السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أدلة جواز النفث في الماء
ذهب السواد الاعظم من اهل العلم ، الى تجويز هذا الأمر وتعددت أدلتهم ، ومنها
الدليل الأول : ان الاصل في الرقية الجواز ، طالما انها خلت من الشرك ، وهذه صورة جائزة
الدليل الثاني : حديث ثابت بن قيس بن شماس
الدليل الثالث : ورود الادلة في جواز النفث على العموم وبغير تقييد
الدليل الرابع : جواز خلط الأدوية المباحة شرعاً
الدليل الأول : ان الاصل في الرقية الجواز ، طالما انها خلت من الشرك
وقد استدل هؤلاء بالاجماع الذي نقله الحافظ ابن حجر والسيوطي وغيرهم ، في أن الرقية جائزة طالما خلت من الشرك ، وان الرقية بالنفث في الماء هي داخلة ضمن الاصل الذي هو الجواز !
فقد قال الشيخ الفوزان في ( التوحيد ) :
« قال السيوطي : وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط : أن تكون بكلام الله أو بأسماء الله وصفاته. وأن تكون باللسان العربي وما يعرف معناه ، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها. بل بتقدير الله تعالى »
و قال الفوزان عقب نقله للاجماع : « وكيفيتها - أن يقرأ وينفث على المريض، أو يقرأ في ماء ويسقاه المريض »
وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة رقم ( 16951 ) : « وقد أجمع على جوازها المسلمون بثلاثة شروط : أن تكون الرقية بكلام الله تعالى أو كلام رسوله أو الأدعية ، و أن تكون بلسان عربي أو بما يعرف معناه في الأدعية والأذكار ، وأن يعتقد الراقي والمريض أن هذا سبب لا تأثير له إلا بتقدير الله سبحانه وتعالى ... وهي تكون بالقراءة والنفث على المريض ، سواء كان يرقي نفسه أو يرقيه غيره ، ومنها قراءة القرآن في الماء للمريض وشربه إياه ، كما في كتاب الطب من (سنن أبي داود) ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دخل على ثابت بن قيس، قال أحمد: وهو مريض.وان النبي نفث عليه بماء وصبه عليه »
وقد صدرت هذه الفتوى بتوقيع المشايخ : ابن باز ، والفوزان ، وبكر أبو زيد ، والغديان ، وعبد العزيز آل الشيخ !
وفي تحقيق فتح المجيد ، لما اعترض الشيخ حامد الفقي على مسألة القراءة على الماء ، رد عليه الامام ابن باز وبين أنه لم ترد أي مخالفة شرعية فيما قاله ابن أبي سليم ، وأن كلامه داخل تحت الأصول العامة ، فقال :
« ان اعتراض الشيخ حامد على ما ذكره الشارح عن ابن أبي سليم ووهب بن منبه وابن القيم ليس في محله ، بل هو غلط من الشيخ حامد ، لأن التداوي بالقرآن الكريم ، والسدر ، ونحوه من الأدوية المباحة ، ليس من باب البدع ، بل هو من باب التداوي »
والشاهد ، أن العلماء قد فهموا من الاجماع المنقول في تجويز الرقية الخالية من الشرك ، انه يفضي الى اباحة النفث في الماء بكيفيتها ، وانهم جعلوا ما ورد في حديث ثابت بن قيس ، انه مجرد مثال لما فهموه ، وليس مجرد دليل ، فتأمل
الدليل الثاني : حديث ثابت بن قيس بن شماس
وهو حديث تكلم فيه من تكلم ، وملحق بهذا المبحث عدة أمور تدل على تقويته والعمل به
الدليل الثالث : ورود الادلة في جواز النفث العادي
وقد بوب البخاري في صحيحه باب ( النفث في الرقية )
قال الشيخ عبد الرحمن الفقيه : « مجمل احاديث الباب ، تدل على جواز اطلاق النفث في الرقية على العموم ، هكذا أطلق البخاري عموم النفث ، فيجوز النفث في [ العموم ] ، سواء كان الشخص نفسه ، أو في ماء ، أو أي وسيط مباح »
