المدخل .. إلى فهم إشكالات "ما بعد السلفية"
حين أخبرني أخي وصديقي الشيخ الفاضل "أحمد سالم" عن كتاب "ما بعد السلفية" وكان يتوقع رفضاً واسعاً للكتاب، أبديت مخالفتي لهذا التوقع، وأن مثل هذا النقد سيكون متقبلاً عند التيار الأوسع من السلفيين، كنت أرى أن مثل هذا النقد من كاتبين فاضلين سيكون له أثر إيجابي، فالنقد حينها لن يخرج عن حقٍ ظاهرٍ يستفاد منه، أو إثارة مسائل اجتهادية تكون محلاً لوجهات نظر متقاربة، أو في أقل الأحوال خطأ مردود، هو من قبيل الزلات التي لا يسلم منها أحد.
لحظة ما وصلني الكتاب بدأت متلهفاً بقراءته، قرأته بشكل دقيق فاحص، شعرت بعد الانتهاء منه أنني كنت ساذجا ًجداً حين ظننتُ أن مثل هذا النقد سيحدث أثراً إيجابياً، أو من الممكن أن تتقبله أكثر النفوس، أو أن يكون الفضاء الذي سيحدثه فضاءً صحياً.
ما السبب في ذلك؟
السبب هو في الروح التي كتب بها هذا النقد، وحكمت سياقاته، وسيطرت على الكتاب من أوله حتى آخره، فهذه الروح لم تتمحض عن روح طالب العلم الشرعي الذي يستحضر أنه يحرر أصولاً وكلياتٍ شرعية، مما يستدعي وضوحاً في تجلية الأصول الشرعية، ولغة بينة في رسم الفوارق بين الحق والباطل، والسائغ وغير السائغ.
هذه الروح تستدعي أيضاً صرامة علمية متأنية، خاصة حين تتجاوز حدود نقد المسائل إلى تأريخ للأفكار والاتجاهات والتيارات.
وهذه الروح حين تنتقد فإنها تقدم مشروعها في ثوب الناصح المشفق، المكمل لإخوانه، الذي يقدر جهودهم ويسعى لتكميل نقصها، ويراعي الحكمة والمصلحة في سبيل إصلاح ما يراه من عوج.
القصور والمزاحمة لمثلث أركان هذه الروح العلمية "الوضوح الشرعي، الصرامة العلمية، النصح الأخوي" كان سبباً لكافة الإشكالات التي حملها هذا الكتاب، ونجدها حاضرة من أول الكتاب إلى آخره.
وسيتضح أوجه الخلل والمزاحمة لهذه الأركان في الفقرات التالية:
(1) النقد بين مسلكين:
كنت أقرأ في صفحة أخي الشيخ أحمد في برنامج الآسك فأجده يكتب:
"ولو كان قول ما يراه الإنسان حقاً يترك لشيء=لتركته كرامة لصحبة أخشى فقدها، لكن الحق أمانة، وإذا لم يوجد من يقوم به=لم يجز تركه لوجه أحد من الناس"
يشدك مثل هذا الكلام، وتعجب بروح الصدق والنصح والأمانة وتحمل الأذى في سبيل ذلك.
لكنني أجد صعوبة بالغة في كيفية تنزيل مثل هذا على كتاب ما بعد السلفية!
فالنقد الشرعي الذي يحمد، ويكون من القيام بالحق الذي يتهيأ الإنسان لتحمل الأذى في سبيله، يمكن أن يوضع في درجات:
1-مسائل الشرع الظاهرة التي يبين فيها الإنسان الحق للناس، ويصدع بدلائل الكتاب والسنة ، ويمكن أن يدرج ضمنها أيضاً المسائل الاجتهادية لأنها من بيان الأحكام، وإن كانت درجة بيانها ليست كسابقتها، فقد يترك الشخص بيانها مراعاة لمصالح كثيرة.
2-الإنكار العملي على المنكرات والمظالم والمحرمات، فهو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو إنكار يوجه لكل أحد، ويمكن أن يلحق به الإنكار في المسائل الاجتهادية أو المحتملة لأنها من جنس الإنكار المشروع، وإن كان أمرها في الصدع والبيان أهون، فهي تتبع المصلحة وقد يكون من المشروع تركها في أحوال.
السؤال هنا: هل ما في كتاب ما بعد السلفية هو من هذين النوعين؟
نعم، يوجد في الكتاب نقد متعدد هو من هذين النوعين، ويحمد عليه الشخص، ويثاب على ما يصيبه من أذى في سبيله.
لكن، هل الإشكال في الكتاب الذي أحدث النفور والخصام هو النقد المتعلق بهذين النوعين؟
رأيي بكل وضوح، لا.
فالنقد المشكل في الكتاب ليس هو من قبيل النقد الشرعي الذي يحتسب الإنسان الأجر فيه، ويرى أن الصدع به هو مما لا مندوحة له عنه.
