لطالما وصمَ الطاعنون على الصحيحين خصومهم ممن ينتصر للحق، وينحاز للعلم بوصمة تقديس الصحيحين، وتمجيد ما قد ورد فيهما من أحاديث مرفوعة أو أخبار موقوفة، فهل نحن معاشر " العاطفيين" من " السذج" المساكين الذين لسنا على مذهب خريج دار الحديث الحسنية" عقلانيين"، ولا في طريقه آخذين، ولا في غيِّه سادرين- نقدس الصحيحين، ونعبدهما من دون الله، أم أننا نتولى الحق حيثما كان، وننتصر للعلم أينما اتضح له وجهٌ، وبانَت أعلامه، وتُيقِّنت أمارته: شواهده وأدلته، وحججه وبراهينه؟
ونحن هنا نتحدى المفتري، فنوقفه ونشدِّد ُعليه في المسألةِ قائلين، ولسبيلِ" العقلانيين" – عقلاؤنا لا عقلانييه- سالكين: هل استعمل سلفُنا من علماء الحديث، ونقلة الكلمة النبوية، وحُفاظ الأخبار المروية، ونقَدةِ- جمع ناقد- الآثار والرجال من ذوي السِّير المحفوظة والأنباء المزبورة- هذه الكلمة أعني التقديس- فيما كتبوا أو دونوا أو ألفوا أو صنفوا للدلالة على منزلة الصحيحين؟؟
أم هل تنزلوا إلى استعمال ما قد اشتُق منها من ألفاظ فيها القاف والدال والسين للإرشاد إلى عِظم مكانة الصحيحين، ورفعة شأنهما، وجلالة قدرهما؟
وهاهي ذي عشرات الكتب المؤلفة في مصطلح الحديث- التي نستيقن أن الطاعن قد عرف جملتها في أيام الطلب في دار الحديث الحسنية-بيننا وبين المفتري فَدُونه أيسرها وهو تقريب النووي مع شرحه التدريب للسيوطي، ودونه أعقدُها وأدقُّها في العبارة، وأحوجها إلى الشرح والتقريب كالنكت للبدر الزركشي وسَمِيِّه للشهاب ابن حجر، والتقييد والإيضاح لشيخه الزين العراقي- فليَبْحثْ فيها وليحدَّ النظر، وليترفق في المطالعة، ولْيُحْضِر أدقَّ مجهر في العالم، وأضبطَ جهازٍ للفحص في الدنيا – ولِيُعَنْ بعدُ بالظهير والنصير، والممالئ والمساعف، وبكلِّ حداثي علماني، واللاديني مادي، عساه واجدٌ – بعد طول المشقة وعَناء التنقير- ما يشير أدنى إشارة إلى التقديس المنافي للتدنيس؟!!
وإذِ انقطع في البحث نفَسُه، وعِيلَ في ذلك صبرُه، وطالتْ له حسْرتُه، فقرَعَ له سِنَّ النَّدم، وأظهر اليأسَ من المبحوث عنه، فنحن نوقفه على السبب في تسرب هذه اللفظة إلى قاموسه الحديثي- وهو الخريج من دار الحديث- إذْ في ذلك لَعبرةٌ لأولي الألباب ممن هم " العقلانيون" حقا، و" المنتصرون للجناب الشريف" صدقا، والأذكياء الفطناء ممن لا يخدعون يقينا يقينا؟!! ولا يقال فيهم:" سذج" تعييرا وسباًّ؟؟!!
وواضحٌ أن هذه الكلمة –التقديس- قد تسربت للطاعن ولغيره من الحداثيين كالبحيري القادح في البخاري وصحيحه من المعجم النصراني الذي غَرفَ منه المستشرقون وأذنابهم من بني جلدتنا الذين رُبوا على قراءة تراثهم – وإلا فالمستعملُ الدارجُ في كتابات أهل هذا الشأن من علماء الإسلام شرقا وغربا قديما وحديثا عجما وعربا- للتعبير عن المحبة للصحيحين وصاحبيْهما فهذا الضَّربُ الذين امتُحن فيه الطاعن أيام الطلَّب فأجاب فترقى فغدَا الخرِّيجَ المنتسبَ إلى أعرق دار وأكرم منزل؟!! – مِن مِثل محبة الصحيحين، مهابة الصحيحين، تعظيم الصحيحين في أشباه هذا مما لا يحيط به إلا غلام الغيوب.