وقال الشيخ أسامة عابد المالكي :« وكما أن بركة الرقية تنتقل بالنفث ، فدل ذلك على مبدأ جواز انتقال بركة الرقية لغيرها حتى لو حدث النفث في الماء »
وقال الامام محمد بن ابراهيم آل الشيخ : « النفث في الماء ثم يسقاه المريض ونحو ذلك ، فأقول وبالله التوفيق : إنه لا بأس بذلك فهو جائز ، بل قد صرح العلماء باستحبابه وبيان حكم هذه المسألة مدلول عليه بالنصوص النبوية ، وكلام محققي الأئمة »
قلت : واستدل الامام عقب كلامه هذا ، بتبويب البخاري في صحيحه بعنوان باب النفث في الرقية ! في إشارة منه إلى عموم المعنى كما فهم هذا البخاري
وقال الامام صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في الرقى واحكامها :« و المقصود من – تجويز الامام احمد للنفث في الماء - أن إيصال الماء هو إيصال للقراءة ! »
الدليل الرابع : جواز خلط الأدوية المباحة شرعاً
وهذا ما ذهب إليه الشيخ احمد المنسي في « حاشيته » على كتاب ( الصحيح المسند من الرقية الشرعية ) ، فقال [ ص 25 ] :
« قد وردت الاثار الصحيحة على جواز جمع أكثر من علاج في ابواب الرقية ، كما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الريق والتراب في الصحيحين في حديث (باسم الله تربة أرضنا بريقه بعضنا ليشفى به سقيمنا بإذن ربنا )
وكما جمع النبي بين استخدام الرقية ، والماء الممزوج بالملح في رقية اللديغ في حديث ( لعن الله العقرب ) ...
وقد ذكر ابن القيم في الزاد والطب النبوي ان وقوع خلط الادوية جائز ومن المباحات ، طلباً لزيادة التاثير وقوته
ومن هذا الباب أجاز بعض العلماء النفث والتعوذ في الماء وسقيه للمريض ، كما روي عن عائشة وسعيد بن المسيب ومجاهد من طرق صحيحة ، وذلك لأن النفث في اصله جائز كاحد طرق التداوي في الرقية ، ولأن الماء نفسه ورد استخدامه كعلاج في الرقية ، كما في الحديث المتفق عليه : ان الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء ، واحاديث اخرى صحيحة ..
فلطالما أن النفث في العموم جائز ، وان الماء ثبت استخدامه كشفاء ومداواة ، فما الذي يمنع من خلط علاجين مباحين - وهما النفث والماء - مع اثبات ان الشفاء لا يحدث الا بإذن الله ، هذا قطعاً لا شئ فيه »
وبعد ما ذكرناه ، فقد تبين للجميع أن هذا القول له وجاهته ، وحظه من النظر ، وفيه من الرد على من شنع استخدام تلك الطرق ، الكفاية ولله المنة والحمد
ملحق : الرد على من ضعف حديث ثابت بن قيس في الرقية
قد ذهب من ضعف الحديث ، الى عدة امور ، وهي : -
1 – جهالة يوسف بن محمد بن ثابت
2 – عدم ورود ذكر النفث في اغلب الروايات
3 – تعارض الوصل والارسال
ونقول والله المستعان
1 - اما عن جهالة يوسف بن محمد ، حفيد الصحابي الجليل ثابت بن قيس ، فلا تضر اطلاقاً لعدة وجوه
منها ان الامام ابي داود قد سكت على الحديث ، والاصل فيما سكت عنه أنه خارج اطار الوهن الشديد وحتى لو انه ضعيف فهو من جنس الضعيف المعمول به ، و كذلك : ذكره للحديث في مقدمة أحاديث صحيحة ، وكونه يصدر به الباب ! فهذا يدل على انه لم يكن واهماً حين أورده او انه اورده على تساهل منه ، بل انه قصد الاحتجاج به ورأى صحته ، لأنه ليس من منهجه تصدير الحديث الضعيف في المقدمة ... !
و على فرض ان ابي داود لم يعرفه ، وان الحديث كان زلة منه ...
