قال الشيخ صالح ال الشيخ حفظه الله


فمن أسباب نبوغ السلف:


السبب الأول : صدق الإخلاص لله – جل وعلا – في العلم :

والإخلاص قد يكون في شأن المتعلم ، وقد يكون في شأن مَن وجهه إلى العلم ؛ من الوالد والمعلم والشيخ ، ونحو ذلك ، ولهذا قال بعض الأئمة : طلبنا العلم بغير نية ، ثم جاءت النية بعده . وقال آخر : طلبنا العلم لغير الله ، فأبى أن يكون إلا لله .


ومعنى كلامهم هذا أنهم حين توجهوا للعلم لم يكن عندهم من الفهم بحيث يتجهون إلى تصحيح النية في القصد ؛ لصغر سنهم ، أو لأجل التنافس بين الأقران في الحفظ والعلم وملازمة المشايخ ، ولكن لأجل صحة التوجه وصحة العمل فإن النية جاءت بعدُ . وقوله : “طلبنا العلم لغير الله” لا يعني أنهم يتجهون به لغير الله ، لكن المقصود استحضار النية ، “فأبى أن يكون إلا لله” لأنهم تعلموا في العلم « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ » ، وتعلموا في العلم الإخلاص لله جل وعلا ، وتعلموا أن هذا العلم إنما هو ميراث النبوة ، فحينئذ لن يفلح فيه ولن يستقيم عليه إلا من أخلص فيه .
سُئل الإمام أحمد – رحمه الله تعالى ورفع درجته – عن الإخلاص في العلم فقال : تنوي رفع الجهل عن نفسك ، ورفع الجهل عن غيرك .


وهذا مقصد صحيح شرعي ؛ لأن رسالة الأنبياء – عليهم صلوات الله وسلامه – كانت لرفع الجهل عن الناس ، ونفع الناس بالعلم ؛ بالوحي المطهر من عند الله جل وعلا .


لهذا أوصي جميع المتعلمين أن تكون همتهم حين يتعلمون أن يرفعوا الجهل عن أنفسهم ، وأوصيهم إذا آنسوا من نفسهم رشدًا وطلبوا علمًا لينفعوا به غيرهم أن ينووا رفع الجهل عن الغير ، ولو كان ذلك الغير صغارًا أو ضعفاء في العلم ، أو كانت حاجتهم قليلة جدًّا ، لكن يشتركون في الحاجة إلى العلم ، فيتخلص طالب العلم من قصد الدنيا في رغبه وتوجهه إلى العلم ، ومن ثابر وألزم نفسه بهذه النية فإنها لا مثل لها في تحصيل العلم بعد توفيق الله جل وعلا .


السبب الثاني : أنهم لم يلتفتوا عن العلم إلى غيره :

وهو السبب الثاني لنبوغ السلف الصالح في العلم والتعليم ؛ فإن السلف توجهوا إلى العلم والدنيا عندهم ، فانفتحت الدنيا في أواخر عهد الصحابة ، وفي الدولة الأموية والعباسية ، حيث كانت كنوز الدنيا تصب في بلاد المسلمين ، ومع ذلك كان العلماء يرشدون الناس إلى طلب العلم ، لا إلى الالتفات إلى الدنيا ؛ لأن الدنيا يعطيها الله – جل وعلا – من يحب ومن لا يحب ، ولأن الدنيا لا تحفظ بها الأمة ، ولأن الدنيا مهما بلغت فهي تأتي وتذهب كموج البحر ؛ تارة يمتد وتارة يقصر ، أما العلم فإن بقاءه في الأمة سبب قوتها وسبب نبوغها ؛ لأن معناه الحفاظ على الدين . والله – جل وعلا – فتح الخيرات على هذه الأمة بسبب ما منّ الله به عليها من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

وقد توجه العلماء على مر العصور إلى حث الناس على العلم النافع ، فتجد حتى في حال وجود الفتن والحروب أن العلماء يشتغلون بالعلم أيما اشتغال ، فانظر مثلا في وقت فتنة خلق القرآن كم صنف في أثناء تلك الفتنة التي امتدت أكثر من عشرين عامًا ، كم صنف في تلك الفترة من كتاب ، بل إن عدد من أئمة الحديث كتبوا كتبهم الكبيرة في أثناء تلك المدة ، وكذلك في زمن تسلط العُبيديين على مصر ، كم صنف في تلك الفترة الطويلة من مؤلفات لأهل العلم كبارًا وصغارًا ، يحفظون بها الديانة على الأمة ، ويشرحون فيها كلام الله – جل وعلا – وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم .
فإذن سبب النبوغ : أنهم لم يلتفتوا عن العلم إلى غيره ، لعلمهم أن العلم أثره باقٍ ، وأن غيره قد يأتي وقد يذهب .

السبب الثالث : التواصي والحث على العلم بداية من الأسرة :

إن المجتمعات الإسلامية في ذلك الزمان كان فيها نهضة علمية قوية ، وكان للعلماء ولأهل الحديث بخاصة نشاط كبير وعمل عظيم في حث الناس على سماع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، والتفقه في ذلك ، فإذا كان البيت مع المسجد مع المدرسة كلٌّ يقوم بدوره في حث الناس على العلم ، فإنه سينشط الناس في الإقبال عليه ، والناس إذا نشطوا في شيء وحثوا على الإقبال عليه فإنهم سيظهر منهم نوابغ

وأذكر ما ذكره عدد من مشايخنا أن علماء الدعوة عن قريب كانوا لا يقبلون ممن يحضر الدروس إلا من يحفظ المتون العلمية ، وكان الآباء في البيوت يحثون أبناءهم على الحفظ وملازمة المشايخ ، فصار الخير الكثير مما عُرف فيما قرب .

وهكذا كان في زمن السلف ، فإنهم تواصوا بالعلم ، فبعضهم يحث بعضًا ، ولهذا كان في البيت الواحد يخرج عدد من أهل العلم ، فهؤلاء أربعة إخوة يطلبون العلم ، وهؤلاء خمسة . . . وهكذا ، مثل آل ابن عجلان فيهم أربعة ، وأبناء ابن عمر فيهم ثلاثة ، ففي البيت الواحد يكثر العلم وينتشر لحث أهله عليه ، فظهرت بيوت في العلم سارت على مدى الزمن قرونًا متعددة والعلم يتناقله ويتواصى به الجميع في تلك الأسر ، فامتدت أسر علمية من القرن الأول إلى زماننا الحاضر معروفة في أمصار المسلمين ؛ من أجل هذا الاهتمام بالعلم .

فإذن من أسباب نبوغهم : أن الجميع يتعاونون ، وتعاون الجميع مبني على أمر مهم ، وهو إدراك الجميع من الآباء والأمهات ، ومن أهل المسجد ، ومن المعلمين والمربين ، ومن المشايخ ، إدراكهم بأهمية العلم وأهمية الحفظ ، وأهمية القوة فيه ، وأن هذا فيه النفع العظيم للأمة ، فإذا أدركوا وجهوا وثابروا على ذلك ، ولقد رأينا – ولله الحمد – أمثلة كثيرة لذلك

السبب الرابع : المنهجية :

الحفظ . . البيان :
فمن أسباب نبوغ السلف الصالح في العلم أنهم اهتموا بالمنهجية في العلم ؛ فيأتي في البداية الحفظ ، وهو أن تُحفظ المتون القصيرة قبل الطويلة ، وبعد الحفظ يأتي الإقراء والدرس على المشايخ الذين يُؤتم بهم في شرح تلك العلوم ، فيكون الحفظ أولا ، ثم يجيء البيان بعدُ ، وهذا أخذه العلماء من قول الله جل وعلا : ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ( 18 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ[ القيامة : 18 ، 19 ] فقدم الحفظ ثم أخر البيان ، والحفظ مهم للغاية ، ولا يُستهان به ، بل هو الأساس في العلم ؛ لأن الفهم عرض يطرأ ويزول ، إن فهم المسائل يأتي ويذهب ، حتى إننا في بعض المسائل نحتاج إلى مراجعتها كل سنة ؛ لأجل أنها لا توجد في المتون المعروفة ، ونحو ذلك ، وتلتبس بين الحين والآخر ، فتحتاج إلى مراجعة حتى تستقر ، أما إذا كان المحفوظ قائمًا وواضحًا في الذهن ، ثم بعد ذلك جاء الشرح وفُهم ما حُفظ وحافظ طالب العلم على محفوظه ؛ فإنه في الغالب يستقر العلم ولا يذهب

وهذا من مميزات علم السلف وحِلق العلم القديمة على المدارس الحديثة ، أنهم كانوا يعتنون بالحفظ ثم يأتي الفهم ، أما الآن فالفهم أولًا ثم الحفظ ثانيًا ، ولذلك لا يهتم بالحفظ ؛ لانشغال الناس بالفهم عن غيره ، وظنهم أن هذا لوقتٍ ثُم لا حاجة له فيما بعد .

http://salehalshaikh.com/wp2/?p=196