عناصر الخطبة:
1- المعاصي لها أثار سيئة في الدنيا والأخرة
2- شكر النعم وإستعمالها في طاعة الله سبب في إدامتها
3- المعاصي تزيل النعم وتمحق البركة وتحل النقم
4- ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة
5- العبرة بالخواتيم.

" الخطبة الأولى "

معاشر المؤمنين: قالَ تعالى: " وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليهمُ القول فدمَّرنها تدميراً ".

أي أمرنا أهل الترف والمنعمين بطاعة الله، والإستقامة على طاعته، فعصوا الله وخالفوا هديَ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فكلما كثُرت المعاصي اعلم أنه اقترب عقاب الله.
ومن أثار الذنوب والمعاصي في الأخرة، حرمان الجنة التي هي أعظم النعم، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ أمتي يدخلون الجنَّةَ إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار " [رواه البخاري].
ومن أثار الذنوب والمعاصي في الدنيا، العيش بهم وغم وضيق، ولو كنت تملك الدنيا كلَّها. قال تعالى: " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ".
ومن أثار الذنوب والمعاصي في الدنيا، الذل، والعيش برعب وخوف، ولو كان عندك جاه وسلطان، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: " إنما جُعلَ الذُلُّ والصِغارُ على من خالف أمري " [رواه أحمد].
والمخالفون لأمر الله ورسوله ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، أولاً: مخالفة من لا يعتقد طاعته كمخالفة الكفار واليهود، لا يرون طاعة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فهم تحت الذُلة والصغار، ولهذا أمر الله بقتال أهل الكتاب، حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أي ذليلون، قال تعالى عن اليهود: " وضُربت عليهمُ الذلة والمسكنة " أي الذل والخوف، فلا تجد يهودياً إلا وبه رعب وخوف وذل. ثانيا: من اعتقد طاعته، ثم خالف أمره بالمعاصي، فله نصيب من الذل والصغار، قال الحسن البصري-رحمه الله-: " إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إنَّ ذُلَّ المعصية في قلوبهم. أبي الله إلا أن يذل من عصاه ". وكان الإمام أحمد يقول: " اللهم أعزنا بعز الطاعة، ولا تذلنا بذل المعصية ". ثالثا: من خالف أمره من أهل الشُبهات، وهم أهل الأهواء والبدع، وكلهم لهم نصيب من الذل والصغار، قال تعالى: فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يُصيبهم عذاب أليم ".
قال الشاعر أبو العتاهية:

أَلا إِنَّمَا التَّقْوَى هِيَ العِزُّ والكَرَمْ وَحُبُّكَ لِلدُّنْيَا هُوَ الذُّلُّ والسَّقَمْ
وَلَيْسَ عَلَى عَبْدٍ تَقِيٍّ نَقِيصَةٌ إِذَا حَقَّقَ التَّقْوَى وَإِنْ حَاكَ أَوْ حَجَمْ
ومن أسباب الذل، ترك الجهاد في سبيل الله، عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذنابَ البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتمُ الجهادَ، سلَّط الله عليكم ذُلاً لا ينزعُه حتى ترجعوا إلى دينكم " [رواه أبو داود]. ومن أسباب الذل، الإنشغال بالدنيا، وترك الدين، قال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة بغير ذلك أذلنا الله ". ومن أثار الذنوب والمعاصي في الدنيا، ما قاله ابن عباس-رضي الله عنه-: " إنَّ للسيئة ظلمةً في القلب، وسودة في الوجه، ونقصاً في الرزق، ووهناً في البدن، وبغضة في قلوب الخلق ". ومن أثار الذنوب والمعاصي في الدنيا، قسوة القلب وسواده. تلا الحسن البصري-رحمه الله- " كلا بل ران على قلوبهم " فقال: " هو الذنب بعد الذنب حتى يسودَّ القلب ".