فالامام النسائي – وهو معروف بالتعنت – قد أخرج الحديث ليوسف هذا ، و النسائي معروف بتعنته وتشدده ، فكيف يخرج لمجهول عنده ؟ بل انه لما أراد ان يعلل الحديث ، فإنه أعله بتعارض الوصل والارسال ، ولم يتطرق لجهالة يوسف بن محمد ، ولو كان ضعيفاً عنده لكان أولى ان يعلله بهذا ... !
وابن حبان ، أخرج للرجل في صحيحه ! ، ولم يقتصر توثيقه على قاعدته في الثقات ، بل احتج به في الصحيح ، والذي اخبر في مقدمته أنه لا يحتج الا برواية العدول المشهورين ... !
لا اقول بقبول توثيقات ابن حبان ، او النسائي ، او ابي داود على الانفراد ، لكن الشاهد أن كل هذه قرائن تثبت ان الرجل حديثه قابل للتحسين ، فإذا لم يسلم سكوت ابي داود عليه ، ضممنا الى ذلك سكوت النسائي عنه واحتجاج ابن حبان به ، فكل هذه قرائن تؤكد بعضها ، وتجعل الباحث يستبعد التواطؤ بين الائمة على التساهل في حال الرجل !
وثمة قرينة أخرى نذكرها في آخر هذا المبحث ألا وهي : ان الحديث من الصورة الاجتماعية ( رواية الابن عن ابيه ) ومثل تلك الصور ، صححها اهل العلم ، ولو كان في السند ضعف او انقطاع ، وسنذكر فيض من تلك القاعدة بعد قليل ، فإن علمت أن ذلك الحديث من الصور الاجتماعية التي تحمل التقوية الذاتية لها ، فلم التضعيف ؟
2 - وأما عن عدم ورود ذكر النفث في بعض الطرق ، فهذا لا يعني شذوذ المتن او نكارته ، بل هي زيادة لازمة القبول ، طالما أن المنفرد بها أحد الحفاظ المتقنين وهو أحمد بن صالح المصري
وزيادة الثقة التي هي محل شك ورد ، لا تكون إلا من الثقات المتكلم فيهم ، او زيادة المرجوح على من هو أرجح منه حفظاً وعدداً
وليس هذا الحديث منها ، بل هو من القاعدة التي سطرها الامامان ابو حاتم وابو زرعة الرازيان : « إذا زاد حافظ على حفظ قُبِلَ » ، وهذا مثل ما ذكره الامام ابن خزيمة حين قال : « لسنا ندفع أن تكون الزيادة في الأخبار مقبولة من الحفاظ ولكن إنما نقول : إذا تكافأت الرواة في الحفظ والإتقان والمعرفة بالأخبار فزاد حافظ متقن عالم بالأخبار كلمة قبلت زيادته »
والمنفرد هنا بزيادة النفث هو أحمد بن صالح ، و ما ادراك من هو أحمد بن صالح ؟
فقد قال عنه الامام الكجي في تاريخ القدس : « كان إماما ثقة ، أحفظ حفاظ الأثر ، و عالما بعلل الحديث بمصر »
وقال عنه ابن حبان : « كان أحمد بن صالح في الحديث وحفظه ومعرفة التاريخ وأنساب المحدثين عند أهل مصر كأحمد بن حنبل ! »
وقال عنه الذهبي : « الإِمَامُ الكَبِيْرُ، حَافِظُ زَمَانِهِ بِالدِّيَارِ المِصْرِيَّةِ »
وقال عنه السبكي : « الْحَافِظ أحد أَرْكَان الْعلم وجهابذة الْحفاظ »
وقال عنه الحافظ ابن حجر : « الثقة الحافظ ! »
فهل اذا انفرد مثل هذا الامام بزيادة ، نجعلها كزيادة المتكلم فيهم والمرجوحين حفظاً ؟
3 – وعن مسألة ان ابن جريج روى الحديث عن عمرو مرسلاً ، فالجواب أن جمهور من رواه عن عمرو قد رووه موصولاً ، وكما هو معلوم من ترجيح الموصول في مثل هذا الامر عند التعارض ، كما نص الشافعي وقال : ان العدد الكثير اولى بالحفظ من الواحد
قرائن أخرى تثبت صحة الحديث
الأمر الأول : تلقي العلماء للحديث بالقبول
وهذه قاعدة معروفة ..
- فإن قلت من أين لك هذا الاصل ( أي التقوية بتلقي العلماء بالقبول ؟ ) ، فنقول : ان هذا ما صرح به العلماء قولاً وفعلاً
قال ابن عبد البر في التمهيد عن حديث ( هو الطهور ماؤه ) : « هذا الحديث لا يحتج أهل الحديث بمثل إسناده وهو عندي صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول له والعمل به ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء »
و قال الشافعي : في حديث ( لا وصية لوارث ) :«لا يثبته أهل العلم بالحديث و لكن العامة تلقته بالقبول و عملوا به حتى جعلوه ناسخا لآية الوصية »
وقال الامام أبو إسحاق الإسفراييني :« تعرف صحة الحديث إذا اشتهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم »
وقال أبو الحسن ابن الحصار في تقريب المدارك :« قد يعلم الفقيه صحة الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة فيحمله ذلك على قبوله والعمل به »
وقال الزركشي : « الحديث الضعيف اذا تلقته الأمة بالقبول عمل به على الصحيح حتى أنه ينزل منزلة المتواتر في أنه ينسخ المقطوع »
و قال ابن الوزير : « و قد احتج العلماء على صحة أحاديث بتلقي الأمة لها بالقبول »
وقال السيوطي أيضاً : « و قد صرح غير واحد بأن من دليل صحة الحديث قول أهل العلم به ؛ و ان لم يكن له اسناد يعتمد على مثله »
وان قلت : من أين علمت ان العمل عند اهل العلم وفق هذا الحديث ؟
قلنا عدة امور : -
الاول : اخراج ابي داود للحديث ، ومن المعلوم أنه لا يخرج في سننه إلا ما عمل به اهل الفقه وتداولوه فيما بينهم
فقد قال في رسالته : مَا ذكرت فِي كتابي حَدِيثا أجمع النَّاس على تَركه !
ولهذا قال الامام الدهلوي في حجة الله البالغة : « وَكَانَت همته جمع الْأَحَادِيث الَّتِي اسْتدلَّ بهَا الْفُقَهَاء ، ودارت فيهم ، وَبنى عَلَيْهَا الْأَحْكَام عُلَمَاء الْأَمْصَار ، فصنف سنَنه ، وَترْجم على كل حدث بِمَا قد استنبط مِنْهُ عَالم ، وَذهب إِلَيْهِ ذَاهِب، وَلذَلِك صرح الْغَزالِيّ وَغَيره بِأَن كِتَابه كَاف للمجتهد »
الثاني : اتفاق المذاهب الاربعة على تجويز تلك الامور ، وقد تقدم ذلك في موضوع سابق
الثالث : الاجماع المنقول على ان الاصل في الرقية الجواز ، وفهم العلماء ان الحديث مجرد مثال لأصل جائز ، وتقدم ذكره ...
الامر الثاني : أن الحديث من رواية الصورة الاجتماعية ، وهي من قرائن تقوية الحديث ، وهذه قاعدة معروفة عند اهل العلم
قال الحافظ ابن حجر في النكت :-
« وقد حسن الترمذي عدة أحاديث من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه وهو لم يسمع منه عند الجمهور. وحديثاً من رواية أبي قلابة الجرمي عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - وقال بعده : لم يسمع أبو قلابة عن عائشة - رضي الله تعالى عنها !
ورأيت لأبي عبد الرحمن النسائي نحو ذلك، فإنه روى حديثا من رواية أبي عبيدة عن أبيه ، ثم قال: أبو عبيدة لم يسمع من أبيه إلا أن هذا الحديث جيد
وكذا قال - في حديث رواه من رواية عبد الجبار بن وائل بن حجر : عبد الجبار لم يسمع من أبيه لكن الحديث في نفسه جيد
إلى غير ذلك من الأمثلة ؛ وذلك مصير منهم إلى أن الصورة الاجتماعية لها تأثير في التقوية »
وبعد ما ذكرناه فقد استفضنا في ذكر ادلة من ذهب لهذا القول ، والحمد لله على فضله