تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 14 من 14

الموضوع: مشاهد الإيمان في شهر رمضان لشيخنا عادل العزازي

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي مشاهد الإيمان في شهر رمضان لشيخنا عادل العزازي

    هذه بعض مشاهد الإيمان تتجلَّى على الصائمين في شهر رمضان، ذلك الشهر الذي اختَصَّه الله - عزَّ وجلَّ - وفضَّله على باقي الشُّهور، ففرَض فيه الصيام، وأنزَل فيه القُرآن، وفرَض فيه صدقةَ الفطر، وتجلَّت فيه الخيرات؛ ففتح أبواب الجنان، وأغلق أبواب النِّيران، وصفَّد فيه الشياطين، وفيه عِتْقُ الرِّقاب، ومغفرة الذنوب والآثام، ونحو ذلك ممَّا تفضَّل الله به على عِبادِه.
    وهذه كلماتٌ وإيحاءات حولَ بعض هذه المشاهد، ولا شَكَّ أنَّها أكثرُ من ذلك بكثيرٍ، ولعلَّ فيما ذكرته دلالةً على غيرها من رِفعة الإيمان، وكثْرة الأعمال الصالحة، وقد سميته:(مشاهد الإيمان في شهر رمضان)
    راجيًا من الله أنْ يجعَلَه خالصًا لوجهه، وأنْ ينفع به الناظر فيه، وأنْ يجعَلَه قُربةً وزُلفى يثقل بها ميزاننا يوم العرض والحساب، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    مشهد المحاسبة
    إنَّ الناصح لنفسه تمرُّ عليه بعضُ الأوقات أو بعض المواقف، فتكون موضعَ نظَرِه ومحطَّ فِكره، بل ربما كانت سببًا في تغيير حَياته.
    والمؤمن في هذه اللحظات يَنظُر في صَحِيفته ليعلَم أين هو، وما مدى قُربِه من ربِّه، هل هو على الصِّراط المستقيم، أو أغواه الشيطان إلى سُبُلِه وحَبائله؛ فعاش في التِّيه لا يدري كيف يعود؟وعندما يُقدِم شهرُ رمضان يكون معه تغيُّر في حياة الإنسان عمَّا تعوَّدَه، فهو شهرٌ ليس كباقي الشُّهور، ومع هذا التغيُّر يقفُ الإنسان ليُجدِّد حياته وليُجدِّد إيمانه.عن أنسٍ - رضِي الله عنه - قال: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ لربِّكم في أيَّام دهركم نفحات؛ فتعرَّضوا لها، لعلَّ أحدَكم أنْ يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبدًا))[1].
    فرمضان سيِّد الشهور، وتاجٌ على مفرق الأيَّام والدُّهور.
    مَن رُحِم في رمضان فهو المرحوم، ومَن حُرِم خيره فهو المحروم، ومن لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم.
    يَا ذَا الَّذِي مَا كَفَاهُ الذَّنْبُ فِي رَجَبٍ
    حَتَّى عَصَى رَبَّهُ فِي شَهْرِ شَعْبَانِ

    فَاحْمِلْ عَلَى جَسَدٍ تَرْجُو النَّجَاةَ لَهُ
    فَسَوْفَ تُضْرَمُ أَجْسَادٌ بِنِيرَانِ

    كَمْ كُنْتَ تَعْرِفُ مِمَّنْ صَامَ فِي سَلَفٍ
    مَنْ بَيْنِ أَهْلٍ وَجِيرَانٍ وَإخْوَانِ

    أَفْنَاهُمُ الْمَوْتُ وَاسْتَبْقَاكَ بَعْدَهُمُ
    حَيًّا فَمَا أَقْرَبَ القَاصِي مِنْ الدَّانِي

    وَمُعْجَبٍ بِثِيَابِ العِيدِ يَقْطَعُهَا
    فَأَصْبَحَتْ فِي غَدٍ أَثْوَابَ أَكْفَانِ

    قال الحسن البصري - رحمه الله -: إنَّ العبد لا يَزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسِه، وكانت المحاسبة من همَّته.وقال أيضًا: ( وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) [القيامة: 2]: لا تَلقَى المؤمنَ إلا يُعاتب نفسه: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والعاجز يمضي قُدمًا لا يُعاتِب نفسه.وقال ميمون بن مهران: "لا يكون الرجل تقيًّا حتى يكون لنفسه أشدَّ محاسبة من الشريك لشريكه".فلنحذر أنفسنا أنْ نكون مع الهالكين، ولننظُر في صَحائفنا لنَمحُو هذه الذُّنوب ولنشترِ أنفُسَنا ولا نَبِعْها للهوى والمحرَّمات.قال ابن القيِّم: "يا بائعًا نفسه بهوى مَن حبُّه ضنى، ووصله أذى، وحسنُه إلى فناء، لقد بعتَ أنفس الأشياء بثمنٍ بخس، كأنَّك لم تعرفْ قدْر السِّلعة ولا خسَّة الثمن، حتى إذا قدمت يوم التغابن تبيَّن لك الغبن[2] في عقد البيع".اعرفْ قد ما ضاعَ، وابكِ بُكاءَ مَن يَدرِي مِقدار الفائت، واعلم أنَّ محاسبة النفس هي طريق السالكين إلى ربهم، وزاد المؤمنين في آخِرتهم، ورأس مال الفائزين في دُنياهم ومَعادهم.فما نجا مَن نجا يوم القيامة إلا بمحاسبة النفس ومخالفة الهوى "فمَن حاسب نفسه قبل أنْ يحاسب خَفَّ في القيامة حسابُه، وحضَر عند السؤال جوابُه، وحسن مُنقَلبه ومآبُه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادَتْه إلى الخزي والمقت سيئاته"[3].

