مضمون الشبهة:
يزعم بعض منكري السنة أن كعب الأحبار – رحمه الله – قد دس الإسرائيليات في السنة النبوية؛ وكان يرويها على أنها من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم. ويستدلون على ذلك بقول معاوية عنه: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.
وأن عمر بن الخطاب كان ينهاه عن التحديث ويقول: “لتتركن الحديث عن الأول، أولألحقنك بأرض القردة”.
كما أن بعض الثقات كابن قتيبة والنووي وغيرهما كانوا لا يروون عنه أبدًا، فضلًا عن أن ما روي عنه كان قليلًا، ومن هذا القليل الذي روي عنه رواية رواها ابن جرير الطبري، تدل على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيها أن كعبا جاء إلى عمر بن الخطاب قبل مقتله بثلاثة أيام، وقال له: اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله – عز وجل – أي: في التوراة – قال عمر: إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكن أجد صفتك وحليتك، وأنه قد فني أجلك. فهم يرون أن هذه القصة تدل على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر، بل على اشتراكه فيها، ثم وضعها هو في هذه الصيغة الإسرائيلية؛ ليدفع عن نفسه التهمة؛ لينال ثقة المسلمين فيما يخبرهم به عن التوراة وغيرها.
رامين من وراء ذلك إلى الطعن في كل روايات كعب الأحبار، ومن ثم الطعن في السنة نفسها.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن النظرة العادلة المنصفة لحياة كعب الأحبار، والرجوع إلى أقوال بعض أعلام الصحابة فيه ليشهد له بقوة إيمانه وصدق يقينه، وينفي عنه كل ما وجه إليه من اتهامات الكذب والتزييف.
2) إن رواية كعب الأحبار لبعض الإسرائيليات ليست دليلًا على أنه وضاع مختلق؛ لأنه هو وأضرابه قد رووا هذه الإسرائيليات على أنها مما في كتبهم، وليس على أنها من قول النبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود من كلمة معاوية هو أن كعبًا كان يخطيء أحيانًا فيما يخبر به، ولم يرد أنه كان كذابًا، وأما نهي عمر له عن التحديث فكان مخافة التشويش على عقائدهم وأفكارهم؛ لعدم تمييزهم بين الحق والباطل، وهذا منهجه مع كبار الصحابة أيضًا.
3) إن كون بعض الثقات كابن قتيبة والنووي وغيرهما لم يرووا – إن ثبتت عدم الرواية – عن كعب الأحبار، لا يدل على وهن فيه؛ لأنه قد روى عنه من هو خير منهم، والرواية التي استدلوا بها على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – رواية باطلة لا تصح.
التفصيل:
أولا. حياة كعب الأحبار المباركة، وثناء العلماء عليه:
إن هناك من الشواهد الكثيرة التي تشهد لكعب الأحبار بصدق إسلامه وقوة إيمانه، ومن أبرز هذه الشواهد شهادة كثير من الصحابة له بذلك.
فإذا تتبعنا حياة كعب في الإسلام، ورجعنا إلى مقالات بعض أعلام الصحابة فيه، وأحصينا من تحمل منهم عنه وروى له، ومن أخرج له من شيوخ الحديث في مصنفاتهم… لو فعلنا ذلك لوجدنا ما يدحض ويبطل هذه الفرية، ويشهد له بقوة دينه وصدق يقينه، وأنه قد طوى قلبه على الإسلام المحض والدين الخالص، فقد أسلم على المشهور في خلافة عمر – رضي الله عنه – وسكن المدينة، وصحب عمر رضي الله عنه، وروى عنه، وشارك في غزو الروم في خلافته، وعمر قد كان عبقريا ملهما، فلا يصدق عاقل أن يساكن كعبا في المدينة، ويصاحبه ويكتبه في جيش المسلمين لغزو الروم، وهو مخدوع في إسلامه، مخدوع في صدقه وصحة روايته.
ولقد كان – كذلك – على مبلغ عظيم من العلم، وكان له بالثقافة اليهودية والثقافة الإسلامية معرفة واسعة.
ولغزارة علمه وكثرة معارفه لهج بعض أعلام الصحابة بالثناء عليه، فقال عنه أبو الدرداء رضي الله عنه: ” إن عند ابن الحميرية لعلما كثيرا”[1]، وهذا معاوية – رضي الله عنه – يثني على نفر من أصحاب الرسول – صلى الله عليه وسلم – منهم كعب الأحبار، فيقول: “ألا إن أبا الدرداء أحد الحكماء، ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده لعلم كالبحار، وإن كنا فيه لمفرطين”[2].
