السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يطيب لي أن أشرك إخواني بهذه المعاني اللطيفة والفوائد الشريفة لابن القيم رحمه الله في كتابه النفيس مدارج السالكين.. وهي عن الفراسة..
"وهي نورٌ يقذفه الله في القلب، يفرق به بين الحق والباطل، والصادق والكاذب.
قال الله تعالى ((إن في ذلك لآيات للمتوسّمين)) (سورة الحجر:75). قال مجاهد: للمتفرّسين.
وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اتقوا فراسة المؤمن. فإنه ينظر بنور الله عز وجل))، ثم قرأ: ((إن في ذلك لآياتٍ للمتوسّمين)).
والتَّوَسُّم فعلٌ من السيما. وهي العلامة. فسمى المتفرس متوسماً لأنه يستدل بما يشهد على ما غاب، فيستدل بالعيان على الإيمان. ولهذا خص الله تعالى بالآيات والانتفاع بها هؤلاء. لأنهم يستدلون بما يشاهدون منها على حقيقة ما ما أخبرت به الرسل، من الأمر والنهي، والثواب والعقاب.
قد ألهم الله تعالى ذلك لآدم وعلّمه إياه حين علمه أسماء كل شيء. وبنوه هم نسخته وخلفاؤه، فكل قلبٍ فهو قابل لذلك، وهو فيه بالقوة، وبه تقوم الحجة وتحصل العبرة وتصح الدلالة. وبعث الله رسله مذكّرين ومنبّهين ومكمّلين لهذا الاستعداد، بنور الوحي والإيمان. فينضاف ذلك إلى نور الفراسة والاستعداد، فيصير نوراً على نور، فتقوى البصيرة ويعظم النور ويدوم بزيادة مادته ودوامها. ولا يزال في تزايد على يرى على الوجه والجوارح والكلام والأعمال. ومن لم يقبل هدى الله ولم يرفع به رأساً دخل قلبه في الغلاف والأكنّة فأظلم وعمي عن البصيرة، فحجبت عنه حقائق الإيمان، فيرى الحق باطلاً والباطل حقاً والرشد غيّاً والغيّ رشداً. قال تعالى ((كلاّ بلْ رانَ على قلوبهم ما كانوا يكسبون)) (سورة المطففين: 14). والرين والران هو الحجاب الكثيف المانع للقلب من رؤية الحق والانقياد له.
وعلى حسب قوة البصيرة وضعفها تكون الفراسة، وهي نوعان:
فراسة علوية شريفة مختصة بأهل الإيمان.
وفراسة سفلية دنيئة مشتركة بين المؤمن والكافر. وهي فراسة أهل الرياضة والجوع والسهر والخلوة، وتجريد البواطن من أنواع الشواغل. فهؤلاء لهم فراسة كشف الصور، والإخبار ببعض المغيّبات السفلية التي لا يتضمن كشفها والإخبار بها كمالاً للنفس ولا زكاةً ولا إيماناً ولا معرفة. وهؤلاء لا تتعدى معرفتهم هذه السفليات لأنهم محجوبون عن الحق تعالى. فلا تصعد فراستهم إلى التمييز بين أوليائه وأعدائه، وطريق هؤلاء وهؤلاء.
وأما فراسة الصادقين العارفين بالله وأمره فإن همتهم لما تعلقت بمحبة الله ومعرفته وعبوديته ودعوة الخلق إليه على بصيرة، كانت فراستهم متصلة بالله، متعلقة بنور الوحي مع نور الإيمان. فميزت بين ما يحبه الله وما يبغضه من الأعيان والأقوال والأعمال. وميزت بين الحبيث والطيب والمحق والمبطل والصادق والكاذب. وعرفت مقادير استعداد السالكين إلى الله. فحملت كل إنسان على قدر استعداده علماً وإرادة وعملاً.
ففراسة هؤلاء دائماً حائمة حول كشف طريق الرسول وتعرفها، وتخليصها من بين سائر الطرق، وبين كشف عيوب النفس وآفات الأعمال العائقة عن سلوك طريق المرسلين. فهذا أشرف أنواع البصيرة والفراسة، وأنفعها للعبد في معاشه ومعاده."
انتهى كلامه رحمه الله.