    الأمر بمحاسبة النفس:
    وقد ورد الأمر بمحاسبة النفس في القُرآن الكريم:قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) الحشر: 18.
    قال الحافظ ابن كثير: "قوله ( وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) الحشر: 18؛ أي: حاسِبُوا أنفُسَكم قبل أنْ تُحاسَبوا، وانظُروا ماذا ادَّخرتم لأنفُسِكم من الأعمال الصالحة ليوم مَعادِكم وعرضكم على ربكم"[4].
    وقال تعالى: ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) [التكاثر: 8].قال محمد بن جرير الطبري: ثم ليَسألنَّكم الله - عزَّ وجلَّ - عن النعيم الذي كُنتم فيه في الدنيا ماذا عملتم فيه؟ ومن أين وصلتم إليه؟ وفيمَ أصَبتُموه؟ وماذا عملتم فيه؟قال ابن القيم: "فإذا كان العبد مسؤولاً ومحاسبًا على كلِّ شيء حتى على سمعه وبصره وقلبه، كما قال تعالى: ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسؤولاً ) الإسراء: 36، فهو حقيقٌ أنْ يُحاسِب نفسه قبل أنْ يُناقَش الحساب"[5].
    أنواع المحاسبة:
    قال ابن القيم - رحمه الله -[6]: "ومحاسبة النَّفس نوعان: نوع قبل العمل، ونوع بعده:
    فأمَّا النوع الأوَّل:

    فهو أنْ يقفَ عند أوَّل همِّه وإرادته، ولا يُبادر بالعمل حتى يتبيَّن له رُجحانه على تركه.
    قال الحسن - رحمه الله -: "رحم الله عبدًا وقف عند همِّه، فإنْ كان لله مضى، وإنْ كان لغيره تأخَّر".
    النوع الثاني:
    محاسبة النفس بعد العمل، وهو ثلاثة أنواع:
    أحدها: محاسبتها على طاعةٍ قصَّرت فيها من حقِّ الله، فلم يُوقِعْها على الوجه الذي ينبغي.وحقُّ الله تعالى في الطاعة ستَّة أمور، وهي:الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول فيه، وشُهود مشهد الإحسان فيه، وشُهود منَّة الله عليه، وشُهود تقصيره فيه بعد ذلك كلِّه.فيحاسب نفسه: هل وفَّى هذه المقامات حقَّها، وهل أتى بها في هذه الطاعة.
    الثاني:
    أنْ يحاسب نفسَه على كلِّ عملٍ كان تَرْكُه خيرًا له من فِعلِه.

    الثالث:
    أن يحاسب نفسه على أمر مباحٍ أو معتادٍ، لِمَ فعله، وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحًا، أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.

    وجماع ذلك:
    أنْ يحاسب نفسه أولاً على الفرائض، فإنْ تذكَّر فيها نقصًا تدارَكَه إمَّا بقضاء أو إصلاح.
    ثم يُحاسِبَها على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.ثم يُحاسِبَ نفسه على الغفلة، فإنْ كان قد غفل عمَّا خلق له تداركه بالذِّكر والإقبال على الله تعالى.ثم يحاسبَها بما تكلَّمت به أو مشت إليه رجلاه أو بطشت يداه، أو سمعَتْه أذناه، ماذا أردت بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أيِّ وجه فعلته؟ فالأوَّل سؤالٌ عن الإخلاص، والثاني سؤال عن المتابعة؛ قال تعالى: ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ ) الحجر: 92
    .
    وقال تعالى: ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف: 6.
    وقال تعالى: ( لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) الأحزاب: 8.فإذا سئل الصادقون وحُوسِبوا فما الظنُّ بالكاذبين؟!".
    يتبع
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    فوائد المحاسبة:

    قال ابن القيم[7]: "وفي محاسبة النفس عدَّة مصالح:
    1- الاطِّلاع على عيوبها، ومَن لم يطَّلع على عيب نفسه لم يمكنْه إزالته، فإذا اطَّلع على عيبها مقَتَها في ذات الله تعالى.فعن أبي الدرداء قال: "لا يفقه الرجل كلَّ الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدَّ مقتًا".وقال مطرف بن عبدالله: "لولا ما أعلم من نفسي لقليت نفسي".
    وقال أيوب السختياني: "إذا ذُكِرَ الصالحون كنت عنهم بمعزلٍ".
    وقال يونس بن عبيد: "إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم في نفسي منها واحدة".
    وقال محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريحٌ ما قدر أحد يجلس إليَّ".
    وعن ابن عمر أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "اللهم اغفِرْ لي ظلمي وكُفري، فقال قائل: يا أمير المؤمنين، هذا الظلم، فما بال الكفر؟! قال: إنَّ الإنسان لظلوم كفَّار".
    وعن عقبة بن صهبان الهمداني قال: "سألت عائشة - رضي الله عنها - عن قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [فاطر: 32]، فقالت: يا بُنيَّ، هؤلاء في الجنَّة؛ أمَّا السابق بالخيرات فمَن مضى على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - شهد له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالجنَّة والرزق، وأمَّا المقتصد فمَن اتَّبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأمَّا الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم، فجعلت نفسَها معنا!".
    فالنفس داعيةٌ إلى المهالك، ومُعِينة للأعداء، طامحة في كلِّ قبيح، متَّبعة لكلِّ سوء، فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة.
    فالنعمة التي لا خطر لها: الخروج منها، والتخلُّص من رقِّها، فإنَّها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى، وأعرف الناس بها أشدهم إزراءً عليها ومقتًا لها.


    2- ومن فوائد المحاسبة للنفس أنَّه يعرف بذلك حقَّ الله تعالى، ومَن لم يعرف حقَّ الله تعالى، فإنَّ عبادته لا تكاد تُجدِي عليه، وهي قليلة النفع جدًّا.فمن أنفع ما للقلب النظر في حقِّ الله على العِباد، فإنَّ ذلك يُورِثه مقتَ نفسه، والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتحُ له بابَ الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربِّه، واليأس من نفسه، وأنَّ النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإنَّ من حقِّه أنْ يُطاع فلا يُعصى، وأنْ يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر".
    ما الذي يعين على المحاسبة؟
    يعينه على هذه المحاسبة أمور:
    1- معرفته أنَّه كلما اجتهد في المحاسبة اليوم استراح منها غدًا؛ إذ صار الحساب إلى غيره، وكلَّما أهملها اليوم اشتدَّ عليه الحساب غدًا.
    قال عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه -: "حاسبوا أنفسكم قبل أنْ تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أنْ تُوزنوا، وتهيَّؤوا للعرض الأكبر، يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية".
    وقال الحسن البصري: المؤمن قوَّام على نفسه يُحاسِب نفسه لله - عزَّ وجلَّ - وإنما خَفَّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شَقَّ الحساب يوم القيامة على قومٍ أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.
    2- ويُعِينُه عليها أيضًا معرفته أنَّ ربح هذه التجارة سُكنَى الفردوس والنظَر إلى وجه الله سبحانه، وخسارتها دخول النار والحجاب عن الربِّ تعالى، فإذا تيقَّن هذا هانَ عليه الحساب.قال إبراهيم التيمي: مثَّلت نفسي في الجنة آكُل من ثمارها وأشرب من أنهارها، وأُعانق أبكارها، ثم مثَّلت نفسي في النار آكُل من زقُّومها، وأشربُ من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أيْ نفس، أيَّ شيء تريدين؟ قالت: أريدُ أنْ أُرَدَّ إلى الدنيا، فأعمل صالحًا، قال: قلت: فأنت في الآمِنين فاعمَلِي.
    3- ويعينه على ذلك أيضًا سماع سِيَرِ الصالحين ومُحاسبتهم لأنفُسهم؛ ففي سيرتهم ما يعينُ على شحْذ الهمة بالسير في ركابهم حتى يلحق بهم.
    طريقة المحاسبة:
    وقد مثلت النفس مع صاحبها بالشَّريك في المال، فكما أنَّه لا يتمُّ مقصودُ الشركة من الرِّبح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولاً، ثم بِمُطالعة ما يعمل، والإشراف عليه ومُراقبته ثانيًا، ثم بِمُحاسبته ثالثًا، ثم يمنعه من الخيانة رابعًا، فكذلك النَّفس يُشارِطها أولاً على حِفظ الجوارح.ثم ينتقلُ بعد ذلك إلى مُراقَبتها والإشراف عليها.
    فإذا وجد منها نُقصانًا انتقل إلى المحاسبة، ثم بعد ذلك يستدركُ هذا النقصان حتى لا تتَمادى عليه نفسُه.
    ويُوضِّح لنا الغزالي في "الإحياء" حديثًا مع النفس لهذه المشارطة والمحاسبة فيقول: "يقول - أي: العبد - للنفس: ما لي بضاعةٌ إلا العمر، ومتى فني فقد فني رأس المال، وهذا اليوم الجديد قد أمهلَنِي الله فيه وأَنساني أجَلِي، وأنعم عليَّ به، ولو توفَّاني لكنتُ أتمنى أنْ يرجعني إلى الدنيا يومًا واحدًا حتى أعمل صالحًا، فاحسبي أنَّك قد تُوفِّيت ثم قد رُدِدتِ، فإيَّاكِ ثم إيَّاكِ أنْ تُضيِّعي هذا اليوم، فإنَّ كلَّ نَفَسٍ من الأنفاس جوهرة.
    ويحك يا نفس! إنْ كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أنَّ الله لا يراك، فما أعظم كُفرَك! وإنْ كان مع عِلمك باطِّلاعه عليك فما أشدَّ وَقاحتك وقلَّة حَيائك؟!أتَظُنِّين أنَّك تُطِيقين عَذابَه! جرِّبي إنْ ألهاك البطر عن أليم عذابه فاحتَبِسي في الشمس، أو قرِّبي أصبعك من النار.
    ويحك يا نفس! كأنَّك لا تؤمنين بيوم الحساب، وتظنِّين أنَّك إذا مُتِّ انفلتِّ وتخلَّصت، وهيهات!أمَا تَنظُرين إلى أهل القبور، كيف كانوا جمعوا كثيرًا وبنوا مشيدًا، وأمَّلوا حميدًا، فأصبَح جمعُهم بورًا، وبُنيانهم قبورًا، وأمَلُهم غُرورًا.
    ويحك يا نفس! أمَا لك به عِبرة؟! أمَا لك إليهم نظرة؟! أتظُنِّين أنهم دُعُوا للآخِرة وأنت من المخلَّدين؟! هيهات هيهات! ساء ما تتوهَّمين.أمَا تَخافين إذا بلغت النفس منك التَّراقي؟!فانظُري يا نفس بأيِّ بدن تقفين بين يدي الله، وبأيِّ لسانٍ تُجيبين، وأعدِّي للسؤال جوابًا، وللجواب صَوابًا.واعمَلِي في أيَّامٍ قِصار لأيَّام طوال، وفي دار زوال لدار مقامة.
    اعمَلِي قبل ألاَّ تعمَلِي، وتقبَّلي هذه النصيحة، فإنَّ مَن أعرَضَ عن الموعظة فقد رضي بالنار، وما أراك بها راضية"[8].



    [/LEFT]
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    [1] رواه الطبراني في الكبير عن أنس، وحسنه الألباني، انظر "الصحيحة" (18/90).
    [2] الغبن: الخسارة.
    [3] "إحياء علوم الدين" (4/381).
    [4] "تفسير ابن كثير" (4/342).
    [5] "إغاثة اللهفان" (1/101).
    [6] "إغاثة اللهفان" (1/81-83).
    [7] من كتاب "إغاثة اللهفان" (1/84 – 87).
    [8] "إحياء علوم الدين" (4/383 -408) بتصرف.
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    مشهد التوحيد

    ثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله تعالى قال: كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصوم؛ فإنَّه لي وأنا أجزي به)).
    فأوَّل مشهدٍ يشهده الصائمون مشهد توحيد الله - عزَّ وجلَّ - وتوحيد الله ينقسِم إلى: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
    فيشهد أولاً توحيدَ الربوبيَّة؛ بأنَّه سبحانه المتفرِّد في الكون بالخلق والإيجاد، والملك والتصرُّف، فهو الذي خلَق الإنسان من العدم، وأسبغ عليه النِّعَم، فخلق العباد وخلَق له ممَّا في الأرض مُباحًا طَيِّبًا إلا ما حرَّمَه عليهم؛ ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29].
    وهو الذي أودع فيهم شهوةَ الطعام، وشهوةَ النكاح؛ فقال تعالى مُمتَنًّا على عباده: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ الأعراف: 189.
    واقتضَت رحمة الله - تربيةً لنفوس عباده - أنْ يُزكِّي الإنسان لتسمو روحُه، وليستَعلِي المؤمن بإيمانه على فتنة النفس والشهوة، وثقلة اللحم والدم، والرغبة في المتاع والسُّلطان، فلم يترُكْه ربُّنا فريسةً لشَهواته وأهوائه، بل أمَدَّه بما يصلحه بفريضة الصيام، فهو سبحانه (رب العالمين) الذي يتولَّى تربيتَهم بما فيه صَلاحُهم.
    فإذا شهد الصائم هذا المشهد ارتقى إلى مشهد الإلهيَّة، ومعنى الإلهيَّة: هو توحيد الله بالعبادة، فلا تُصرَف لغيره، وتفرُّده بالأمر، وذلك معنى قوله تعالى: ﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ الأعراف: 54، فله الخلق (توحيد الربوبية)، وله الأمر (توحيد الألوهية).
    فهو سبحانه الذي يفرض حُكمه فيُبِيح لعباده ما شاء ويُحرِّم عليهم ما شاء.
    ويتجلَّى ذلك في الصيام؛ فقد حرَّم عليهم ما أباحَه لهم من الطعام والشراب والنكاح وقتًا من الزمان، وهو نهار رمضان، فإذا كان يوم العيد حرَّم عليهم صيام ذلك اليوم.فسُبحان مَن له الأمر، حرَّم عليهم الفطر في نهار رمضان، وحرَّم عليهم الصوم يومَ العيد.فيشهد العبد بقلبه ربًّا جليلاً مستويًا على عرشه يأمُر خلقه بما شاء، وينهاهم عمَّا شاء، فيحلُّ لهم ما يشاء ويحرِّم عليهم ما يشاء، فهو الإله الحقُّ.فالحلال ما أحلَّه الله، والحرام ما حرَّمه الله، والدِّين ما شرعه الله.قال تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ الشورى: 21.
    وقال تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾ يونس: 59.
    وأمَّا كون الصيام لا يُصرَف إلا لله؛ فذلك لأنَّه عبادة السرِّ، وقد اختصَّ الله الصوم لنفسِه دون غيره من العبادات، فقال: ((إلا الصوم؛ فإنَّه لي وأنا أجزي به)).
    لذلك قالوا: إنَّه العبادة التي لم يُعبَد بها سِواه، فالرُّكوع والسجود عُبِدَ به غيرُ الله، والحجُّ ونحوه عُبِدَ به غيرُ الله، ولكنَّ الصوم عبادةٌ لم يُعبَد بها سواه.ثم ينتقلُ الصائم بعد ذلك إلى مشهد (الأسماء والصفات)، فيشهد صفات الله العُلَى، وأسماءه الحسنى في تشريعه الصومَ وتحريم الطعامِ والشراب والنِّكاح على الصائم.فيشهد ربًّا غنيًّا لا يفتقر إلى شيءٍ، بل هو (القيُّوم) وقيام كلِّ أمر به سبحانه.قال تعالى: ﴿ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ﴾ يونس: 68.
    وقال تعالى: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ﴾ الأنعام: 101.
    ويشهد معاني أسماء العِزَّة والقوَّة؛ فهو سبحانه (العزيز) (القوي) (المهيمن) (الكبير) (المالك) بما فرَضَه على عباده.وهو سبحانه (الحكيم) (الرحيم) في حِكمته في التشريع فلم يُعنِت عباده ولم يفرض عليهم الآصار، إنما فرَض عليهم ما في وسعهم؛ ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، ففرض عليهم شهرًا واحدًا في العام، فهذه رحمة الله بخلقه، كما أنَّه فرَض عليهم من عبادة الصلاة خمسَ صلواتٍ فقط، وفي الحجِّ مرَّة واحدة في العمر، وهكذا نجدُ الرحمة في فرائض الله في جميع أحكامه.ويشهد معنى (الرقيب) (البصير) الذي يَراهم أينما كانوا فيُراقبون الله سِرًّا وجهرًا ويُخلِصون العمل له.وهكذا تتجلَّى معاني العبوديَّة، فيكون الصائم في حِفظ الله وعِنايته؛ حيث يقول ربُّنا - تبارك وتعالى -: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ الزمر: 36، والله الموفِّق إلى سواء السبيل.

    موعظة:
    يا غافلاً عن القيامة، ستَدرِي بِمَن تقعُ النَّدامة، يا مُعرِضًا عن الاستقامة، أين وجهُ السلامة، يا كثيرَ الخطايا سيخفُّ ميزانك، يا مشغولاً بلهوِه سينشر دِيوانك، يا أعجميَّ الفهم متى تفهم؟ أتُؤثِرُ على طاعة الله كسبَ دِرهم؟ وتفرحُ بذنبٍ عقوبته جهنَّم، ستعلم حالك غدًا ستعلم، سترى مَن يبكي ومَن يندم.
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    مشهد التقوى


    وهو المشهد الأوفر، وهدف الصيام وغايته، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ البقرة: 183.
    قال ابن كثير: "لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان، ولهذا ثبت في الصحيحين: ((يا معشر الشباب مَن استطاع منكم الباءة فليتزوَّج؛ فإنه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجاء))"[1].
    "وهكذا تَبرُز الغاية الكبيرة من الصوم، إنها التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب، وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله وإيثارًا لرضاه، والتقوى هي التي تَحرُس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تَهجِس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلَّع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها وطريق موصل إليها، ومن ثَمَّ يرفعها القرآن أمام عيونهم هدفًا وضيئًا يتَّجِهون إليه عن طريق الصيام ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ البقرة: 73"[2].
    معنى التقوى:


    قال طلق بن حبيب: "التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله". قال الحافظ ابن رجب: "ويدخل في التقوى الكاملة فِعْل الواجبات، وتَرْك المُحرَّمات والشبهات، وربما دخل فيها بعد ذلك فِعل المندوبات وترْك المكروهات، وهي أعلى درجات التقوى".
    فعلى هذا فالتقوى درجات:

    أولها: فِعْل الواجبات وترْك المحرَّمات، وهي درجة المُقتصِدين أصحاب اليمين.
    قال ابن عباس: "المتَّقون الذين يَحذرون من الله وعقوبته في ترْك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في تصديق ما جاء به".
    وقال عمر بن عبدالعزيز: "ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرَّم الله وأداء ما افترض الله، فمن رُزِق بعد ذلك خيرًا، فهو خير إلى خير".
    الثاني وهو أعلاها: أن يزيد عما تقدَّم فِعْل المندوبات وترْك المكروهات والاستبراء من الشهوات. وقد وصَف الله تعالى المتَّقين فقال: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ البقرة: 177.
    وثبت في الصحيحين والسنن من حديث النعمان بن بشير: ((مَن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه)). قال الحسن البصري: "ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام". أصل التقوى:

