سئل - رحمه الله - :
عن الغيبة هل تجوز على أناس معينين أو يعين شخص بعينه ؟ وما حكم ذلك ؟ أفتونا بجواب بسيط ؛ ليعلم ذلك الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ويستمد كل واحد بحسب قوته بالعلم والحكم .
فأجاب : الحمد لله رب العالمين، أصل الكلام في هذا أن يعلم أن الغيبة هي كما فسرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح لما سئل عن الغيبة فقال : «هِيَ ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ» قيل: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتّه». وفي قوله صلى الله عليه وسلم «ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ» موافقة لقوله تعالى: ﴿وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ فجعل جهة التحريم كونه أخاً أخوةَ الإيمان؛ ولذلك تغلّظت الغيبة بحسب حال المؤمن، فكلما كان أعظم إيمانا كان اغتيابه أشد... إذا تبين هذا فنقول :
ذكر الناس بما يكرهون هو في الأصل على وجهين:

أحدهما: ذكر النوع
والثاني: ذكر الشخص المعين الحي أو الميت

أما الأول فكل صنف ذمه الله ورسوله يجب ذمه ؛ وليس ذلك من الغيبة كما أن كل صنف مدحه الله ورسوله يجب مدحه وما لعنه الله ورسوله لُعن. فالله تعالى ذم الكافر والفاجر والفاسق والظالم والغاوي والضال والحاسد والبخيل والساحر وآكل الربا وموكله والسارق والزاني والمختال والفخور والمتكبر الجبار وأمثال هؤلاء؛ كما حمد المؤمن التقي والصادق والبار والعادل والمهتدي والراشد والكريم؛ والمتصدق والرحيم وأمثال هؤلاء

فإذا كان المقصود الأمر بالخير والترغيب فيه والنهي عن الشر والتحذير منه: فلا بد من ذكر ذلك ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه أن أحدا فعل ما ينهى عنه يقول: « ما بَالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا» فهذا الكلام في الأنواع. وأما الشخص المعين: فيذكر ما فيه من الشر في مواضع : منها: المظلوم، له أن يذكر ظالمه بما فيه. إما على وجه دفع ظلمه واستيفاء حقه كما قالت هند : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي . فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم- : «خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» كما قال صلى الله عليه وسلم: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» وقال وكيع: عِرضه شكايته، وعقوبته حبسه وقال تعالى: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلَّا مَنْ ظُلِمَ

ومنها: أن يكون على وجه النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم، كما في الحديث الصحيح عن فاطمة بنت قيس لما استشارت النبي صلى الله عليه وسلم من تنكح ؟ وقالت: إنه خطبني معاوية وأبو جهم فقال: «أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ»
وروي:
«لا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ» فبين لها أن هذا فقير قد يعجز عن حقك، وهذا يؤذيك بالضرب. وكان هذا نصحا لها - وإن تضمن ذكر عيب الخاطب.
وفي معنى هذا نصح الرجل فيمن يعامله ومن يوكله ويوصي إليه ومن يستشهده؛ بل ومن يتحاكم إليه . وأمثال ذلك ؛ وإذا كان هذا في مصلحة خاصة فكيف بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين : من الأمراء والحكام والشهود والعمال : أهل الديوان وغيرهم ؟ فلا ريب أن النصح في ذلك أعظم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قَالُوا لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ». وإذا كان النصح واجبا في المصالح الدينية الخاصة والعامة: مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون كما قال يحيى بن سعيد: سألت مالكا والثوري والليث بن سعد - أظنه - والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ ؟ فقالوا : بيّن أمره

وقال بعضهم لأحمد بن حنبل : أنه يثقل علي أن أقول فلان كذا وفلان كذا . فقال :إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم . ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة ؛ فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع ؟

فقال
: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل . فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله؛ إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء

وأعداء الدين نوعان: الكفار والمنافقون، وقد أمر الله نبيه بجهاد الطائفتين في قوله: ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ في آيتين من القرآن. فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعا تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تُبين للناس: فسد أمر الكتاب وبدل الدين ؛ كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم يُنكر على أهله. وإذا كان أقوامٌ ليسوا منافقين لكنهم سمّاعون للمنافقين: قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقا؛ وهو مخالف للكتاب، وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين، كما قال تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلاّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ فلا بد أيضاً من بيان حال هؤلاء؛ بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم؛ فإن فيهم إيمانا يوجب موالاتهم وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين، فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم ؛ بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق؛ لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين؛ ولم تكن كذلك لوجب بيان حالها.

ولهذا وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية ومن يغلط في الرأي والفتيا ومن يغلط في الزهد والعبادة؛ وإن كان المخطئ المجتهد مغفورا له خطؤه وهو مأجور على اجتهاده. فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب؛ وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله. ومن عُلم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يُذكر على وجه الذم والتأثيم له ؛ فإن الله غفر له خطأه ؛ بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه : من ثناء ودعاء وغير ذلك ..
وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقا أو مؤمنا مخطئا: ذكر بما يعلم منه، فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصدا بذلك وجه الله تعالى، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله. فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثما.

وقد قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين َ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا و"اللي" هو الكذب و"الإعراض" كتمان الحق

ثم القائل في ذلك بعلم لا بد له من حسن النية فلو تكلم بحق لقصد العلو في الأرض أو الفساد كان بمنزلة الذي يقاتل حمية ورياء . وإن تكلم لأجل الله تعالى مخلصا له الدين كان من المجاهدين في سبيل الله من ورثة الأنبياء خلفاء الرسل. وليس هذا الباب مخالفا لقوله: «الْغِيبَةُ ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ» فإن الأخ هو المؤمن، والأخ المؤمن إن كان صادقاً في إيمانه لم يكره ما قلته من هذا الحق الذي يحبه الله ورسوله، وإن كان فيه شهادة عليه وعلى ذويه، بل عليه أن يقوم بالقسط ويكون شاهدا لله ولو على نفسه أو والديه أو أقربيه، ومتى كره هذا الحق كان ناقصاً في إيمانه، ينقص من أخوته بقدر ما نقص من إيمانه فلم يعتبر كراهته من الجهة التي نقص منها إيمانه ؛ إذ كراهته لما لا يحبه الله ورسوله توجب تقديم محبة الله ورسوله كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ . والله أعلم وأحكم . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .

من مجموع الفتاوي ج28 ص
222من مجموع الفتاوى (28/222)

____________