وهل تفيد هذه العبارات تقديسا أو عبادة أو عكوفا أو إشراكا بالله كما أفْهمته عبارة الحمقاء المتهورة خديجة البطار في بعض ماكتبته قديما وناقشناها فيه!!
والوارد عن بعضهم تخييلا لا حقيقة وواقعا محكيا من قوله:" لو أن رجلا حلف بالطلاق أن جميع ما في كتاب البخاري مما روي عن رسول الله قد صح ورسول الله قاله، لاشك أنه لا يحنث..." فمحمولٌ على ما بيناه من تعظيم الصحيحين وأنه إليهما المنتهى في التدقيق والتمحيص والتفتيش والتنقير والتصحيح والتوثيق.

على أن " العاطفيين" الذين هم عند المعترض" سذج "على وزن خرافيين ورجعيين وظلاميين، لم تمنعهم هيبة الصحيحين من أن ينتقدوا عليهما أحرفا يسيرة- تعلم من صنيع الإمام الدارقطني والمستخرجين كالإسماعيلي الجرجاني وأبي نعيم الأصبهاني، والشراح المعلقين من زمن الخطابي والداودي والمهلب بن أبي صفرة المري إلى زمن ابن حجر والشمس الكرماني والبدر العيني والشهاب القسطلاني، وغيرهم من طبقات المتصدين لهذين الكتابين الجليلين، والعِلْقين النفيسين على رغم أنف الحاسدين المغرضين ممن يذهب نقدهم هباء منثورا وزبدا في البحر مفرقا...
إن الفارقَ بين المنتقِد والمارق لبيِّن ٌ واضحٌ، إذ ْوجه ُالحق فيه لائحٌ، فهل كان هذا الطراز الممتاز من الرجال السابقين: منتقدين متعقبين منكِّتين، وشراحا معلقين، ومستخرجين مستدركين ذوي صفاقة وجه، وحطٍّ وتشنيع، وقدح وتجريح، وسُخرية وطنْز، وتبكيت وتقريع، وأغراض نفسية وحظوظ في الشهرة دنيوية؟؟!! أم أن محبة الصحيحين كانت الحامل لهم على الاعتراض، والولاء للكلمة النبوية كانت الباعث لهم على التنكيت والانتقاد.
وليس سواءً رجلٌ يقول في البخاري ساذج مغفل، وعاطفي خرافي، طاعن في مقام النبي ، ورجلٌ يقول أصح كتاب بعد القرآن الكريم البخاري فمسلمٌ..ورحم َالله أبا عبد الله- يعني البخاري- وهِم فظنَّ، أو وهل فحسِبَ، أو ما أصاب المحزَّ، أو خالف الأولى، أو جانبَ الصواب.
وهل من الحصافة في شيء أنه إذا كان المعترِض خريج دار الحديث الحسنية في درسٍ يلقى بين يديْ صاحب السلطة والشأن في هذا البلد الأمين- أفقنا المغربي ومصرنا الأبي، الذي كان في تاريخه العلمي أوائل شراح البخاري الرضي- أن يقول إذا عرض حديثٌ في البخاري: أخرجه "الساذج ُ"" الطيِّب" العاطفي الخرافي بسنده إلى الإمام الزهري الساذج العاطفي الخرافي الذي يروي عن اليهودي الإسرائيلي؟!!!
ولعمرُ الله إنها سلسلة السذج المغفَّلين، لا سلسلةُ الذهب المسبوكِ المقدَّم للعقلاء المباركين؟!!
وإن شهادة تخرُّج خريج الدار لساقطةٌ بعدُ بالتَّبع، لأنها رواية "طَيِّب" عن" طيِّب" و"ساذج" عن "ساذج"، و"إسرائيلي" عن مثله إلى منتهى السند.
يتبع إن شاء الله.