    قال الحافظ ابن رجب: "أصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويَحذَره وقاية تَقيه منه"[3].
    وقال ابن كثير: "وأصل التقوى من التوقِّي مما يكره؛ لأن أصلها وقى من الوقاية"[4].
    وقد قيل: إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل أُبيَّ بن كعب عن التقوى، فقال له: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال: بلى، قال: فما عمِلت؟ قال: شمَّرتُ واجتهدت، قال: فذاك التقوى، وقد أخذ هذا المعنى المعتز فأنشد:
    خلِّ الذنوبَ صغيرَها
    وكبيرها ذاك التقى
    واصنع كماشٍ فوق أر
    ض الشوك يَحذَر ما يرى
    لا تَحقِرنَّ صغيرةً
    إن الجبال من الحصى
    تمام التقوى:


    تقدَّم الكلام عن أصل التقوى ومَنشئها، وأما نهايتها وتمامها، فقد قال أبو الدرداء: "تمام التقوى أن يتَّقي الله العبدَ حتى يتَّقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خَشية أن يكون حرامًا، يكون حجابًا بينه وبين الحرام". وقال أيضًا: "لا يبلُغ العبد حقيقةَ التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس". بالصيام يتحقَّق أصل التقوى وتمامها:


    الصوم عبادة يغلِب عليها مراقبة الله، والإخلاص في العمل؛ إذ إن الصائم لا يَطَّلِع عليه في وقت خَلوته أحد إلا الله، ومع ذلك يمتنع عن الإتيان بما يُخِل بصومه مراقبة لله وإخلاصًا له في هذه العبادة، فينشأ في نفسه التقوى التي أحلَّها وقاية نفسه من غضب الله وسخطه. ثم إن هذه التقوى والخشية تزداد عنده في هذا الشهر بما رغَّب فيه الشرع مع الصيام بقراءة القرآن وذِكر الله - عز وجل - وقيام الليل والصدقات وغير ذلك. وما زال يزداد ويرقى، وتقوى عزيمته بترك مألوفاته ومباحاته، فيتعوَّد بذلك على ترك ما يُبغِض اللهُ ولو كان شيئًا يسيرًا. قال الحسن البصري: "ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام". التقوى وصية الله إلى جميع خلقه:


    قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء: 131.
    والتقوى وصية رسوله - صلى الله عليه وسلم -:


    فعن العرباض بن سارية قال: وعَظَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعِظة مودِّع، فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي)) الحديث[5]. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميرًا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرًا.
    والتقوى وصية المؤمنين:


    كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول في خُطْبته: أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله وأن تُثنوا على الله بما هو أهله، وأن تَخلِطوا الرغبةَ بالرهبة وتجمعوا الإلحاف بالمسألة. وكتب عمر إلى ابنه عبدالله: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله، فإنه مَن اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومَن شكره زاده، واجعل التقوى نصب عينيك وجلاء قلبك. واستعمل علي بن أبي طالب رجلاً على سريَّة، فقال له: أوصيك بتقوى الله - عز وجل - الذي لا بد لك من لقاه، ولا منتهى لك دونه، وهو يَملِك الدنيا والآخرة. وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى رجل: "أوصيك بتقوى الله - عز وجل - التي لا يَقبل غيرها ولا يرحَم إلا أهلها ولا يثيب إليها عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين". والتقوى كما أنها وصية الله فهي أمر الله: قال تعالى: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ آل عمران: 102.
    قال ابن مسعود: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [آل عمران: 102] أن يُطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر. وهي أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -:


    عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اتَّقِ الله حيثما كنت وأَتْبِع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).

    [1] تفسير ابن كثير (1: 213) والحديث متفق عليه.
    [3] جامع العلوم والحكم.
    [4] تفسير ابن كثير (1: 40).
    [5] صحيح: رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح.
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    من فوائد التقوى


    1- أهل التقوى في معيَّة الله:


    قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]. 2- هم أكرم الخَلْق عند الله:


    قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]. 3- هم ورثة الجنة:


    قال تعالى: ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 63]، وقال تعالى: ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾ [ق: 31]، وقال: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ [الحجر: 45]، وقال: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ﴾ [القمر: 54]. 4- التقوى هي خير زاد:


    قال تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197]، وقال تعالى: ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26]. 5- المتقون هم أولياء الله:


    قال تعالى: ﴿ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 34]. 6- المُتَّقون هم أهل الانتفاع بالهدى والموعظة:


    قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]، وقال تعالى: ﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 66]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الحاقة: 48]. 7- هم أهل محبة الله:


    قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 4]. 8- التقوى سبب قوي لتحصيل الرزق:


    قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3].

    9- التقوى سبب نزول البركات:


    قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96]. 10- التقوى سبب لتكفير الذنوب:


    قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5]. وغير ذلك من الفوائد التي تُثمِرها التقوى فهي سبب كل فلاح وسبيل كل فوز، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [النور: 52].

    موعظة:


    أنت تدري ما كتابك، وستبكي والله عند عتابك وستعلم حالك يوم حسابك. يا له يوم لا كالأيام! تيقَّظ فيه مَن غفل ونام، ويحزن كل من فرح في الآثام، وتتيقَّن أن أحلى ما كنت فيه أحلام.
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    مشهد الجود


    في الصحيحين عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيُدارِسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسَلة". الجود خُلُق من أخلاق رسولنا - صلى الله عليه وسلم - الذي جبَله عليه رب العالمين، وحظه من الجود هو الحظ الأوفر والمكان الأسمى؛ ففي الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس".
    والجود هو البذل والعطاء، ليس في المال فحسب، بل في المال والعلم والوقت والجاه، وبذْل النفس لله تعالى وغير ذلك. وقد وصفته أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - بقولها: ((والله لا يُخزيك الله أبدًا، إنك لتَصِل الرحم، وتَقرِي الضيف، وتَحمِل الكلَّ، وتُكسِب المعدوم، وتُعين على نوائب الحق)).

    فمن جوده - صلى الله عليه وسلم - جوده بالعلم:


    وذلك بتعليم الجاهل، وبذْله للسائل الجواب أفضل وأكثر من سؤاله، فمثال ذلك عندما سئل عن الوضوء بماء البحر: قالوا: يا رسول الله، إنا نركب البحرَ ونحمل معنا القليل من الماء، فإذا توضَّأنا منه عطِشنا، أفنتوضَّأ بماء البحر؟ قال: ((هو الطهور ماؤه الحِل ميتته)).
    فتضمَّن جوابه أنواعًا من العلم جاد بها أكثر من سؤال السائل، فمن ذلك:


    منها: أنها أعطاه حكمًا عامًّا لماء البحر، سواء كان الحال على ما جاء في سؤال السائل، أم كان غير ذلك، إذ لا يَلزم لاستعماله أن يكون معه ماء قليل يخشى العطش إذا استعمله. ومنها: أنه أعطاه حكمًا آخر لم يسأل عنه السائل، وهو حُكْم ميتة البحر، ولا شك أن السائل يحتاج إليه؛ إذ كونه جَهِل حُكْم الماء مع العلم بطهوريته، فهو من باب أولى يجهل حكم ميتة البحر لظاهر قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ﴾ [المائدة: 3]، فقال - صلى الله عليه وسلم -مبينًا حُكْم ميتة البحر: ((الحِلُّ ميتته)).

    ومن جوده - صلى الله عليه وسلم - جوده بالصبر والاحتمال لأذى الغير:


    كما ورد في صحيح البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة - رضي الله عنها - حدَّثته أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أُحد؟ فقال: ((لقد لقيتُ من قومِكِ ما لقيتُ - وفي آخر الحديث - فإذا جبريل فناداني: يا محمد، إن الله سمِع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئتَ فيهم فناداني مَلَك الجبال فسلَّم عليَّ ثم قال: يا محمد؛ ذلك فيما شئتَ، فإن شئتَ أن أُطبِق عليهم الأخشبين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله - عز وجل - لا يشرك به شيئًا))، والأخشبان: هما جبلان بمكة.
    ومن ذلك جوده - صلى الله عليه وسلم - في بساطة وجهه وبشاشته في وجوه الناس. ومنها جوده - صلى الله عليه وسلم - في البذل والعطاء:


    في الصحيحين عن جابر قال: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فقال: لا، وأنه قال لجابر: ((لو جاءنا مالُ البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا))، وقال بيديه جميعًا.
    وفي صحيح مسلم عن صفوان بن أمية قال: ((لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني وإنه لمن أَبغض الناس إليَّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي)).

    وفي صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد أن شملة أُهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم -فلبسها وهو يحتاج إليها، فسأله إياها رجل فأعطاه، فلامه الناس وقالوا: قد كان محتاجًا إليها، وقد علمت أنه لا يَرُد سائلاً فقال: إنما سألتها لتكون كفني فكانت كفنه. قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:


    (كان جوده - صلى الله عليه وسلم -كله لله وفي ابتغاء مرضاته، فإنه كان يبذُل المال إما لفقير محتاج أو يُنفِقه في سبيل الله أو يتألَّف به على الإسلام مَن يقوى الإسلام بإسلامه، كان يؤثِر على نفسه وأهله وأولاده، فيُعطي عطاء يعجَز عنه الملوك مِثل كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يُوقَد في بيته نار، وربما ربَط على بطنه الحجرَ من الجوع، وكان قد أتاه سبي، فشكت إليه فاطمة ما تلقى من خدمة البيت، وطلبتْ منه خادمًا تكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها، وقال: ((لا أعطيك وأَدع أهل الصفة تُطوى بطونهم من الجوع)).
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    مشهد التوبة



    عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفِّدت الشياطين ومَرَدة الجن، وغُلِّقت أبواب النار فلم يُفتَح منها باب، وفتِّحت أبواب الجنة، فلم يُغلَق منها باب، ونادى منادٍ، يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أَقصِر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة))[1].


    يا مَن أكثر عمره مع الذنوب قد مضى، إن كان ما فرط يُوجِب السخط فاطلب في هذا الشهر الرضا، يا كثير القبائح، غدًا تَنطِق الجوارح، فأين الدموع السوافح، يا ذا الداء الشديد الفاضح، سُدَّ أبواب اللهو والممازح.

    يا مَن قد سارت بالمعاصي أخباره، يا من قد قَبُح إعلانه وأسراره، أتؤثِر الخسران - قل لي - وتختاره؟ يا كثير الذنوب وقد دنا إحضاره.


    قد ضاعت في الذنوب الأعمار، فأين يكون لهذا الغرس إثمار؟!

    أخي القارئ:


    هكذا ينادي المنادي في شهر رمضان ((يا باغي الشر أَقصِر))، إنها دعوة إلى التوبة فأيام رمضان أيام محو الذنوب، وقد ثبَت في الحديث عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد مَن أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلتُ: آمين، قال: يا محمد، مَن أدرك شهر رمضان فمات ولم يُغفَر له فأُدخِل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلتُ: آمين، قال: ومَن ذُكِرت عنده فلم يُصلِّ عليك فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين))[2].

    نعم، إنه شهر رمضان الذي يَمُن الله فيه على عباده بالعِتق من النيران، فالمحروم من أدرك رمضان فلم يُغفَر له، فقد اجتمع فيه كثير من أسباب المغفرة، فمن ذلك:


    1- الصيام:

    فالصوم يُكفِّر الله به الذنوب، فقد ثبت في الحديث:
    ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه))[3].


    وعن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يُكفِّرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))[4].

    2- التهجد:
    فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله
    - صلى الله عليه وسلم -: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه))[5].


    وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم وقُربة إلى الله تعالى، ومَنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومَطرَدة للداء من الجسد))[6].


    شهر رمضان شهر المصابيح، شهر التهجد والتراويح، واهًا لأوقاته من زواهر ما أشرفها، ولساعاته التي كالجواهر ما أَظرفَها، أشرقت لياليها بصلاة التراويح، وأنارت أيامها بالصيام والتسبيح، حِليتها الإخلاص والصدق، وثمرتها الخلاص والعِتق.
    3- ليلة القدر:

    ((مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه))[7].

    فيا مَن ضاع عمره في لا شيء، استدرك ما فات في ليلة القدر فإنها تُحسَب بالعمر.

    4- قراءة القرآن:
    وشهر رمضان هو شهر القرآن، قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].


    كان قتادة يَختِم القرآن في كل سبعِ ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة.
    وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: كنتُ أختِم القرآن في رمضان ستين مرة.

    وهكذا كان حال السلف إذا دخل رمضان ينشغِلون بقراءة القرآن.
    عن ابن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب مَنعته الطعامَ والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان))[8].

    يا من ضيّع عمره في غير الطاعة، يا مَن فرَّط في شهره، بل في دهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف والتفريط وبئست البضاعة، يا مَن جعل خَصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعلته خَصمك الشفاعة؟

    فعليك أخي الصائم أن تصون صومَك وإياك وكثرة المعاصي، وإياك وذَهاب ثواب صومك بالعكوف أمام الأفلام والمسرحيات والفوازير والأغاني ونحو ذلك.
    وهذه الأيام فرصة لك لكي تُقلِع عن ذنوبك ومعاصيك، فأيام رمضان أيام محو ذنوبكم، فاستغيثوا إلى مولاكم من عيوبكم، هي أيام الإنابة فيها تُفتَح أبواب الإجابة، فأين اللائذ بالجَناب، أين المتعرِّض بالباب، أين الباكي على ما جنى، أين المستغفِر لأمر قد دنا.
    أين المعتذِر مما جناه، فقد اطَّلع عليه مولاه، أين الباكي على تقصيره قبل تحسُّره في مصيره.
    قال عبدالله بن مسعود: "ودِدتُ لو أن الله غفر لي ذنبًا واحدًا، وألا يُعرَف لي نَسب".
    وقال: "وددتُ أني عبدالله بن روثة، وأن الله غفر لي ذنبًا واحدًا".


    الأمر بالمعروف:


    وقد أمر الله عباده وأرشدهم إلى التوبة في مواضع كثيرة، فقال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ النور: 31.

    قال ابن القيم: "وهذه الآية في سورة مدنيَّة خاطَب الله بها أهلَ الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه، بعد إيمانهم وصبْرهم، وهجرتهم، وجهادهم.

    ثم علَّق الفلاح بالتوبة تعليق المسبَّب بالسبب، وأتى بأداة (لعل) المُشعِرة بالترجي إيذانًا أنكم إذا تُبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم".
    وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]، قسم العباد إلى تائب وظالم، وما ثَمَّ قِسم ثالث البتة، وأوقع اسم (الظالم) على من لم يَتُب، ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه، وبعيب نفسه وآفات أعماله[9].
    وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله، فوالله إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة))[10].

    يا قليل العِبَر وقد رحل أبوه وأمه، يا مَن سيجمعه اللحد عن قليل ويَضمه، كيف يُوعَظ من لا يَعِظه عقله ولا فَهْمه، كيف يُوقَظ من نام قلبه لا عينه ولا جسمه.


    شروط التوبة:


    ينبغي أن تكون التوبة نصوحًا خالصة لله، وذلك يتحقَّق بثلاث شروط: الأول: الإقلاع عن الذنب.
    الثاني: الندم؛ لأنه فرَّط في حق الله - عز وجل.
    الثالث: العزم على ألا يرجع إليه مرة أخرى.
    فإن كانت هناك حقوق تتعلَّق بالعباد فيشترط مع هذه الشروط شرطًا: الرابع: وهو أن تُرَد الحقوق لأصحابها أو يتحلَّل منهم.

    أمور تحتاج إلى توبة غفل عنها الكثير: يجب على العبد أن يتوب من جميع الذنوب والآثام من الشرك والبدع والكبائر والصغائر.
    وإنه مهما بلغت الذنوب فإن الله يقبل توبة التائب، قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ الزمر: 53.

    فهلم أيها الصائم وأقصِر عن الذنوب والمعاصي: يا باغي الشر أقْصِر لتنال رحمة الله، وليُبدِّل الله سيئاتك حسنات؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ الفرقان: 68 - 70.

    [1] صحيح، رواه الترمذي وابن ماجه، معنى صفدت: شدت بالأغلال والقيود.
    [2] صحيح رواه الطبراني وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع وله شواهد أخرى بمعناه، انظر صحيح الترغيب والترهيب (985- 986).
    [3] رواه البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن.
    [4] رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه.
    [5] رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
    [6] صحيح، رواه الترمذي والبيهقي والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
    [7] رواه البخاري ومسلم.
    [8] صحيح، رواه أحمد والطبراني وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع.
    [9] مدارج السالكين (1: 178).
    [10] رواه مسلم (2702) وأبو داود (1515) من حديث الأغر المزني.






    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    مشهد الصبر



    قال تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45].

    قال ابن جرير في تفسيره: "وقد قيل: إن معنى الصبر في هذا الموضع الصوم، والصوم بعض معاني الصبر عندنا" [1].

    فالصوم تجتمع فيه معاني الصبر الثلاثة:


    1- الصبر على ألم الجوع والعطش.
    2- الصبر عن المعاصي، وقد علَّمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك حيث قال: ((من لم يدع قولَ الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))؛ متفق عليه.
    وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن سابَّه أحد أو قاتله أحد، فليَقُل: إني امرؤ صائم))[2].

    فليصبر الإنسان عن معصية الله - عز وجل - في هذا الشهر، ولا يَبِع حظَّه مع الله بشهوة تَذهَب لذاتها وتبقى تَبِعتها، تذهب الشهوة وتبقى الشقوة، ويُعينه على صبره عن شهواته مشهدُ قهره لشيطانه والظِّفَر به، ومشهد العِوض وهو ما وعد الله - سبحانه - من تعويض مَن ترَك الحرام، ومشهد البلاء والعافية، فإن البلاء ليس إلا الذنوب، والعافية المُطلَقة هي الطاعات وعوافيها[3].
    3- الصبر على طاعة الله - عز وجل - وهو يتحقَّق في رمضان بكثرة العبادة، ففيه الصوم، وفيه المحافظة على الصلاة، وفيه التهجد، وفيه تلاوة القرآن، وفيه الصدقة والجود، وفيه الإحسان إلى الخَلق، وفيه بِر الوالدين، وغير ذلك من أنواع الطاعات.
    واعلم أن صبر المؤمن إنما يكون لله وبالله، كما قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [النحل: 127].
    فالصيام يُربِّي المؤمنَ على تحمُّل المشاق بصبره، وهو بذلك يستطيع أن يَثبُت أمام المِحن مهما بلغت واشتدت، قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 34].
    وقال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّك َ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60]، والاستخفاف: الحمل على الخفَّة والطيش بعدم الصبر.