وكذلك فإن جمهور العلماء على توثيق كعب؛ ولذا فإننا لا نجد له ذكرا في كتب الضعفاء والمتروكين، وما يحق لمنصف أن يخدش عدالته، أو يشك في كونه ثقة بعد ما ثبت من رواية أعلام الصحابة عنه كأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، ولم يكن هؤلاء ولا غيرهم ممن رووا عنه سذجا ولا مخدوعين فيه، وإنما أيقنوا أنه صدوق فيما يروي، فرووا عنه؛ لذلك قال عنه ابن حجر في التقريب: ” ثقة مخضرم”[3]، وأورده ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام[4].
وكذلك إذا كان مسلم بن الحجاج قد أخرج له في صحيحه، وكذلك أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، فهذا دليل على أن كعبا كان ثقة غير متهم عند هؤلاء جميعا[5].
وهكذا تثبت لنا الوقائع، وتؤكد على إيمان كعب الأحبار، وحسن إسلامه، وبراءته من المكيدة للسنة والإسلام.
ثانيًا. تبرئة كعب الأحبار – رحمه الله – مما نسب إليه من الكذب والاختلاق:
إن الباحث المتثبت والناقد البصير لا ينكر أن كثيرا من الإسرائيليات دخلت في الإسلام عن طريق أهل الكتاب الذين أسلموا، وأنهم نقلوها بحسن نية.
وكذلك لا ينكر أحد أثرها السيء في كتب العلوم وأفكار العوام من المسلمين، وما جرته على الإسلام من طعون أعدائه ظنا منهم أنها منه، والإسلام منها براء.
ولكن الذي لا يسلم به الباحث أن يكون كعب الأحبار وأضرابه ممن أسلموا وحسن إسلامهم، كان غرضهم الدس والاختلاق والإفساد في الدين.
وإن الذي نعلمه ونؤمن به ونطمئن إليه أن ما كان يرويه كعب وغيره من مسلمي أهل الكتاب من الإسرائيليات لم يسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكذبوا فيه على أحد من المسلمين، وإنما كانوا يروونه على أنه من الإسرائيليات الموجودة في كتبهم، ولسنا مكلفين بتصديق شيء من ذلك، ولا مطالبين بالإيمان به بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم…»[6][7].
وعليه فإن كانت قد وقعت في بعض مرويات كعب إسرائيليات مكذوبة أو خرافات، فذلك إنما يرجع إلى من نقل عنهم من أهل الكتاب السابقين الذين بدلوا وحرفوا، وإلى بعض الكتب القديمة التي ملئت بالخرافات والإسرائيليات[8].
وأما عن ذكر معاوية لكعب وقوله عنه: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا – مع ذلك – لنبلو عليه الكذب [9]، فظاهر هذا الكلام من معاوية – رضي الله عنه – يخدش كعبا في بعض مروياته، ولكنه لا يدل على ما ذهب إليه هؤلاء المشككون من أنه كان وضاعا كذابا.
ونحن لو رجعنا إلى شراح قول معاوية – رضي الله عنه – لوجدناهم جميعا يشرحونه بما يبعد هذه الوصمة الشنيعة عن كعب الأحبار، وإليك بعض ما قيل في ذلك:
قال ابن حجر في “الفتح”: “وقوله (عليه الكذب) أي: يقع بعض ما يخبرنا عنه بخلاف ما يخبرنا به، قال ابن التين: وهذا نحو قول ابن عباس في حق كعب المذكور: (بدل من قبله فوقع في الكذب)، قال: والمراد بالمحدثين في قوله: (إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب) أنداد كعب ممن كان من أهل الكتاب وأسلم، فكان يحدث عنهم، وكذا من نظر في كتبهم فحدث عما فيها، قال: ولعلهم كانوا مثل كعب، إلا أن كعبا كان أشد منهم بصيرة، وأعرف بما يتوقاه.
وقال ابن حبان في كتاب الثقات: أراد معاوية أنه يخطئ أحيانا فيما يخبر به، ولم يرد أنه كان كذابا، وقال غيره: الضمير في قوله: “لنبلو عليه” للكتاب لا لكعب، وإنما يقع في كتابهم الكذب لكونهم بدلوه وحرفوه.
وقال عياض: يصح عوده على الكتاب، ويصح عوده على كعب وعلى حديثه، وإن لم يقصد الكذب ويتعمده؛ إذ لا يشترط في مسمى الكذب التعمد، بل هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، وليس فيه تجريح لكعب بالكذب.
وقال ابن الجوزي: المعنى: أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبا لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار”[10].
ونضيف إلى ما سبق أن معاوية الذي قال هذا القول، هو نفسه الذي قال: “ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، وإن كان عنده علم كالثمار، وإن كنا لمفرطين”.
فمعاوية – رحمه الله – قد شهد له بالعلم وغزارته، وحكم على نفسه بأنه فرط في علم كعب، فهل يعقل أن معاوية يشهد هذه الشهادة لرجل كذاب؟!
وهل يعقل أن يتحسر ويندم على ما فاته من علم رجل يدلس في كتب الله، ويحرف في وحي السماء؟[11].
أما عن قول عمر – رضي الله عنه – له: “لتتركن الحديث عن الأول، أو لألحقنك بأرض القردة”[12]. فلقد اجتمعت الأخبار على أن عمر – رضي الله عنه – كان يتشدد في الرواية، وأنه كان ينهى المحدثين عامة عن كثرة التحديث، وقد كان لذلك عدة أسباب:
1. الخوف على السنة – التي كانت تنتقل مشافهة – من أن يتسرب إليها خطأ أو تحريف غير مقصود عن طريق النسيان، أو خطأ السماع أو الفهم، أو عدم الدقة في النقل.
2. الخوف من أن يتسرب الكذب والتدليس المتعمدان إلى السنة، إذا أبيح الإكثار من روايتها بين الناس بدون قيود، وعمر لم يتهم جمهور الصحابة، ولكن من قال: إن أي مجتمع قد خلا من المنافق والفاجر، الذي يسعى إلى أغراض فردية، ولو عن طريق الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو لم يحذر الرسول – صلى الله عليه وسلم – نفسه من تعمد الكذب عليه، وتهدد الكذابين بالنار؟!
لذا كان الحرص على السنة من دخول الخطأ أو الكذب عليها من الأسباب القوية التي دعت عمر إلى توجيه المسلمين للإقلال من روايتها، والتشدد في ذلك.
3. الحرص على ألا يستكثر الناس من رواية الأحاديث، فينتشر ذلك في مجالسهم، فيشتغلون به عن العكوف على آيات القرآن الكريم. وهذا السبب نفسه هو الذي دعا عمر – ومن قبله الرسول وأبا بكر – إلى عدم تدوين السنة[13].
لهذه الأسباب مجتمعة كان عمر بن الخطاب ينهى المحدثين عامة عن كثرة التحديث، وكان ذلك حرصا منه وحفاظا على الدين، وليس تهمة لأحد.
لذا فإن ما روي من أن عمر بن الخطاب نهى كعب الأحبار عن التحديث، وقال له: ” لتتركن الحديث عن الأول أولألحقنك بأرض القردة ” لم يكن موقفا خاصا من عمر مع كعب لاتهامه، وإنما كان مخافة التشويش على عقائد العامة وأفكارهم؛ لعدم تمييزهم بين الحق والباطل، مما يحدث به من أخبارالأول، وهذا ما أكده عنه ابن كثير بقوله: “وهذا محمول من عمر على أنه خشي من الأحاديث التي قد تضعها الناس على غير مواضعها، وأنهم يتكلمون على ما فيها من أحاديث الرخص، وأن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ، فيحملها الناس عنه أو نحو ذلك”[14].
ويشير الدكتور محمد حسين الذهبي إلى تفسير آخر فيقول: “ولعل سر نهيه – يقصد عمر – لكعب عن الحديث عن الأول، ونهيه لأبي هريرة عن الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن أبا هريرة كان يحدث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بما سمعه منه، وعن كعب بما يحدثه به، فخاف أن يخلط الناس بين حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – وحديث كعب؛ فقد روى بكير بن الأشج قال: قال لنا بشر بن سعيد أنه قال:” اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثنا عن كعب الأحبار ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “[15][16].
ولذلك فإن قول معاوية وعمر في كعب الأحبار لا يطعن فيه؛ إذ إن مراد معاوية أن كعب الأحبار يخطئ أحيانا فيما يخبر به لكنه لا يكذب، وأما نهي عمر كعبا عن التحديث فكان مخافة التشويش على عقائد العامة وأفكارهم.
يتبع إن شاء الله: