قبل أيام كنتُ أقرأ خِلاف العُلماء حول حكم من صلَّى وقد سال دمه ، وميلُ كثيرٍ من المحقِّقين إلى صحة الصلاة والقول بطهارة دم الآدمي .
واستدلوا بأحاديث منها : حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشِّعب فقال : من يحرسنا الليلة؟ فقام رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فباتا بِفَم الشِّعب، فاقتسما الليلة للحراسة، وقام الأنصاري يُصلِّي، فجاء رجلٌ من العدو فرمى الأنصاري بسهم فأصابه فنزعه، واستمرَّ في صلاته، ثم رماه بثانٍ، فصنع كذلك، ثم رماه بثالث، فنزعه وركع وسجد، وقضى صلاته، ثم أيقظ رفيقه، فلما رأى ما به من الدِّماء قال له: لم لا أنبهتني أول ما رمى؟ قال: كنتُ في سورة فأحببتُ أن لا أقطعها .أخرجه أبو داود بإسناد حسن .
وكما في صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه صلَّى وجُرحه يثعب دماً .

قال الإمام النووي معلِّقا ً: وموضع الدلالة : أنه خرج منه دماء كثيرة، واستمر في الصلاة، ولو نقض الدم لما جاز بعده الركوع والسُّجود وإتمام الصلاة، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ولم يُنكره.فيكون إقرارا في زمن النبوة .
هناك قاعدة عند الأصولييِّن وهي أنه لا يُترك حكم متحقِّق لظنِّ كاذب . وقد أوردها ابن حزم ( ت: 456هـ) رحمه الله تعالى في كتابه ” المحلَّى ” رداً على من يُعمِّم القول بالتفطير بكل ما يُشتبه التفطير به ، فدائماً إذا وجد النص فلا تُترك دلالته بسبب أوهام وقرائن لا تثبت عند التحقيق .

هذه الأحاديث ألزمتني بالربط بينها وبين مسألة معاصرة يكثر السؤال عنها وهي مسألة الغسيل الكلوي ، والبروتوني تحديداً .

أولاً : من حيث التقعيد الفقهي فإن غَسل الكُلى أصلاً لا يُعدُّ ناقضاً من نواقض الوضوء لإعتبارات شرعية سأُنبِّه عليها أدناه . فخروج الدم لا يوجب الوضوء على القول الراجح ، وهذا من اختيارات الإمام ابن تيمية ( ت: 728هـ ) رحمه الله تعالى .

ثانيا ً: الغسيل الكُلوي غسيل دوائي ووقائي لإطالة عمل الكُلى التي تطرد السُّموم من البدن . فهو من الأسباب الشرعية التي يجب على المريض الأخذ بها للحفاظ على حياته ، ولتحصين بدنه من إنتقال عدوى المرض إلى بقية البدن .

فالغسيل الكُلوي نوعان : النوع الأول، وهو الغسيل الدموي، وهو مبنيُّ على خروج الدم من البدن ونقض الوضوء به، وقد تقرَّر أن خروج الدم من غير السبيلين لا ينتقض به الوضوء، وهو الصحيح، وبناءاً عليه فلا يعتبر هذا النوع من الغسيل ناقضاً للوضوء ، بدلالة مفهوم الحديث المتقدِّم .

النوع الثاني : هو الغسيل البروتوني، وهو يشبه خُروج البول من غير المخرج المعتاد، لأنه كما جاء في ضبط وصفه : عبارة عن أُنبوب يوضع في جوف بطن المريض، وهذا الأنبوب يُلصق تحت سُرَّة المريض ، ويُعطى المريض بعض السوائل والأدوية المهمة التي تساعد الجسم على التخلُّص من السموم والفضلات السائلة والأملاح الزائدة ، ثم بعد عِدة ساعات يقوم المريض بتفريغ هذا الأنبوب في كيس خارجي. ولا تؤثِّر هذه الطريقة على نشاط المريض في ممارسة مهامِّه اليومية .

ثالثا ً: من الناحية الشرعية فإن الغسيل البروتوني يشبه البول في الوظيفة تماماً ، فيأخذ حكم البول الخارج من مخرجٍ غير معتاد، وقد وقع الخلاف فيه ، لكن مذهب الأحناف والحنابلة نقض الوضوء بالبول والغائط الخارج من غير المخرج المعتاد مطلقاً ، وهو الصحيح ، فينتقض الوضوء بهذا النوع من الغسيل . لمنطوق قول الله تعالى : ” أو جاء أحدٌ مِنكم من الغائِطِ ” ( المائدة : 6 ) . وخروج البول من مخرجه أو غير مخرجه يُعدُّ حدثاً ، فيكون سبباً شرعياً للطهارة وناقضاً للوضوء ، ولا تُقبل الصلاة إلا بإزالة النجاسة للأدلة الواردة في وجوب الطهارة .