    [1] تفسير ابن جرير الطبري (1: 259).
    [2] متفق عليه.
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    ثمرات الصبر


    فالصبر قرينُ النصر، وهو مع اليقين طريق الإمامة في الدين، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].

    والصابر لا يخشى كيد الكائدين: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ﴾ [آل عمران: 120].

    والصبر يُوصِّل صاحبَه إلى العزِّ والتمكين، كما ذكَر الله عن نبيه يوسف - عليه السلام -: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90].
    ويكفي فضلاً للصابرين أن الله معهم ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، فظفروا بهذه المعيَّة بخيري الدنيا والآخرة. ومن ثواب الصابرين أن الله يحبهم ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]، وأي شيء يرجوه العبد بعد محبة الله له! ومن ثواب الصابر أنه لا يُقدِّر ثوابه إلا الله ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، وتأمَّل الارتباط بين هذه الآية وبين قوله في الحديث: ((إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به))، لتعلم أن الصبر قرين الصوم. ويكفي في الصبر أنه يجعل المسيء كأنه ولِيٌّ حميم: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35]. بل إن الإنسان لا ينال الفلاح إلا بالصبر، ولا يقوى على الدعوة إلا بالصبر، كما قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].
    فبيّن أن جنس الإنسان في خُسران إلا مَن حقَّق الإيمان والعمل الصالح فانتفع لنفسه، ثم نفع غيره بالدعوة إلى الحق والصبر على هذه الدعوة، وهذا مِصداق لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].
    ولا ينتفع بآيات الله إلا مَن رُزِق الصبر والشكر؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [إبراهيم: 5].
    وأخبر أن الصابر هو صاحب العزيمة القويَّة، وقد وصف الله رسله بقوة العزم وأمر رسوله بالصبر كما صبروا، فقال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]، وأرشد عباده إلى هذه العزيمة فقال: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43]، وقال: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [آل عمران: 186].
    وعمومًا فالصبر خير كله، فقال تعالى مؤكِّدًا: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126].
    وتستروح نفوس المؤمنين وينتهي ما يُلاقونه من حبْس النفس وتَجرُّع مرارة الصبر بالجنة التي أَعدَّها الله لهم: ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [المؤمنون: 111].
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    مشهد القرب من الله


    ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - عز وجل -: ((أنا عند ظن عبدي بي، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، ومَن تقرَّب إلي شبرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا، ومن تقرَّب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومَن أتاني يمشي أتيته هرولاً)).


    وفي شهر رمضان يتحقَّق في العبد أسباب القرب إلى الله - عز وجل:


    أولاً: قربه بتشريف الله - عز وجل - له؛ حيث اختصَّ الصوم عن غيره من العبادات.

    وقد اختلف العلماء في معنى قوله: ((الصوم لي)) على أقوال: أَخصُّها أن الصوم لا يقع فيه رياء كما يقع في غيره.

    قال الإمام أحمد: (لا رياء في الصوم).

    (مَن صفَّى صفِّي له، ومَن كَدَّر كُدِّر عليه، مَن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، وإنما يٌكال للعبد كما كال)[1].

    ثانيًا: القرب إلى الله - عز وجل - بالصوم، فإن الصائم قد تقرَّب إلى الله بما يُوافِق صفاته وصفات ملائكته.

    قال الحافظ ابن حجر:


    "والاستغناء عن الطعام والشراب وغيره من الشهوات من صفات الرب - جل جلاله - فلما تقرَّب الصائم إليه بما يُوافِق صفاته أضافه إليه".

    وقال القرطبي:


    "إن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصوم فإنه مناسِب لصفة من صفات الحق، كأنه يقول: إن الصائم يتقرَّب إليَّ بأمر هو متعلِّق بصفة من صفاتي"، وكذلك المعنى بالنسبة للملائكة؛ لأن ذلك من صفاتهم.

    ثالثًا: القرب بالدعاء، فقد ذكَر الله - عز وجل - آية الدعاء مع آيات الصوم، فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].

    رابعًا: القرب بكثرة النوافل: ففي رمضان تُشرَع التراويح، وقد ثبت في صحيح البخاري من الحديث القدسي قال الله - عز وجل -: ((ما تقرَّب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إلي بالنوافل حتى أُحِبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يُبصِر به ويده التي يَبطِش بها ورجلاه التي يمشي بها)).

    خامسًا: القرب وقت السحر: وهو وقت النزول الإلهي، حيث ينزل ربُّنا إلى سماء الدنيا فيقول: (هل مَن سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأقْبَل توبتَه، هل من مستغفرٍ فأغفر له).

    وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله وملائكته يُصلُّون على المتسحِّرين)).

    سادسًا: القرب بتلاوة القرآن: وهو أجلُّ القربات إلى الله - عز وجل - قال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 23].

    فهنيئًا للصائم قُرْبه من مولاه، وحُقَّ له أن يفرح بعبادته ربه يوم فِطره، حيث أَتمَّ العبادة، وبُشرى له يوم الفرح الأكبر عند لقاء ربه، ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23].

    موعظة:


    يا كثير الكلام حسابك شديد، يا مؤثِرًا ما يضره ما رأيك سديد، يا ناطقًا بما لا يُجدي ولا يفيد ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].

    كلامك مكتوب، وقولك محسوب، وأنت يا هذا مطلوب، ولك ذنوب وما تتوب ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].

    أتظنُّ أنك متروك مُهمَل، أم تَحسب أنه يُنسى ما تعمل، أو تعتقد أن الكاتب يغفُل، يا قاتلاً نفسه بكفه لا تفعل، يا من أجله ينتقص ولا يَزيد ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].


    [1] من كتاب نداء الريان للدكتور/ سيد حسين عفاني.
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    الله المستعان
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي رد: مشاهد الإيمان في شهر رمضان لشيخنا عادل العزازي

    شهر الإيمان
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •