وابن ماجه وابن حبان].
وقال –صلى الله عليه وسلم-: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) [رواه أبو داود وإسناده صحيح].
ورغم بعدنا عن هذا فإنه حقيقة لا بد من تقريرها، ولا يجوز تحريف معاني نصوص القتال أو الهجرة أو شرائع الدولة، بل تترك كما هي، إلى أن يحين وقت العمل بها كسائر الشرائع، ودين الله يعتمد الصراحة لا المخاتلة، وهي قضية مبدأ لا سياسة ظرفية، وأي مبدأ يظهر عليه الغموض والتلاعب فإن الناس ينفرون منه، ويرضون بالواقع الذي ألفوه وعرفوا حقيقته على أية حال.
ولذلك فإن بقاء المسلمين في دار الكفر إنما هو استثناء واضطرار، ولا يصبح أبدا قاعدة كما يرغبون، ذميين عند العلمانية، بل حتى بقاء دار الكفر نفسها هو استثناء محكوم بظروف الزمان والمكان المؤقتة.
ومن المغالطة قول بعض العلماء المؤمنين بالعلمانية بأن الدول الديمقراطية تسمح للمسلم بإظهار دينه، لمجرد أنها تسمح له بإظهار شعائره وأخلاقه، دون التبرؤ من مبادئ العلمانية وغيرها من شرائع الطاغوت، باتباع دين الله في نظام المجتمع مثله مثل الفرد، فالهجرة لا تجب على من أكره على ترك الصلاة فحسب.
إنهم يشترطون لترك المسلمين أحرارا أن يكون دينهم كدين الكهان، بعد تجريده من جانبه التشريعي، واعتباره قيمة روحية تخص الضمير، فهو يعطي التوصيات دون الإجراءات التي تضمنها، ويخص مجال الفرد إلا في حدود ما يحتاجونه، وهذا ليس بإسلام وأهله ليسوا بمسلمين.
فتسامح الجاهلية لا يخرج عن إطارها، ولا يمكن أن ننتظر منها غير ذلك، وكذلك الإسلام يقر التعايش والتسامح في إطاره لا في إطار العلمانية، بل يترك لأهل الذمة حكم أنفسهم بأنفسهم فيما يتعلق بعلاقاتهم فيما بينهم، ويقرهم على ما هو حلال في دينهم وإن كان حراما على المسلمين، في إطار لا يخل بالنظام العام.
فهذه الإنحرافات ناتجة عن إقرارهم بالعلمانية، وتفسيرهم الإسلام حسب ضوابطها، فيعتقدون أن غاية الإسلام من دعوته هي العقائد والشعائر والأخلاق، ولما تحققت استنفد الجهاد أغراضه، بل استنفدت الدعوة ككل أغراضها في المستجيبين لها.
ولهذا يقولون: كيف يقتنعون بنا إن هددناهم بالغزو؟ ومن هذا المفهوم يؤول الأمر ببعض أعداء الدين إلى القول بأن فتوح المسلمين كانت لأغرض دنيوية، لا لغرض نشر الإسلام، لأنه قد بقي غير المسلمين في البلاد التي سيطروا عليها إلى اليوم.
وكذلك يذبل ردهم على شبهات القائلين بأن الإسلام انتشر بالسيف، فيجيبون بأن الجهاد دفاع فقط، وكأن إسقاط إمبراطوريتي فارس والروم والتوسع في المشرق والمغرب لم يكن إلا دفاعا عن صحاري العرب، وأهل هذه الشبهة يدركون هذه الحقيقة، بأن الجهاد لم يكن دفاعا فحسب، ولكنهم يسكتون ويرضون بهذا الجواب، لأنه حقق المراد منها.
إن المسلمين حاربوا بالسيف الدول لا العقائد، فالعقائد تحارب بالبرهان، والناس الذين اقتنعوا لم تقنعهم السيوف، ولو كانوا يريدون محو أديان الكفر بالقوة لما بقي يهودي ولا نصراني ولا مجوسي في دار الإسلام، تشملهم عدالة الإسلام التي لم يعرفوها قبله.
ومع هذه التهمة الموجهة للإسلام فهم يحاربون المسلمين بسبب عقائدهم لمجرد وجودهم، لأنه لا برهان لهم على جاهليتهم، ولا يقبلون بقول النبي: [وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ] [الدخان: 21]، أو قول الآخر: [وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاَ] [الأعراف: 87/88].
فعادة الجاهلية أنها تمنع الناس من الإسلام الحق ، ولذلك لا مفر من أن تتحرر البشرية من قبضتها وأن تتخلص من قيودها.
إن الإسلام ينتشر بالقوة في المجال الذي يعني السيطرة على مقاليد الحكم إذا واجهته القوة، وهو المقصود بقول الله –تعالى-: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] [الأنفال: 39]، وهذا يلجأ إليه في حال استنفاد الطرق السلمية.
ففي أوامر النبي –صلى الله عليه وسلم- لأمراء جيوشه قوله: (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونوا كأعراب المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله ثم قاتلهم) [رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه].
ويشترك الإسلام في هذا مع العلمانية، فالعلمانية تُفرض بحد السيف وإن لم يقتنع بها عامة الناس، مع التسليم لهم بحرية الإعتقاد في إطارها، فالإشتراكية والديمقراطية –مثلا- فرضت على الأنظمة دون النظر إلى اقتناع الناس بها أو عدمه، ثم تدعو الناس إلى اتباعها.
لكن الإسلام في توسعه يكون أرحم بالناس من أي فاتح، ويعتمد الصراحة لا الإحتيال والخداع، وقد أثبت هذا من قبل بشهادة العدو قبل الصديق، والحق ما شهدت به الأعداء.
قد يقول قائل أن هذا كلام حماسي وتهور، لكن المسألة هنا أكبر من أن تكون مسألة حماس أو جبن، ولكنها طبيعة الإسلام التي تصرح بها نصوص الكتاب والسنة في وضوح، وأي خلل في الأمر هو تحريف لدين الله.
إن ما يكفل الحق والعدل والحرية للفرد والمجتمع هو كون الشرع من خارج إطار الفرد والمجتمع وغير منحاز، أما أن يشرع الفرد أو نسبة معينة من المجتمع فلابد أن يكون هناك ظلم وتعسف في حق أختها بل ضرتها.
وما دام ليس هناك شرع يسمح بمخالفته والتحرر منه حتى الديمقراطية، وما دام أي منهجين يشرّعان للحياة العامة يتصادمان من أجل التفرد بقيادة البشرية فليكن دين الله، لأن مصدره ليس فئة تشرع لصالحها ما تأكل به حق الفئات الأخرى، وإن لم يؤمن الجميع بأنه دين الله، فعلى الذين يؤمنون بذلك ألا يتخلوا عن العمل من أجل التمكين له، حتى يكون الدين كله لله، وإن رغمت أنوف.
وخلاصة ما يريده العلمانيون من المسلمين هو أن يردوا على دباباتهم بالحجج والبينات، وهو قمة الإستغباء، وما كانوا ليتجرأوا على ذلك لولا هؤلاء المهازيل الذين يظنون أنهم يمثلون الإسلام.
إن العلمانية تحتج باضطهاد الأديان لبعضها البعض إذا حكمت، بينما هي تضطهد الناس لإخضاعهم هم ومبادئهم، وتخوِّف الناس من صراع الحضارات، ولا ندري متى توقف صراع الحضارات حتى يقوم من جديد، وتخوفهم مما تسميه بالحروب الدينية، حسب تفسيرها لمعنى الدين.
وهذا لتثبت أنها فوق الأديان، وأنها وضعت لتكون حَكما بينها، وتكف بعضها عن بعض، وترعى مصالح الجميع في إطار مبادئها، وكأن صراع العلمانية مع الإسلام أو مع النصرانية ليس حربا دينية شنتها ابتغاء إخضاع الجميع لمبادئها، وكأن صراع الحضارات ليس سوى ذلك الصراع بين الإسلام والنصرانية والبوذية.
ويصدّق الكثير من المنتسبين إلى المسلمين بهذه الضلالات بسبب الخواء الذي يعيشونه، فيقولون أن صراعهم مع الغرب اقتصادي لا ديني، ويهبّون للذب عن الإسلام –بزعمهم- فيدعون للحوار بما أن الإسلام يدعو للحوار، ولا ينادي للحرب إلا مضطرا، لكن آفتهم أنهم يربطون الحوار بالتقارب بين المذاهب والإخاء بين البشرية لإيجاد روابط متينة بين الشعوب والأديان بعيدا عن التعصب، اقتناعا منهم بما يعرف بالقيم العالمية، ضاربين عرض الحائط بكثير من مبادئ الإسلام الكلية وأبجدياته.
إن العلمانيين لا يقبلون لو قيل لهم: اتبعوا ما شئتم ولكن لا تفرضوه على الناس، بل يريدون أن ينضوي تحتها البوذي والهندوسي والشيوعي والمسلم طوعا أو كرها، وهذا من صميم المبدأ الذي تقوم عليه ولا تتسامح فيه.
أما النظم التي كانت قبل العلمانية فإنها لا تقبل هذه الهيمنة، لأنه لا يصح أن يفسر القديم على ضوء الجديد، الذي لم يكن معروفا، إلا مع اللّي والتحريف، وهذا ما وقع لها، وأما التي أحدثت من بعدها فقد وضعت على أساس علماني.
ومهما قبلت هذه أو تلك أو رفضت فإن الإسلام لا يقبل، لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، ويكفيه أنه دين الله، فالإسلام يتحدى العلمانية وينافسها هي وغيرها، وليس عنصراً من عناصرها.
إن السدود التي تقف في وجه الدعوة بالقوة لا ينفع معها الإقناع، وإن كان الإسلام يحاول إقناعها في البداية لعل وعسى، أما العقول التي حجبتها الشبهات والقلوب التي رانت عليها الشهوات فيمكن إقناعها ولا تنفع معها القوة.
إن الإسلام يفرض حكمه في الدنيا رغم أنف الجاهلية، يقول الله -عز وجل-: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] [الصف: 9]، والمقصود بظهور الإسلام على الدين كله هو ظهور حكمه وسلطته، لا تحوّل البشرية كلها إليه، فالظهور هنا هو غير الإقتناع والإعتناق، لأنه من الممكن أن يعتنقه الناس ولا يكون ظاهرا إذا كانوا مستضعفين.
ولو كان الدخول في الإسلام هو معنى الظهور لكان هناك تناقض بين الآية السابقة وقوله -تعالى-: [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] [البقرة: 256].
هذا الإسلام يراد له اليوم أن يكون شيئاً آخر، يعيش في ظل أي منهج في الحياة ويكون إسلاما يرضاه الله، أي أنه لا يصلح ما أفسدته العلمانية، وإنما هو مجرد لبنة في صرحها، يرعاها ويساندها، كما تساندها النصرانية، التي قد تحارب الشيوعية لكن لصالح العلمانية الديمقراطية.
فرأينا أقواما متمسكين بسنن النبي –صلى الله عليه وسلم- وأخلاقه وزهده، بينما هم يؤدون فروض الطاعة ويقسمون أيمان الولاء للحكم العلماني.


محمد سلامي