معاشر المؤمنين: شكر النعم وإستعمالها في طاعة الله سبب لإدامتها، قال سبحانه: " وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنَّكم ". والذين يشكرون الله، قلة قليلة، قال تعالى: " وقليلٌ من عباديَ الشكور ". والشكر هو أن لا يستعين العبد بنعمة الله على معصيته. الشكر هو أن يتقي الله حقَّ تقاته فلا يُعصى، ويُذكرُ ولا يُنسى، ويُشكرُ ولا يُكفرُ.
ومن كنوز الشكر في الدنيا، أنه يدفعك إلى الطريق إلى الله. قال سبحانه: " إنَّا هديناه السبيلَ إما شاكراً وإما كفوراً ". ومن كنوز الشكر، أنه يحفظك من عذاب الله في الدنيا والأخرة. قال سبحانه: " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً ". وكان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-كثير الشكر، وعلمنا أن نقول بعد كُلِّ صلاة " اللهم أعني على ذكرك، وشُكرك، وحسنِ عبادتك ". اعلم رعاك الله أنَّ العينين، والأذنين، واليدين، لهما حقٌّ عليك بالشكر، فما هو شكر العينين والأذنين واليدين؟ جاء رجل إلى أبي حازم يسأله عن شكر العينين، فقال: إن رأيت بهما خيراً أعلنته، وإن رأيت بهما شراً سترته. قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت بهما خيراً وعيته، وإن سمعت بهما شراً دفعته. قال: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذْ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقاً لله هو فيهما.
ورسول الله-صلى الله عليه وسلم-يروي لنا قصةً جميلةً عن الشكر، حدثت في عهد بني إسرائيل. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ثلاثة من بني إسرائيل، أَبرَصَ، وأعمى، وأقرع، أراد الله أن يبتليهم؛ فبعث إليهم ملكًا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟!
قال: لون حسن، وجلد حسن. فمسحه فذهب عنه، وأُعطي لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا. قال: أي المال أحب إليك؟! قال: الإبل؛ فأعطي ناقة عشراء، وقال: بارك الله لك فيها.
وأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟! قال: شعر حسن، ويُذهبُ عني هذا؛ فمسحه فذهب، وأعطي شعرًا حسنًا. قال فأي المال أحب إليك؟! قال: البقر؛ فأعطاه بقرة، وقال: يُبَارك لك فيها.
وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟! قال: يرد الله إلىَّ بصري؛ فأبصر الناس؛ فمسحه فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟! قال: الغنم؛ فأعطاه شاة ..
فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، و لهذا وادٍ من الغنم.
ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله، ثم بك. أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن و الجلد الحسن والمال، بعيرًا أتبلَّغُ به في سفري. فقال له: إنَّ الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك! ألم تكن أبرص، فقيرا، فأعطاك الله عز وجل؟! قال إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر.
فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له كما قال للأبرص، فرد عليه مثل ما رد عليه الأبرص، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك، شاة أتبلغ بها في سفري. فقال: قد كنت أعمى فرد الله إليَّ بصري، وفقيرًا فأغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل، (أي: لا أشق عليك في رد شيء تأخذه أو تطلب من مالي).
فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك. [رواه البخاري ومسلم].

" الخُطبة الثانية "

معاشر المؤمنين: قال الله-تبارك وتعالى-: " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقَهم بعض الذي عملوا لعلَّهم يرجعون ". والفساد هو الفتن، والقتل، وإرتفاع الأسعار، والذل، ومحق البركة، وحلول النقم، ما السبب؟ بما كسبت أيدي الناس من المعاصي، فأذاقهم الله هذا لعلهم يرجعوا ويتوبوا إليه سبحانه.


عن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فقال: يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهرِ الفاحشة في قوم قطُّ حتى يُعلنوا بها, إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا الميكال والميزان, إلا أُخذِوا بالسنين وشِدة المؤونة وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم, إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يُمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله, إلا سلَّط الله عليهم عدواً من غيرهم. ومالم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله, إلا جعل الله باسهم بينهم " [رواه ابن ماجه].

- لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يُعلنوا بها, إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا. زنا لواط سُحاق زنا المحارم إنتهاك حرمات في السر والعلانية، فدب إليهم عليهم أمراضاً لم تسمع بها أجدادهم من قبل. إيدز سرطان فلونزا الخنازير فلونزا الطيور جنون البقر سكري سيلان وغير ذلك من الأمراض.

- ولم ينقصوا الميكال والميزان, إلا أُخِذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم. أي إذا غشوا في الميزان وغشوا في البضاعة والسلعة, ابتلاهم الله بالظلم وإرتفاع الأسعار وظلم السلطان عليهم.
- ولم يمنعوا زكاة أموالهم, إلا منعوا القطر أي المطرَ من السماء, ولولا البهائم لم يُمطروا. فالله-عز وجل-ينزل المطر رحمةً بالبهائم والأطفال الرضع والعباد السجد الركع.
- ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله, إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم. أي يتحكمون في بلاد المسلمين، ويأخذون ثرواتِهم. وليس الخوف من أمريكا، وسلاحِها الفتاك. كلا فقوة أمريكا تهون أمام قوة الله. والله-عز وجل- قادر أن يجعل قوتها ضِعغاً، وعزَّها ذُلاً، وغناها فقراً، قال تعالى: " ولا يحيق المكرُ السيِّئُ إلا بأهله ". ولكن الخوف كلَّ الخوف من ذنوبنا ومعاصينا. قال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: " ذنوبكم أخطرُ عليكم من عدوكم ".
- ومالم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله, إلا جعل الله باسهم بينهم. أي جعل بينهم الشقاق والتنافر والعداوة بينهم.

معاشر المؤمنين: قال علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-: " ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رُفِعَ إلا بتوبة ". فتوبوا إلى الله توبةً نصوحةً، ولا تيئسوا مهما لوثتكم الذنوب والخطايا. قال تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنَّ الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ". قيل للحسن البصري-رحمه الله-: يا أبا سعيد الرجل يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب، إلى متى؟ قال: " ما أعلم هذا إلا أخلاقُ المؤمنين ". وأكثروا من الإستغفار في جميع أحوالكم وشؤونكم. وكان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يستغفر في اليوم سبعين مرةً، وفي رواية مئةَ مرة. وقال عليه-الصلاة والسلام-: " طوبى لمن وُجِدَ في صحيفته إستغفاراً كثيراً ".

معاشر المؤمنين: اعلموا أنَّ العبرة بالخواتيم. فهنيئاً لمن وفقه الله لحسن الخاتمة. قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكونُ بينها وبينه إلا ذِراع فيُسبق الكتاب عليه فيعمل عمل أهل النار فيدخل النار، وإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكونُ بينها وبينه إلا ذِراع فيُسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها " [رواه البخاري]. والذي يريد الله به خيراً يوفقه لحسن الخاتمة. قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " إذا أراد الله بعبد خيراً استمعله قبل موته. فسأله رجل من القوم ما استعمله؟ قال: يهديه الله-عز وجل-إلى عمل صالح قبل موته ثم يُقبضه علي ذلك " [رواه أحمد]. والذنوب والمعاصي تمنع العبد من حسن الخاتمة وتخذل صاحبها عند الموت. قال ابن كثير-رحمه الله-: " إنَّ الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له، فيجتمع عليه الخذلان مع ضِعف الإيمان فيقع في سوء الخاتمة، فيكون ممن قال الله فيه: " وكان الشيطان للأنسان خذولاً ". فسوء الخاتمة مزقت قلوب الصالحين، وطيرت أفئدتهم. قال المُزني: " دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحتُ عن الدنيا راحلاً، وللأخوان مُفارقاً، ولكأس المنية شارباً، ولعملي مُفارقاً، وعلى الله وراداً، ثم بكى وقال: لا ادري أتصير روحي إلى الجنة فأهنِّيها، أم إلى النار فأعزِّيها ".
نسأل الله أن يرزقنا حسن الخاتمة.

وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.