حين تخوض مثلاً في تحليل شخصيات الناس، فتتبسط في الحديث عن الشيخين عبد الرحمن البراك وناصر العمر و"أن كل محاولات الدفع بالرجلين لتسنم هذا المنصب لم تنجح" و "لم ينجح تسويق الرجلين في صناعة رمزية مجتمعية لهما لعوامل ذاتية" و"أدوات الرجلين والخصائص الحديثة للتسويق الإعلامي وخصائص كاريزما الشخصية لم تساعد الرجلين" الخ ما قيل في هذا السياق فقط.
وحين توزع أحكامك الذاتية على الشخصيات: بالفقر المعرفي، وضعف الإطلاع، والسطحية، وتواضع الأدوات، والمحافظة، الخ.
وحين تأتي لتيارات واسعة فتتحدث بازدراء عن مستوياتهم الفكرية، وحدود اطلاعهم، وترسم خرائط مشوهة لحركة أفكارهم وتأثيرهم، هل هذا من النقد الشرعي الواجب الذي يخشى المرء من عاقبة كتمانه؟
غاية ما في هذا من الناحية الفقهية إن سلم من الإثم والتعدي أن يكون من فضول البحث والنظر، فليس هو من قبيل النقد الشرعي الذي تتغيا به رضا الله وتحتسب الأجر في سبيله.
فثم تمييز واضح في المسلك الفقهي بين مساحة النقد المحمودة شرعاً، وبين الممارسة النقدية التي سار عليها الكتاب، ولا يزيل الإشكالية عنها أن تقدم في قالب "تاريخ الأفكار"، فالكتاب هنا ليس مجرد ناقد للفكرة، ينقل الفكرة الخطأ ويصححها، فهو لا ينقل الواقع فقط، وإنما يصور لك هذا الواقع.
فالعمل هنا تحت مسمى مؤرخ الأفكار ليس عملاً محايداً وموضوعياً، فهو لا ينقل الحقيقة كما هي، إنما تتأثر الصورة التي يرسمها بانطباعته واهتماماته، وبالصور الأكثر تركزاً في ذهنه، وتتأثر أيضاً بالهدف الذي يريد الوصول إليه من هذا الإطار، فالهدف ليس نتيجة بريئة يستخرجها بعد الانتهاء من رسم المشهد، بل هي دافع ومحرك أساسي لكيفية وضع الإطار ورسم الصورة لمشهد الأفكار.
إذن، فالموضوع ليس مجرد صدع بالحق في مسائل شرعية، ومن لا يتقبل نقده أو يتحفظ منه أو يستفزه موقفه يكون رافضاً للنقد!
لسنا أمام تصحيح لمسائل، وبيان لأحكام شرعية، وإعلان لكلمة الحق، إنما مع كتابة ترسم مشهدك العلمي والثقافي والإصلاحي، وتتلمس أدوات تفكيرك، وتتحسس دوافعك، وتقدمك في أشكال نمطية معينة، فمن الطبيعي حينها أن يكون موقف أي تيار متحفظاً جداً من هذا، وسيكون مغفلاً غاية الاستغفال من يقبل مثل هذا على أنه من قبيل تصحيح التصورات والنقد البناء الإيجابي!
فالكتابة النقدية بهذه الروح تبتعد عن الروح النقدية لطالب العلم الشرعي في أمرين:
1-أن طالب العلم الشرعي يركز بشكل أساسي على القضايا الشرعية، والأخطاء المنهجية، التي يراها مخالفة للشريعة، أو أن ثم ما هو أصلح منها.
2-أن طالب العلم الشرعي يميز بين القضايا، فالقضايا ذات الأولوية الشرعية يصدع بها ويحتمل الأذى في سبيلها، وأما ما عداها فإنه يراعي الأصلح والأنفع وما يجمع القلوب، فهو لا يجعل النقد غاية في حد ذاته، ، بله أن يجعل ذلك مما يجدد به للأمة سلفيتها!
وهاتان الدرجتان لا تثير افتراقاً ولا نزاعاً، إنما النزاع يدخل مع التوسع الذي خلف ذلك، وهو مما لا يقال فيه أنه من قبيل كلمة الحق التي يخشى الإنسان على نفسه من الإثم لو تأخر في بيانها أو عدل عن شيء منها.
من الطبيعي حينها أن نقداً كطريقة نقد هذا الكتاب سيكون محل اختلاف وافتراق، ومحدثاً للتقاطع والتدابر، وسيثير الكثير من التجاوزات، وهي منكرات لا شك فيها، لكن من ينكرها يجب أن لا ينسى أن تاريخ أفكار هذه الخصومات نشأ بسبب هذه إشكاليات هذه القراءة التي تخففت عن الروح الشرعية في وضوحها وموضوعيتها ونصحها.
هذه الخصومة والافتراق لم تكن لتقع لو أن النقد كان متحركاً وفق الموازين الشرعية، فالنقد الشرعي القائم على النصح، الذي يهدف لتقويم الخلل، وإرادة الخير للغير، ومراعاة المصلحة، ودفع المفسدة، وجمع القلوب، وغيرها من المصالح التي لا تغيب عن روح طالب العلم، لا يحدث غالباً شيئاً من هذه الإشكالات.