التعاون الشرعي
أصوله وآدابه وثمراته
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}( )
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}( )
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}( )
أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد() ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.
فقال – تعالى - : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [المائدة : 2] .
وعن أَبي موسى - رضي الله عنه - ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - : " المُؤْمِنُ للْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً " ، وشبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ . (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ) .
إن التعاون الشرعي على تحقيق مصالح العباد الدينية والدنيوية حقيقته سجية نبل الباعث على الاتصاف بها مكارم الأخلاق لما يتضمنه التعاون من الخلال الزكية والشمائل الندية – محبةً وصدقاً وكرماً وجوداً ورحمةً ورأفةً وشجاعةً وإقداماً - .
وخلق التباذل والتعاضد هو السوق العامرة التي تَنْفُقُ فيها الدعوة الشرعية وتروج ، وبسببه يأنس الناس بحملتها ، ولا تستوحش نفوسهم من نقلتها، كما كان عليه من هو أجود بالخير من الريح المرسلة – صلوات ربي وسلامه عليه - ، فقد وصفته خديجة – رضي الله عنها – فقالت : " كَلاَّ وَاللهِ، مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِين عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ " (متفق عليه) .
والتعاون على إعلاء كلمة الله ، وإظهار الدين ونشره وتقريبه إلى الناس – علماً وعملاً ودعوةً - من الجهاد في سبيل الله – تعالى – لما فيه من بذل الوقت والمال والجهد ، كما قال أبو الدرداء – رضي الله عنه - : " من رأى الغدو والرواح إلى العلم ليس بجهاد فقد نقص عقله ورأيه " (جامع بيان العلم وفضله ص/1/76) .
ونفع الخلق من الإحسان إليهم ، ولا يتم إلا بالتداعي والتناصر ، وذلك بسد حاجاتهم وتفريج كربهم ، وتخفييف آلامهم ، والسعي على إزلة ذلك أو تقليله ، كما جاء عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما -، قَالَ : قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - :" مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى " (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ) .
والله – تعالى – قد شرع التعاون بين أهل الإيمان ؛ لإشاعة الخير وتكثيره ، وإزهاق الباطل وتقليله ؛ وجعل ذلك من مقتضى إيمانهم ، فقال – سبحانه - : {وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة : 71].
وبالجملة فمصالح الدنيا والدين لا تنال إلا بالتعاون الجماعي الشرعي ، وهذا من مقتضى الفطر ؛ لأن الإنسان مدني بالطبع ، لا يعيش إلا في جماعة .
فالخلطة واللقاء ، من مقتضيات فطر الأسوياء ، إلا أنها تشتمل على مصالح ومفاسد ، وتنطوي على قبائح وفوائد ، والموفق من يُخلِّص مصالح الخلطة من مفاسدها ، ويجتنب قبائحها ، وينتقي فوائدها .
وتحرير ذلك على الإجمال في كلام ابن القيم – رحمه الله – حيث قال :
" الاجتماع بالإخوان قسمان :
أحدهما / اجتماع على مؤانسة الطبع و شغل الوقت ، فهذا مضرته أرجح من منفعته ، و أقل ما فيه أنه يفسد القلب و يضيّع الوقت .
الثاني / الاجتماع بهم على أسباب النجاة و التواصي بالحق و التواصي بالصبر ، فهذا من أعظم الغنيمة و أنفعها ، و لكن فيه ثلاث آفات :
1- إحداها : تزيّن بعضهم لبعض .
2- الثانية : الكلام ، والخلطة أكثر من الحاجة .
3- الثالثة : أن يصير ذلك شهوة ، وعادة ينقطع بها عن المقصود .
و بالجملة فالاجتماع ، والخلطة لَقاح : إما للنفس الأمارة ، و إما للقلب ، والنفس المطمئنة ، والنتيجة مستفادة من اللِّقاح : فمن طاب لَقاحه طابت ثمرته و هكذا الأرواح الطيبة لَقاحها من الملك ، و الخبيثة لَقاحها من الشيطان ، و قد جعل الله - سبحانه - بحكمته الطيبات للطيبين ، و الطيبين للطيبات ، و عكس ذلك " (الفوائد ص/ 51) .
وأما تفصيل حقوق الأخوة الإيمانية ، وبيان الخلطة النافعة المفضية إلى القيام بمصالح الدنيا والأخرة ، والمعينة على القيام بالواجبات الشرعية ، والفروض الكفائية . بل والعينية – أحياناً - ، فهو ما سنبينه في ثلاثة فصول نافعات – بإذن الله – تعالى - .
( يتبع إن شاء الله ) .
***