رابعاً : سبب الخلاف في مسألة الغسيل البروتوني – عند بعض فقهاء العصر – أنها تُخرَّج عند الفقهاء على قول ما إذا انسَّد المخرج الأصلي وفُتح مَخرج آخر غير معتادٍ ، فهل تأخذ حكم المخرج الأصلي وينتقض الوضوء بالخارج منه أم لا ؟
فهذه المسألة تنازع فيها أهل العلم فيها على أربعة أقوال :

القول الأول : إن كان الخارج دماً، فيفرَّق بين الكثير والقليل . أما إن كان الخارج بولاً أو غائطا فهو ينقض بكل حال ، قليله وكثيره، وهو المشهور من مذهب الحنابلة . وهو الراجح عندي .

القول الثاني : أنه إن كان الخارج من أسفل السُّرة، فهو ناقض مطلقاً، وإن لا فلا ينقض، وهو المشهور من مذهب الشافعية .
القول الثالث : النقض بكل حال، وهو مذهب الحنفية .رحم الله الجميع .

القول الرابع : أنه لا ينتقض الوضوء إلا بالخارج المعتاد من المخرج المعتاد، وهو المشهور من مذهب المالكية . وهذا القول ضعيف عندي ، لأنه لا يستوعب النوازل المعاصرة ، فلا يُعتدُّ به عند التحقيق.

وبناءاً عليه فالأحناف والحنابلة على نقض الوضوء بالبول والغائط الخارج من غير المخرج المعتاد مطلقاً، وعند الشافعية ينتقض بخروجه من تحت السُّرة، وعند المالكية لا ينقض إلا بخارجٍ معتاد من مخرج معتاد

خامسا ً: الصحيح الذي تبرأ به الذِّمة إن شاء الله تعالى :
أن الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء إلا إن كان بولاً أو غائطاً، كما هو مذهب الأحناف والحنابلة، لعموم النصوص الواردة في نقض الوضوء بالبول والغائط، أما ما سِّوى البول والغائط، فلا دليل على نقض الوضوء به، والأصل بقاء الطهارة . فلا يجوز للعامِّي أن يتردَّد بين الأدلة وقد ظهرت له دلالة الحكم واضحة جلية .

سادسا ً: الغسيل البروتوني شأنه شأن الغسيل الدموي في إفساده للصيام ، لأن المريض يُدخل إلى جوفه بعض الأدوية المسكِّنة والمغذِّية التي تشعر المريض بالراحة والعافية، فتكون كالغذاء الذي يُولِّد الشبع والماء الذي يرفع العطش، حتى وإن كان الإحساس بها بطيئاً في بدن المريض

سابعا ً: يجوز للمريض بالفشل الكلوي الجمع بين الصلاتين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، جمع تقديم أو جمع تأخير عند مباشرة الغسيل الدموي أو البروتوني خشية أداء العبادة حال المشقة .
وقد نبَّه ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى أن المصلِّي إذا عجز عن واجبٍ من واجبات الصلاة سقط عنه .

ثامناً : يجب على مريض الفشل الكلوي لا سِّيما من يباشر الغسيل البروتوني التنزُّه عن قطرات النجاسة التي قد تُصيب بدنه أو ملابسه حال الغسيل . وفي المرفوع : ” تنزَّهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه ” أخرجه الدارقطني بإسناد حسن

تاسعاً : يجوز لمريض الفشل الكُلوي الصلاة منفرداً إذا شق عليه مداومة الصلاة في المسجد . ولو صلَّى في بعض الأحيان في المسجد والبعض الآخر منفرداً، فهذا أفضل ليجمع بين الرخصة والعزيمة . وقد قال الله تعالى : ” فاتقوا الله ما استطعتم :” ( التغابن :16 ) .

عاشراً : يجوز لمريض الفشل الكلوي إستنابة من يشاء بأجرة في فرض الحج والعمرة إن لم يحج أو يعتمر ، وكان في فعله لهما مشقة وكُلفة . وهذه المسألة خلافية بين المعاصرين ،لكن الراجح الجواز .

وختاماً فإن مرض الفشل الكُلوي مِمَّا يُرجى برُؤه إذا عُولجت أسبابه ، سواء بطريقة الديلزة بنوعيها الدموية أو البروتونية أو بالزِّراعة .
وقد قيل قديماً درهم وقاية خير من قِنطار علاج . وحِفظ النفس مصلحة تأتي بعد حفظ الدِّين ، فلا يجوز التفريط فيها .
وقد يكون هذا المرض من تدبير الله لعبده لِحكم لطيفة قد تخفى على كثيرٍ من الناس
وقد قال ابن القيم (ت: 751هـ )رحمه الله تعالى : “لولا مِحنُ الدُّنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الِكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ، ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفَّقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حِميةً له من هذه الأدواء، وحِفظًا لصحة عبوديته، واستفراغًا للمواد الفاسدة الرديئة المُهلكة منه ، فسبحان من يرحم ببلائهِ ويبتلي بنعمائه “

وقد تقرر عند الأصولييِّن أن الله تعالى لا يفعل فعلاً في الوجود إلا لحكمة بالغة ، كما قال سبحانه : ” والنخل باسقاتٍ لها طلع نضيد رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً ميتاً ” ( ق : 10-11) . ويُقاس على هذا سائر الأمراض وأنواع البلاء .
نسأل الله السلامة والعافية لنا ولجميع المسلمين . وبالله التوفيق .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

1436/6/10هـ

http://ahmad-mosfer.com/1260